بعد قرابة خمس سنوات من تاريخ اندلاع ثورات الحرية في دول شمال افريقيا والمشرق العربي والتي اصطلح عليها أيضا بثورات الربيع العربي أو بالحراك الديمقراطي، وهي كلها تسميات جائزة لوصف حالة التحول السياسي في المنطقة تيمنا بثورات الربيع الأوروبي أو بربيع براغ، بعد هذه المدة الوجيزة سيتبين لنا بقليل من التحليل والملاحظة أن الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية في دول الربيع كارثية وللدقة الأكاديمية فهي تعيش أدنى مستوياتها، ما يجعلها تتربع في المراتب الأولى من تقرير الدول الفاشلة الذي تصدره “مجلة السياسة الخارجية” الأمريكية و”صندوق السلام”، وفي المراتب الأخيرة من تقرير مؤشر حرية الإنسان الذي يصدره “معهد كاتو” و”معهد فريزر” و”فريديريش نومان”. لكن ونحن نتابع حالة الكارثة أو التدني هذه، يبرز في الأفق ضوء خافت بدأت معالمه تتبين مع مرور الزمن، إنه ضوء ثورة الياسمين، فلقد اعتبر تقرير “فريدم هاوس” لسنة 2015 تونس الدولة العربية الحرة الوحيدة.
وجَدت النخب العربية التقليدية ضالتها في حالة عدم الاستقرار الذي تعيشه جل بلدان الربيع، الذي وحسب زعمهم تحول إلى خريف مظلم وكاحل، فلقد ربطوا فشل هذه الثورات بضعف الأيديولوجيا السياسية للمحتجين وبغياب القيادات والزعامات التاريخية وبغياب رؤية إستراتيجية تراعي قدرات القيادات الوطنية على تدبير الموازنات الاقتصادية والمصالح الإقليمية لدول الجوار. وقد تحمِل هذه الشروط بعضا من الصحة وكثيرا من الخطأ وسوء تقييم التحولات السياسية التي تعيشها البلدان العربية. كما وجد أصحاب الأيديولوجيات الشوفينية العربية خصوصا الجذريون منهم في ثورات الربيع العربي، ملاذا جديدا لحلم قديم وهو إيمانهم بأن الأنظمة العربية لا يمكن دحضها إلا بثورات مسلحة أو بانقلابات سياسية وفي أسوء الأحوال بتدخل خارجي. تعدُّد المقاربات هذه اتجاه ظاهرة “الثورة العربية” إن صح اعتبارها ظاهرة بما تحمله الكلمة من حمولات ابستمولوجية، بين اعتبارها حدثا جذريا وليد لحظته وخالي من أية حمولة أيديولوجية وبين اعتبارها حدثا تراكميا نتج عن صيرورة من النضج المجتمعي والوعي الفكري والسياسي لجيل جديد تشبع بقيم الحداثة ومؤمن بالحرية والديمقراطية مدخلا للحكم المدني المؤسساتي، ستحدد لاحقا طبيعة الانتقال الديمقراطي الذي سيجري تبنيه أو إتباعه في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ففي سوريا ، التي تعيش الوجه الصلب من الثورة الديمقراطية التي انطلقت سلمية يحدوها الأمل ومليئة بالغناء والرقص الشعبي وعفوية الحشود الشعبية التي تنفسَّت الصعداء، تحولت إلى بحر من الدماء بسبب صدامية النظام السياسي وتدخّل قوى إقليمية تاريخية لها مصالح مع بقاء نظام الأسد. لقد تحوَّلت سوريا إلى ساحة معركة عالمية تحارب فيها القوى العالمية والإقليمية بعضها بعضا، وتسخر لذلك السلاح والتمويل اللازمين لقلب المعادلات ورسم قسمات المستقبل السياسي ليس فقط في سوريا بل في المنطقة بأكملها. إن شرط إنهاء هذه الحرب القذرة إذن مرهون بالضغط على القوى العالمية من أجل التسوية السياسية ووقف دعم الحركات المسلحة وسحب قواتها العسكرية من الأراضي السورية والمجاورة لها، ثم توفير الظروف الملائمة لتشكيل حكومة انتقالية توافقية تكون مهمتها جمع شتات القيادات الديمقراطية الوطنية وإعادة تنظيم المؤسسات وبدء الحوار الوطني لتشكيل دستور جديد شفاف وديمقراطي. نفس الأوضاع تعيشها كل من العراق واليمن وليبيا مع تفاوتات في درجة التدخلات الإقليمية وفي درجة صلابة الثورة وفي درجة عنف الأنظمة الحاكمة. لقد تمَّ تدجين النعرات الطائفية والدينية في العراق وعرقلت هذه العملية مسيرة تشكيل النظام المؤسساتي الجديد، كما تمكنَّت الأنظمة العميقة في كل من اليمن وليبيا ومصر من تشتيت حلم الثورات السلمية وذلك باللجوء إلى ورقة الانقلابات العسكرية كحل جذري لإرباك كل التوازنات ولجر حلفاء الأمس إلى دعمها بكل الطرق والوسائل. أما الجماعات الدينية المسلحة التي تنمو كالفطر في معظم بلدان الربيع العربي، فما هي إلا مافيات مدفوعة الثمن تلعب بها الأنظمة العميقة وحلفائها كما تلعب بها أيضا أنظمة الأقطاب المضادة في عملية كر وفر مفضوحة ستنتهي لا محالة بانتهاء حالة التغول الشديدة للقوى العالمية التي تدعمها وتغدق عليها بالسلاح والمال. لكن هل تمَّت مؤشرات توحي بانفراج الأوضاع في جل بلدان الثورات الربيعية ؟
نعم بالتأكيد ، هنالك مؤشرات واضحة وأخرى خفية تؤكد أن الثورات المضادة لن تصمُد أمام قوة الإرادة السلمية للشعوب التي باتت تؤمن بأن الحرية اَتية لا محالة، لكن بكثير من التضحية والنضال وهذه هي القوة التي دحضت قوة السلاح عبر تاريخ صمود الشعوب المضطهدة نحو التحرير والحرية. إن أول مؤشر يمكن قراءته بعمق شديد هو تكبُّد النظام العميق في مصر لضربة موجعة إثر تسجيل نسب ضعيفة جدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي الضربة التي ستنضاف إلى ضعف الاقتصاد الوطني وإلى انقلاب الصحافة وفضائح القضاء وتربع مصر في أواخر التقارير العالمية حول التنمية والحرية وحَوكمة المؤسسات وغيرها من التقارير. والمؤشر الثاني الذي يمكن اعتماده لدراسة مستقبل الحرية في البلدان العربية بعد الربيع الديمقراطي هو مؤشر نجاح الثورة و الانتقال الديمقراطي في تونس بعد مسلسل عسير من المفاوضات وكثير من الضغوطات والتهديدات، فكيف يمكن قراءة نجاح ثورة الياسمين وكيف يمكن اعتمادها كنموذج للتحول السياسي المنشود في الأقطار المغاربية والعربية؟
لقد تمَّت ثورة الياسمين بقليل من الأضرار وسلكت مسارا متدرجا نحو بناء الدولة الديمقراطية المؤسساتية، ومن شواهد هذا المسار أنها كانت سلمية وتميزت بحياد مؤسسة الجيش وتم بناء دستور توافقي جديد انبثقت عنه انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة وتمَّ انتهاج ديمقراطية تشاركية وهي الطريق الأقل خطرا في بداية أي تحول سياسي نتَج عن ثورة شعبية. إن نجاح مسار الديمقراطية التوافقية في تونس ساهمت فيه مجموعة من العوامل الموضوعية، أولها وجود قوة مدنية فعالة وواعية بإكراهات التحولات السياسية خصوصا في السياق العربي، وثانيها نضج القوى الأيديولوجية واستحضارها لأفق الاختلافات السياسية الضيقة وعدم جدوائية الصراع الأيديولوجي في مراحل التوافق السياسي، وثالثها عقلانية التيار الإسلامي الذي وصل للحكم في نسخته الأولى بانتخابات نزيهة وهي الظاهرة الأكثر إثارة في تاريخ حركات الإسلام السياسي، والتي تستوجب الاعتماد بها ودراستها خصوصا لفك لغز الدين والديمقراطية الذي عشش في الأوطان العربية و أفشل عددا من المشاريع السياسية في العالم العربي. إن هذه العوامل مجتمعة هي التي وقفت في وجه عودة النظام القديم رغم أن العديد من المحللين اعتبروا انتخاب القائد السبسي هو إطاحة بالحكومة الإسلامية المنتخبة ديمقراطيا وعودة للنظام القديم للحكم، لكن الثورة في تونس وضعت الركائز الأساسية للديمقراطية المؤسساتية ومنها دستور ديمقراطي يضمن عدم تغول أي سلطة جديدة. لقد برهنت القوى الوطنية التونسية على أنها واعية بإكراهات المرحلة وهي تتوحد في شكل حوار الرباعي الوطني، الذي فك أحد معوقات إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي في مرحلة حاسمة من تاريخ تونس إبان الاحتقان الإيديولوجي بين مختلف المكونات السياسية. إن حصول الرباعي الوطني على جائزة نوبل للسلام لهو أحد المؤشرات القوية على تحول الظاهرة التونسية إلى معيار ديمقراطي لنجاح ثورة شعبية سلمية في العالم المغاربي والعربي، وهو أيضا مؤشر على نضج الطاقات المدنية والسياسية المغاربية وقبلها المجتمعية وتشبعها بقيم الحرية والديمقراطية حلا وحيدا للحكم المدني الرشيد.
إن تجربة حكم الإسلاميين في دول الربيع العربي والتي اختلفت من دولة لأخرى، تعطينا مؤشرا آخرا على قدرة حركات الإسلام السياسي تدبير الاختلاف الحاصل بين معتقداتها ومشاريعها الفكرية وبين متطلبات السياسة الحديثة التي تشبَّع بها جيل جديد من الطبقة الوسطى المتعلمة والمرتكزة على قيم الحرية والديمقراطية الليبرالية. إن لهذه الحركات قدرة كبيرة على نهج سياسة براغماتية وعقلنة برامجها السياسية وعلمنة قيمها الدينية وانتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية. لقد نضجت هذه الحركات السياسية واستفادت من تجارب الماضي ومن نماذج إقليمية استطاعت أن تحقق طفرة اقتصادية وحضارية لافتة، نذكر هنا نموذج تركيا وماليزيا. لكن طبعا تضطَّر هذه الحركات في كثير من الأحيان لهذا النهج من أجل إنجاح تجربتها بأي ثمن، وطبعا هذا الثمن هو التحديث القسري للأحكام الدينية والتخلي عن مبادئ مقدسة على حساب أخرى مدنية حديثة وتبني سياسة ليبرالية، لتنشيط الاقتصاد الوطني كاَلية لجعل الحياة الاجتماعية مريحة ولطمأنة المواطنين والقوى الأجنبية التي تتحكم في الاقتصاديات الوطنية بطرق متعددة. إن جدل الدين والديمقراطية يمكن أن نقاربه من خلال تجربة الإسلاميين في حكم عدد من الحكومات، كتجربة حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية المغربية، وقبلها عدد من التجارب الإقليمية لكي نؤسس لنموذج سياسي عربي جديد يمكنه أن يتشبع بقيم الديمقراطية الليبرالية من داخل الدين نفسه وذلك عبر علمنة الوعي الديني ودمقرطة الممارسة السياسية، وبذلك نتجاوز الممارسة الديمقراطية الدستورية الصورية التي غالبا ما تُقولب قيم الحرية والديمقراطية. لقد كانت لحركات الإصلاح الديني المسيحية – يخبرنا ماكس فيبر- دور كبير في انطلاق الفكر الليبرالي الذي ساهم في تحرير المجتمعات المنغلقة وانفتاحها على قيم الحرية والحقوق الطبيعية وقيم الملكية الخاصة، مما ساهم في إحداث الثورة العلمية الحديثة. إن إشكالية الدين في العالم العربي مازال يُستثمر من قبل الإستشراقية المؤدلجة والأيديولوجيات الشوفينية للقول إن الدين في العالم العربي يعتبر معرقلا لأية نهضة حضارية منشودة، وهو كذلك عندما يتحول إلى فاشية منغلقة على نفسها ولا يستطيع علمنة وعيه وتحديث قيمه.
ستنتصر الحرية لا محالة، وسترسم الشعوب الربيعية مسارا جديدا لبناء دول عربية ومغاربية حديثة وكل المؤشرات تدل على أن الأوضاع السياسية الحالية لن تستمر في حالة التأزم التي تعيشها، فالشعوب تشبعت بما فيه الكفاية بقيم الثورة المعلوماتية الحديثة وما تحمله من قيم الحداثة والديمقراطية ما يجعل من الاستحالة التعايش مع الاستبداد مجددا لأنه بكل بساطة تجاوزه التاريخ. لكن تمَّت مجموعة من التحديات والمعيقات الداخلية والخارجية التي ستعيق مسار استنبات الحرية والديمقراطية الليبرالية، ومنها ضعف الوعي بضرورة الاصطفاف المدني والسياسي من أجل تقوية الجبهة الداخلية لإنجاح الانتقال الديمقراطي التوافقي، ثم خطر تدخل القوى الإقليمية لحساسية المصالح الإقليمية ولخوفها من القوى الصاعدة الجديدة. ستنجح الحرية لأن حركة التاريخ ليست دائمة مستقيمة ومترابطة، فكما أن الدول الحرة تعيشه في أوج رفاهها وتتعرض في لحظة من اللحظات لانتكاسات تاريخية، فإنه بالمقابل تنجح ثورات الحرية كلما تظافرت كل الجهود النضالية والفكرية والمجتمعية وكلما كانت التربة الثقافية مشبعة بقيم الحرية والحداثة.
مصطفى ايت خرواش
*كاتب من المغرب
منبر الحرية، 6 مارس/آذار 2016
(Visited 46 times, 6 visits today)