عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران نهاية سبعينيات القرن الماضي، تساءل أحد المسئولين المنفعلين في حكومة الولايات المتحدة باستنكار، قائلاً: “من منا يأخذ الدين مأخذ الجد؟”. فإلى ذلك الوقت، كان الكثيرون من أبناء الصفوة الثقافية والسياسية، في الغرب والشرق على حدٍّ سواء، يتفقون حول الحكمة السائدة التي كانت تقول بأن “الحداثة ستقضي لا محالة على الحيوية الدينية”. وقد بلغت الثقة بهيمنة العلمانية والأيديولوجيات المنبثقة عنها وقتئذٍ ذروتها، حتى أن مجلة “تايم” الأميركية نشرت في نيسان/أبريل عام 1966 موضوع غلاف، يطرح سؤالاً صارخاً: “هل مات الرّب؟”
لكن الوضع يبدو اليوم مختلفاً تماماً. فالمُقدّس يتبدّى في كل مكان حولنا، نراه يتوغل بمهارة ويتغلغل، إن لم يكن في اهتماماتنا العميقة، فعلى الأقل في عالمنا الأقرب. وجغرافية انتشار الدين والانبعاث الديني في زمننا الحاضر لا تكاد تستثني بعنفوانيتها بقعة من بقاع العالم، فحتى في أوروبا التي تعد معقل العلمانية الحديثة بدأ الدين يدُبُّ في أحشائها، وحدث التزام غير معهود بالتدين. وتشير الأرقام إلى أن النسبة بين من يرتادون الكنائس وبين أولئك الذين لا يفعلون قد بدأت تضيق في الدول البروتستانتية العريقة في تبنّي العلمانية، بالإضافة إلى فرنسا الكاثوليكية حيث أصبحت نسبة غير المتدينين 53% مقابل 47% هم المتدينون. ورغم التدني النسبي في عدد المتدينين لكنهم يتفوقون على نظرائهم من غير المتدينين من خلال تمتعهم بمزية مهمة، تتمثل في خصوبة الإنجاب التي تزيد عندهم بنسبة تتراوح بين 15% و20% مقارنةً بغير المتدينين. وعليه، فثمة من يتوقع أن يفوق عدد المتدينين المسيحيين في أوروبا في نهاية القرن الحالي عدد المتدينين في بداياته.
لقد برهن العالم الحديث بحق على أنه يتقبل المعتقد الديني بسخاء. وبعكس الاعتقاد الذي كان يسود معظم عقود القرن العشرين، تُثبِت مجتمعات القرن الحادي والعشرين في كل يوم يمرّ أنها مجتمعات اعتقادية بامتياز، والنتيجة: طفرة غير مسبوقة في الحيوية الدينية أخذت تشمل كل أرجاء الكوكب. فمن ناحية، أخذ المؤمنون – سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين (كاثوليك وبروتستانت) أو الهندوس – في التزايد بشكل مضطرد. فإذا كان المنتمون إلى هذه المجموعات الدينية الأربع يشكلون بالكاد نصف سكان العالم في مطلع القرن الفائت، إلا أنهم في بداية القرن الحالي يشكلون ما نسبته 65% من سكان المعمورة، وقد تصل هذه النسبة إلى 70% تقريباً بحلول عام 2025.
ومن ناحية ثانية، بقدر ما تعكس هذه العودة العالمية إلى الدين، الأهمية التي ينطوي عليها المعتقد الديني بوصفه شبكة خلاص فردي وجماعي، فإنها – ومن خلال اتكاءها على التداخل الحاصل عن حركية الأفراد وتواصل الثقافات في ظل العولمة، التي يسرت عرض الأديان والعقائد في سوق ديني ممتاز، واقعي وافتراضي في آن – تُبيّن بجلاء أن زخم العودة للمقدس وتمظهراتها هذه ليست مقصورة على دين من الأديان أو على رقعة جغرافية محددة من الأرض، ومن ثمّ فإن تضميناتها – سلبية كانت أم إيجابية – ستكون عالمية بالمثل. فعلى سبيل التدليل، لم يكن المسلمون متفردين في إظهار استيائهم وغضبهم من الطريقة المهينة التي صوّر بها الرسول محمد (ص) في الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت – وتكرر نشرها – خلال السنوات القليلة الماضية في الصحف الدنماركية والأوروبية الأخرى، فبالمثل أبدى المسيحيون الهنود مؤخراً غضبهم من رسم كاريكاتوري ظهر به السيد المسيح، وهو يحمل في إحدى يديه زجاجة خمر وفى اليد الأخرى سيجارة مشتعلة، بأحد الكتب الخاصة بتعليم الحروف الأبجدية بالمدارس الابتدائية الهندية، وسرعان ما تحوّل الغضب إلى موجة عنف وأعمال شغب ومواجهات دامية بين المسيحيين والهندوس.
ومن ناحية ثالثة، تعمل ظاهرة صعود الدين والانبعاث الديني على إعادة تشكيل السياسة في دول مختلفة من العالم ودمغها بطابع أكثر محافظة، لاسيما في البلدان التي تتمتع بهامش معقول في مجال الديمقراطية والحرية السياسية. وهكذا أصبحت الحركات الدينية المسيسة تملأ المجال العام، وتفوز في سباقات سياسية رئيسية. وتجيء هذه الحركات في أشكال مختلفة للغاية وتوظف أدوات متباينة إلى حد كبير. ولكن، سواء أكانت ساحة المعركة الانتخابات الديمقراطية أو الصراع الأكثر أولية من أجل كسب الرأي العام العالمي، تصبح الجماعات الدينية أكثر قدرة على المنافسة بصورة متزايدة. وفي السباق تلو السباق، عندما تمنح الشعوب الخيار بين القدسي والعلماني، ينتصر الدين (لاحظوا: فوز حركة حماس في فلسطين، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، والأحزاب الدينية في عراق ما بعد صدام).
ومن ناحية رابعة، ينبثق عن مظاهر العودة إلى الدين – كما لاحظ البعض بدقة – بيان مغاير للسياسة الدولية. ويبدو هذا البيان ذو الطابع الديني، أول ما يبدو، في اللغة والاستدلال، حيث يستعاض عن الإشارة الصريحة إلى المصلحة القومية وإلى مقتضيات التعايش السلمي بين الدول، بخطابٍ أخلاقي. وهكذا ينتقل العمل الدولي من الواقعية إلى المُطلق، إذ لم يعد يستند إلى مجرد الاتفاق والمناسبة، وإنما إلى الإحالة لقيمٍ لا تصمد للمناقشة أو للتسوية. وهكذا يصبح البيان الديني مكوناً لتناقض ظاهري: فهو جمعي في جوهره، ويرجع إلى تنوع وتنافس الأديان العالمية، ولكنه يدّعي، بحكم تعريفه، شرعية مطلقة ومانعة لكل ما عداها. ولاشك أن عملية “إضفاء صفة الشيطان” على العدو ليست خاصة يتفرد بها البيان وحده، غير أنها تتسم بأهمية بارزة وتؤدي بصفة خاصة إلى تنظيم جديد للمعايير. ويشير إلى ذلك بوضوح بالغ مثال احتلال السفارة الأميركية في طهران، عقب اندلاع الثورة الإسلامية، فقد أصبحت محاربة “الشيطان الأكبر”، بحكم التعريف، صورة أسمى من احترام اتفاقية فيينا بشأن الحصانات الدبلوماسية.
ومن نفس المنطلق، فإن الصراع العربي – الإسرائيلي يظهر أن البيان الديني لحقوق دولة إسرائيل ينتج مجموعة من الفرضيات تقلل أيضاً ما يبدو قابلاً للتفاوض داخل هذا الصراع ذاته: سواء فيما يخص ما يسمى “الحقوق التاريخية” للشعب اليهودي على يهودا والسامرة، أو رفض التسوية بشأن وضع القدس أو طبيعة إنشاء دولة إسرائيل، ونشهد تحول القاموس القانوني إلى قاموس ديني، ومن ثمّ تحول نظام الاتفاق الحرّ إلى نظام المبدأ المقدس، والنسق البشري إلى النسق فوق الطبيعي. ويكشف تشابك الخطاب الإسلامي في قلب الشعب الفلسطيني، وكأنه أرجع الصدى عن الراديكالية المنبثقة عن هذا الانزلاق في النبرة. السلطة الفلسطينية (ومن خلفها منظمة التحرير)، بقدر ما هي مقبولة كمحاور من جانب المجتمع الدولي، تحافظ بصعوبة متزايدة على تمسكها بهويتها القومية والعلمانية، وعليها أن تتصدى لطغيان حركة منافسة، ذات هوية إسلامية، تعيد صياغة القضية الفلسطينية من قضية قومية إلى قضية دينية، وتحولها إلى نزاع يتم استبعاده من أي مجال تفاوضي.
هكذا إذن تبدو عودة الدين إحدى حقائق عصرنا الذي كان يظن أن العلمانية – كمنظومة إنسانية، ونهج حياتي، وخيار سياسي – قد عززت مواقعها فيه، وأضحت من ثمّ محل إجماع بين النخب السياسية والمثقفة في أرجاء شتى من العالم، والمفارقة أن هذه العودة قد أخذت زخمها من خلال عبورها من بوابة العلمانية والحداثة وعبر منافذ الحريات التي تكفلها هذه الأُطُر بالذات، وهذا الأمر يشير إلى البراجماتية الكامنة في معظم الحركات الدينية، والتي عادةً ما كانت ترفض في البداية أدوات الحداثة ومخرجاتها، لكنها سرعان ما أدركت أنها لن تنتصر، ولن يُقيض لها الفوز في نهاية المطاف، سوى باستخدام هذه الأدوات المُعصرَنة مطيّة لانبعاثها وانتشارها العالمي أفقياً ورأسياً، والعمل تالياً على الالتفاف على الحداثة والعلمانية والبدء بتقوي