ذهب ابن منظور
إلى أن الصورة هي الظاهر، أو الهيئة، أو الصفة، مبينا ذلك بقول لابن
الأثير" الصورة
ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى
صفته يقال:
صورة الفعل كذا و كذا، أي هيئته وصورة الأمر كذا وكذا، أي صفته"
(1)،
" وتصورت الشيء توهمت صورته فتصور لي، والتصاوير التماثيل "
(2) أما المفهوم الاصطلاحي
للصورة
فوجدناه على ضربين : الأول قديم شائع متداول بين جل الدارسين و البلاغيين،
أما
الثاني مستحدث أشار إليه بعض الباحثين المحدثين فالتصور القديم للصورة يقف
عند
حدودها المجازية المعروفة، فيحصرها في:التشبيه والمجاز و الكناية، أما
التصور
الحديث فقد تجاوز هذا الحصر و التقنين ووسع من مجال الصورة فأصبحت تضم كل
كلام فيه
تصوير ينشط معه خيال المتلقي، سواء أكان ذلك بالاستعمال البياني للغة، أو
بالاستعمال العادي لها كالوصف و الشرح....
و من بين الذين تنبهوا لشساعة
نطاق
الصورة و شموليتها، الدكتور علي البطل إذ قال"إذا كان المفهوم القديم قد
حصر الصورة
على التشبيه،
والاستعارة، فإن المفهوم
الحديث يوسع
من إطارها، فلم تعد الصورة البلاغية هي و حدها المقصودة بالمصطلح، بل قـد
تخلوا(كذا)الصورة- بالمعنى الحديث – من المجاز أصلا فتكون عبارات حقيقية
الاستعمال،
ومع ذلك فهي تشكل صورة دالة على خيال خصب "
(3) كما كان للدكتور
مصطفى ناصف رأيا مشابها يصب في هذا المعنى تجلى في قوله " تستعمل الصورة –
عادة –
للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال
الاستعاري
للكلمات ...."
(4) و قد ذكر الباحث
محمد حسين عبد الله قولا للناقد المعاصر س.داي لويس الذي حاول أن يحيط
بأشكال
الصورة الممكنة في قوله" إنها صورة رسمت بكلمات و ربما تحدث الصورة من وصف،
و
استعارة و تشبيه، أو تقدم إلينا في تعبير أو فقرة هي حسب الظواهر و صفية
خالصة
للوصف، و لكنها توصل إلى خيالنا شيئا هو أكثر من مجرد الانعكاس الدقيق
للواقع
الخارجي"
(5) إن هذا الطرح
الجديد للصورة جعل منها مجالا واسعا يشمل كل تعبير فيه تصوير و حياة، و
حركة ينشط
معها الخيال، و تتأثر بها النفس، فالصورة من هذا المنطلق تصبح " بناء فنيا
متكاملا تقوم
الاستعارات بدور
جزئي في تشكيله، و لكنه لا يقتصر عليها وحدها...."
(6) كما قد تخلوا الصورة
تماما من الاستعمال المجازي، إلا أنها تشكل بناء لغويا تصويريا ينشط معه
الخيال كما
ينشط رفقة الصورة المجازية.
و يعد عنصر
الخيال عنصرا أساسيا هاما في بناء الصورة و تشكيلها، و في تلقيها كذلك، و
مصطلح
الخيال في ثقافتنا العربية لا يمثل المقابل الحقيقي لما يعنيه(الخيال)؛ إذ
أنه يقصد
به الشكل، و الهيئة، و الظل، " و لكن ثمة مادة لغوية هامة هي" التخييل "،
وتلك هي
التي يمكن أن نعدها بمثابة المقابل الدقيق لكلمة
(Imagination)
التي تدل على عملية التأليف بين الصور، و إعادة تشكيلها وكلمة" التخييل "
ترادف
لغويا" التوهم " و"التمثل " "
(7).
لقد عرفت اللغة
العربية ظاهرة التصوير منذ القدم، و ذلك بظهور فنون القول
من نثر، و شعر، إلا أنها ظهرت ظهورا بارزا في فن الشعر بخاصة، وذلك لهيمنته
في تلك
الحقبة الزمنية المتقدمة من حياة العرب، فكانت القصيدة العربية عبارة عن
صور
متتالية يحلق معها المتلقي تحليقا فنيا رائعا، حتى أصبحت تسمى القصيدة
الجيدة
بالصورة.
إن المبدع يعيش في هذا
الكون مثل غيره من البشر، لكنه ينظر، و يحس ويفكر
بطريقة مختلفة تجعله متفردا في إدراكه، متميزا بقوله، و تلك منة الله عز
وجل عليه؛
إذ مكنه من رؤية الحياة بشساعتها، و الربط بين الأشياء علـى كثرتـها
وتباينها، و تصويـر
المعنى و
تمثيله تمثيلا دقيقا مؤثرا.
و ميدان التصوير ميدان
يتبارى
فيه كبار البلغاء، و المبدعين، و به تتفاوت قدراتهم و مكانتهم، فكل
المبدعين يطمحون
إلى امتلاك قدرات ذهنية، و لغوية تمكنهم من تمثيل المعاني التي يودون
إيصالها إلى
خيال، و قلب المتلقي، تمثيلا مطابقا يجمع بين الدقة التعبيرية و المتعة
الفنية، لأن
البلاغة تكمن في القدرة على المطابقة بين الجانب اللفظي المثيل والجانب
المعنوي
الأصيل، وهي نسبية غير تامة في الأعمال الإبداعية البشرية.
و باعتماد المبدعين
على التصوير فإنهم يضمنون شد انتباه القارئ و استمالته
لأن لغتهم لغة منزاحة عن المألوف، و لغة ينشط معها الخيال، و يحلق، كما أن
الإنسان
ميال بطبعه إلى معرفة المجهول، و رفع الغموض
"...ويتم ذلك كله خلال نوع من
الاستدلال ينشط معه ذهن المتلقي، و يشعر إزاءه بنوع من الفضول يدفعه إلى
تأمل
علاقات المشابهة، أوالتناسب التي تقوم عليها الصورة، حتى يصل إلى معناها
الأصلي
السابق الوجود..."
(8).
و بهذا يكون التصوير و
سيلة إبلاغية تغني التجربة الإبداعية، و تفتح النص
على آفاق دلالية واسعة، كما لها القدرة على مطابقة المعنى، و التأثير في
المتلقي
فهي تستعمل "...
للوصول إلى
الإقناع و الإمتاع و التأثير..."
(9).
و إذا كان العرب قد
عرفوا التصوير في فنون لغتهم منذ فترة مبكرة جدا، فقد عرفوه ثانية في النص
القرآني
الخالد، لكنهم أدركوا أن التصوير في القرآن الكريم جاء تصويرا متفردا
معجزا، و إن
كان من جنس لغتهم، فصور القرآن الكريم معان كثيرة منها ما نعرفه، و نعايشه
في
حياتنا، و منها ما
هو في علم الغيب، و
الآخرة
فعايشناها وشاهدناها؛ لأن التصوير القرآني تصوير مطابق للمعاني مطابقة تامة
لا
زيادة فيه، و لا نقصان، و ذاك هو الإعجاز القرآني.
و من الدارسين المحدثين الذين
تنبهوا
لظاهرة التصوير في القرآن الكريم سيد قطب الذي أفرد له كتابا خاصا أسماه
"التصوير
الفني في القرآن الكريم"، كما أن كتبه الإعجازية الأخرى لا تخلوا من حديثه
عن
التصوير.
لقد ذهب سيد قطب
إلى أن التصوير ظاهرة لغوية تميزت بها اللغة العربية عامة واللغة القرآنية
بخاصة،
فالتصوير في نظر سيد قطب أجمل طرائق التعبير وأفضلها في الفن، و الدين
مبينا سر ذلك
في قوله "ويكفي لبيان هذا الفضل...أن نتصور المعاني في صورتها الذهنية
التجريدية، و
أن نتصورها بعد ذلك في صورتها التصويرية التشخيصية..."
(10).،
فجمال
التصوير في نظر سيد قطب يظهر إذا ما عقدنا مقارنة بين المعنى الذهني
الحقيقي
المباشر، وبين تصوير
هذا المعنى وتشخيصه،
إذ إن
المعنى الأول يصل ذهن المتلقي جافا باردا، وقد لا يحدث أثرا أما
المعنى الثاني المصور
فإنه
يخاطب ذهن المتلقي، و خياله، ووجدانه، فيصل به إلى درجة الإقناع و الإمتاع
معا " إن
المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي وتصل إليهما مجردة من ظلالها
الجميلة، وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان، و يصل إلى النفس عن
طريق
الحواس، و من الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء، و يكون الذهن منفذا من
منافذها
الكثيرة في النفس لا منفذها المفرد الوحيد "
(11) .
لقد تنبه سيد قطب إلى اعتماد
القرآن
الكريم على طريقة التصوير اعتمادا بارزا يلفت النظر، و يستوقف الباحث، إذ
به عالج
قضايا عديدة، و طرح معاني كثيرة "... فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن
المعنى
الذهني، و الحالة النفسية والحادث المحسوس و المشهد المنظور، و عن النموذج
الإنساني، و الطبيعة البشرية..."
(12) ، لذلك عد سيد قطب
التصوير أداة
مفضلة في الأسلوب القرآني وقاعدة أساسية، يعبر بها حيثما شاء أن يعبر"و ليس
هو حلية
أسلوب (التصوير) ولا لفتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر، و خطة موحدة،
و
خصيصة شاملة وطريقة
معينة،
يفتن في استخدامها بطرائق شتى، و في أوضاع مختلفة..."
(13).
و قد أشار سيد قطب إلى أن
التصوير في
القرآن الكريم يقـوم علـى قاعدتيـن أساسيتين هما: التخييل الحسي، و
التجسيم، فبهما
أصبحت المناظر حية، و المشاهد تهيـج بالحركة و الحياة، فالأسلوب القرآني
يرسم
الصورة " ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة
المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، و إذا الحالة النفسية لوحة أو
مشهد، و
إذا النموذج الإنساني شاخص حي.... فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل
عناصر
التخييل..."
(14) وإذا ما تتبعنا حديث سيد قطب
عن
التصوير في القرآن الكريم، و تفحصنا النماذج القرآنية التي ارتكز عليها في
حديثه
هذا، إننا سنجده حديثا يتسم بالشمول والتوسع؛ إذ إنه لم ينظر للتصوير نظرة
محدودة،
مقننة، بل عد كلا من الأسلوب الوصفي (استعمال عادي للغة) و الأسلوب المجازي
(الاستعمال غير العادي للغة) قمة في التصوير، و غاية الإعجاز لذلك كان
القرآن
الكريم كله مثاله على ذلك وحقل بحثه و دراسته.
أولا- أسلوب
التصوير الوصفي : لقد كان سيد قطب ذا فهم واسع
للتصوير؛ إذ أنه لم يحصره في الاستعمالات البيانية المحضة، بل عد الكثير من
التراكيب، و الآيات القرآنية التي يهيمن عليها الوصف و السرد، و الحوار قمة
في
التصوير ، و هي التراكيب التي رسمت صورا ناطقـة حيـة تماثل صورا حقيقية
معلومة، أو
غيبة، و حققت درجة المطابقة التامة بينهما، كما لها هي الأخرى سحرها و
تأثيرها على
خيال المتلقي و اعتقاده.
و قد أبرز سيد قطب هذا الضرب
من
التصوير، و كشف عنه في الكثير من المواضع نحو: مواضع الجدل، و المنطق، و
الدعوة
إلى الله سبحانه و تعالى ومواضع وصف النعيم، و العذاب الماديين، ووصف بعض
النماذج
الإنسانية والحوادث الواقعة والأمثال المضروبة، و القصص المروية ، أما
المعاني
الذهنية والحالات النفسية فقد قل فيها هذا التصوير و برز فيها تصوير من نوع
آخر.
1-الجدل و
المنطق التصويري : لقد دعا الله سبحانه و تعالى
في بعض
السور و الآيات القرآنية إلى التوحيد والتمسك بالعقيدة الإسلامية السمحة،
فكان
أسلوب الوصف هو السائد، و المهيمن مما يجعلنا نتوهم أن الخطاب خطاب مباشر
تقريري،
إلا أن الحقيقة عكس ذلك فالأسلوب القرآني في الدعوة إلى العقيدة أسلوب
تصويري،
يخاطب الذهن والوجدان معا، و هذا راجع إلى طبيعة العقيدة الإسلامية نفسها
التي لا
تهتم بجانب على حساب آخر، إنما تجمع بين مخاطبة العقل، و النفس بغية صناعة
مسلم
متزن، لذلك كان التصوير هو الأداة الناجعة، و القادرة على تحقيق الغايتين
معا "
كانت وظيفة القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة، و موطن
العقيدة
الخالدة هو الضمير والوجدان– موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها– و
أقرب الطرق
إلى الضمير هو البداهة، و أقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس، وما الذهن في
هذا المجال
إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة "
(15) .
و أمثلة سيد قطب على
ذلك قوله
تعالى "
تَبَارَكَ
الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا
تَرَى فِي
خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ
فُطُورٍ
(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خَاسِئًا
وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ
السَّعِيرِ
(5) "
(16) ،
فالآية الأولى من هذه السورة (
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هي المفتاح، و المحور الذي تدور حوله كل
الآيات ؛
إذ أنها جاءت معظمة لله سبحانه و تعالى، مؤكدة على تحكمه في زمام الملك،
وعلى قدرته
الخارقة، لذلك جاءت الآيات التالية لها واصفة، و مبرهنة على قدرة الله
سبحانه و
تعالى، فإذا ما تلا الإنسان هذه الآيات بهدوء، و تملي و جد نفسه أمام لوحة
كونية،
ربانية، متقنة الصنع، يتتبعها خياله خطوة خطوة... فهذه السموات السبع
المتراصة فوق
بعضها البعض.... و هذه السماء الفسيحة المزينة بالنجوم المنيرة.... فيخيل
له أنه
يشاهد صورة مرسومة، لا حقائق مادية مألوفة، فهي
"لوحة منسقة يوجه إليها
البصر، لينقل
البصر ما يراه إلى النفس، ليقع في النفس ما يقع من الأثر لتؤمن بقدرة الله،
الذي
خلق سبع سماوات طباقا، و هي لوحـة معروضة كل حين، و لكنك تقرأ هذه الآيات
فتلتفت
إليها كأنما تعرض أول مرة في هذا الوجود..."
(17).
فقد استطاعت هذه
الآيات القرآنية بتصويرها هذا أن تلفت نظرنا التائه في شعاب الدنيا إلى
عظمة، و
براعة هذا الخلق، وأن تولد فينا إيمانا، و يقينا راسخا لا تشوبه شائبة.
2-مشاهد القيامة
و صور النعيم و العذاب الماديين: إن مشاهد القيامة وما فيها من
أهوال
من أكثر المشاهد ورودا في القرآن الكريم، إذ تضمنتها معظم السور، فصورت هي
كذلك
الحقائق تصويرا شاخصا حيا يجعلنا نعيش في هذه الحياة الثانية قبل مجيئها
"فلم يعد
ذلك العالم الآخر الذي و جده الناس بعد هذا العالم الحاضر موصوفا فحسب ، بل
عاد
مصورا محسوسا ، و حيا متحركا، و بارزا شاخصا، وعاش المسلمون في هذا العالم
عيشة
كاملة، رأوا مشاهده، وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرت جلودهم
تارة. "
(18) ، و لكثرة ورود هذه المشاهد في القرآن الكريم خصها سيد قطب
بمؤلف كامل
سماه "مشاهد القيامة في القرآن "، ليبرزها فيه ، و يبرز من خلالها قدرة
التعابير
القرآنية التصويرية على رسم هذه المشاهد ، و إحيائها .
مشهد من مشاهد
القيامة يقول فيه سبحانه و تعالى
"
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
خُشَّعًا
أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُنْتَشِرٌ (7)
مُهْطِعِيـنَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
(8)
"(19)
إنه يوم الحشر ،
يوم
ينادي المنادي فيلبي الكل هذا النداء، الذي يدعوهم إلى شيء لا يدرونه، خشعا
أبصارهم، يخرجون في لحظة واحدة كخروج الجراد المنتشر، و إننا لنتخيل صورة
الجراد
الكثيف و هو ينطلق انطلاقة واحدة في اتجاه واحد – فكذلك هؤلاء الناس يخرجون
منتشرين
متجهين نحو الداعي في إسراع، وخشوع ، أما الكافرون فهم يدركون أن هذا
اليوم يوم
عسر، فهذا مشهد مختصر " سريع ولكنه شاخص متحرك مكتمل السمات و الحركات "
(20) صور المعنى بدقة متناهية، و براعة تصويريةجعلتنا ندرك هول هذا اليوم العسر،
و نتأثر
لما ينتظرنا فيه" و إن السامعين ليتخيلون اليوم النكر، فإذا الهول الحي
الذي يؤثر
في نفس كل حي"
(21) .
أما صور النعيم و العذاب فقد
عرضها
القرآن الكريم بأسلوب تصويري وصفي له من الدقة و المطابقة ما لا يخفى ، إذ
استطاع
تمثيل مشاهد غيبية أخروية بتعابير لفظية حية تجعلها ماثلة أمامنا، كأنها
مشاهد
تنظر، لا ألفاظ تقرأ .
و من النعيم الأخروي المادي
ما ذكره
في قوله تعالى"
هَذَا
ذِكْرٌ
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِيـنَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً
لَهُمُ
الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ
وَشَرَابٍ(51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ(52) هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَـابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ
مِنْ
نَفَادٍ (54) "
(22) فهذه الآيات جاءت لتبيان جزاء عباد الله المتقين، هذا الجزاء، وهذا النعيم
الذي لم
نره بعد، إلا أن هذه الآيات رسمته لنا رسما دقيقا مماثلا لتلك الحقائق،
ووصفت فيه
كل صغيرة وكبيرة فكانت صورا حية، ناطقة تثير في النفس مشاعر التمني و
الشوق... لأنه
نعيم مادي، مرئي، رسمته هذه المشاهد المتتابعة: فهذه هي الجنات تتفتح
للمتقين..وهاهم يدخلونها، فيتكئون فيها براحة و اطمئنان، محاطين بفاكهة
كثيرة
وشراب، إضافة إلى قاصرات الطرف أتراب، و زيادة على كل هذا فهو نعيم باق،
مستمر لا
ينفذ...إنها صور شاخصة حية لنعيم عظيم"وهو نعيم تتمتع به البطون، والأجسام
وتتلذذه
الجوارح و الأبدان"
(23)،
إنه نعيم يستشعره القارئ فيحياه ويتمناه.
أما تصوير العذاب المادي نذكر
منه
قوله سبحانه و تعالى "
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
"
(24) فجاءت
هذه الآية الكريمة واصفة لهول العذاب المستمر المكرر، المسلط على الذين
كفروا
بالله، لكن هذا الوصف لـم يـرد تقريريا، مباشرا إنما عرض المعنى في صورة
مثيرة،
مطابقة له، يشاهدها الخيال وتنفعل بها النفس في خوف، و جزع، إنها صورة
مرئية، حية،
تصف حالة الكفار الذين يزجون في نار جهنـم فيذوقوا مرارة العذاب، وأي عذاب،
إنه
عذاب لا نهاية له، و لا خلاص؛ تحرق جلودهم إلى أن تنضج، و كلما نضجت بدلت
بجلود
أخرى ليبقى عذابهم مستمرا مكررا " إنه مشهد لا يكاد ينتهي، مشهد شاخص متكرر
يشخص له
الخيال، و لا ينصرف عنه إنه الهول ، وللهول جاذبية آسرة قاهرة والسياق يرسم
ذلك
المشهد ويكرره بلفظ واحد .... ( كلما ) و يرسمه كذلك عنيفا مفزعا بشطر جملة
(
كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ )
...ويرسمه عجيبا خارقا للمألوف بتكملة الجملة .... (
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)
ويحمل الهول الرهيب المفزع
العنيف في
جملة شرطية واحدة لا تزيد"
(25).
إنه الإعجاز
القرآني التصويري الذي يرسم صورة كاملة ناطقة، حية، معبرة عن معناه تعبيرا
مطابقا
لا نزيد فيه ولا ننقص .
3-تصوير بعض
النماذج الإنسانية : لقد صور القرآن الكريم نماذج
إنسانية
كثيرة، موجودة، و متكررة في كل الأزمان فوصفها بتعابير لغوية، تصور المعنى
المراد
بيانه و تطابقه"حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص، والسمات أنه يرى
ذواتا
بعينها، تدب في الأرض، و تتحرك بين الناس .
(26). ومنها النموذج
الإنساني
المنافق الذي ظاهـره يغري، و باطنه يؤذي ، والذي قدمه القرآن الكريم في
صورة حية،
متحركة في قوله تعالى
"
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَـامِ(204) وَإِذَا
تَوَلَّـىسَعَى فِي
الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ (205) " (27)
فبهذه الصورة
الوصفية رسم
القرآن هذا النموذج الإنساني، صاحب الوجهين " ويبرز المفارقة بين الظاهر، و
الباطن
في صورة متحركة في النفس و الخيال
(28) .
نموذج آخر كثير
التكرار في بني الإنسان، و هو الذي لا يعرف ربه إلا في الضيق و الحرج ،أما
إذا ما
جاء الفرج، و زال الحرج، فإنه ينسى ربه ، هذا النموذج قد ذكره القرآن
الكريم لا
بهذه الصورة الذهنية المباشرة، بل رسم له مشهدا كاملا يهيج بالحركة، و
الاضطراب، ثم
الاستقرار، الذي يستقر معه هذا المعنى في نفوسنا استقرارا مكينا في قوله
تعالى "
هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِمْ
بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ
الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا
اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنَ
الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُـمْ تَعْمَلُونَ (23)
"
(29) "
و هكذا
تحيى الصورة و تتحرك، و تموج وتضطرب ،و ترتفع الأمواج مع تماوج السفينة
وتنخفض ثم
تِؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد أبلغ أداء و أوفاه "
(30) ، فبهذا
بين سيـد قطب طريقة القرآن الكريم الفذة في إظهار هذه النماذج الإنسانية، و
عرضها
بتراكيب لغوية تصويرية، متحركة تشد خيال القارئ وتلهب نفسه، ووجدانه،
ليتراءى له في
نهاية العرض ذلك المعنى المراد مطابقته وتحقيقه، فكانت أروع طريقة و
أبلغها.
4- تصوير الحوادث
الواقعة : لقد سرد لنا التاريخ
حوادث ووقائع عديدة، عرفها المسلمون منذ بدء الدعوة
المحمدية، إلا أن عرض القرآن الكريم لها كان عرضا مختلفا، و إن كان يتناول
نفس
الأحداث و الواقعات؛ لأنه صورها تصويرا حيا ناطقا، ينقلنا به إلى مسارحها و
ساحاتها
لنعيشها لحظة لحظة، و نتتبعها خطوة خطوة، فنصر مرة لانتصار ونحزن مرة
لانكسار، حتى
ينزل الستار عليها فنزيل نظرنا عنها.
و الملاحظ على تصوير
القرآن الكريم للحوادث الواقعة إتباع أسلوب الوصف
والسرد المصور، باستثناء بعض الاستعمالات الاستعارية، التي تظهر من حين إلى
حين .
و أمثلة سيد قطب
القرآنية التي صورت حوادث واقعة، كثيرة نذكر منها قوله
تعالى
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ
بَصِيرًا (9)إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ
زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ
الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا
شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ
طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَـامَ لَكـُمْ فَارْجِعُوا
وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا
هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)" (31)
" و هذا المقطع من
سورة
الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في الدعوة الإسلامية، و في
تاريخ
الجماعة المسلمة، و يصف موقفا من مواقف الامتحان العسيرة، و هو غزوة
الأحزاب..و من
تدبر هذا النص القرآني، و طريقة عرضه للحادث، و أسلوبه في الوصف، و التعقيب
ووقوفه
أمام بعض المشاهد، والحوادث ... من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه
الأمة
بالأحداث، و القرآن في آن "
(32) ،
هذا مشهد كامل يصور حادثة
وقعت
للمؤمنين، رصد كل صغيرة وكبيرة ، جاعلا منها صورا ناطقة متحركة، تبرز كل
منها
حقيقة ما، و تساهم في بناء المشهد المفزع، إنه مشهد الهزيمة، و مشهد
الاضطراب، و
الذل، و الهوان، والتخـاذل " فأية حركـة نفسـية أوحسية من حركات الهزيمة، و
أية سمة
ظاهرة، أو مظهر من سمات الموقف لم يبرزها هذا الشريط الدقيق المتحرك،
المساوق في
حركته لحركة الموقف كله"
(33) .. فهاهم المؤمنون يغشاهم، و
يغطيهم العدو
من كل جهة
(إِذْ
جَاءُوكُمْ
مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) فزاغت أبصارهم، و تمكن الخوف منهم حتى قفزت قلوبهم إلى حناجرهم، فاضطربوا
واهتز
إيمانهم، و بدأت الظنون تتسرب إليهم(
وَإِذْ
زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِـرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ
الظُّنُونَا)، حتى
أنهم
زلزلوا زلزلة شديدة (
هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، و كما هي عادة الابتلاء والفتنة-التمحيص و الاختبار- بدأ المنافقون
ينبعثون
بالفتنة، و التخاذل (
مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)...
و ها هم الضعاف يقولون(
إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ) و ما
هي بالعورة في الواقع... "
وهكذا لا تفلت في الموقف حركة، و لا سمة، إلا و هي مسجلة ظاهرة كأنها شاخصة
حاضرة...تلك حادثة، وقعت بالفعل، و لكن صورتها ترسم "الهزيمة" مطلقة من كل
ملابسة
...أما الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان، حيثما التقى جمعان، و تعرض
أحدهما
للخذلان"
(34)، فقد رسمت هذه الصورة القرآنية هذه الحادثة رسما
حيا فيه
الحركة، و فيه الاضطراب، رسما شكل لنا مشهدا عديد الأشواط، ترتفع معه
الأنفاس، و
تنخفض، فطابق هذا العرض التصويري المعاني،و الحالات النفسية التي سادت
الحادثة
بكلمات وتعابيرلغوية، لا ألواح فنيـة
5-تصوير الأمثال
القصصية : وردت أمثال كثيرة في القرآن
الكريم
بغية ترسيخ المعاني في أعماق النفس وإثارة العواطف، و المشاعر، فكانت هي
الأخرى
ضربا من التصوير، منها قوله تعالى "
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنَابٍ
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا
وَفَجَّرْنَا
خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)"(35)
فهذا مثل
ورد في
القرآن الكريم، تم فيه عرض نموذجين من الرجال، فأحدهما لديه جنة غاية في
الفخامة والنماء
..و هذا هو المشهد الأول
، أما المشهد الثاني تمثل
في قوله
" وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا
أَكْثَرُ
مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)" (36) "و يبدو أنه قال هذا وهما في
الطريق
إلىالجنتين أو هما على الباب"
(37) إذ جاء بعدها
"وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا
أَظُنُّ
أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
وَلَئِنْ
رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) (38)
، إن هذا الرجل
الذي
أعطاه الله سبحانه و تعالى هذه الجنان، و من عليه بالخير الكثير، أصبح
زاهيا،
متعاليا، متغطرسا، متمردا، و جاحدا للذي أعطاه كل هذا، فهاهو ذا يتعالى على
صاحبه
الفقير ، و يزهو عليه بما لديه، لكن صاحبه هـذا المؤمن لا تغريه الدنيا،
ولا تنسيه
النعم ربه الديان، فراح يوقد صاحبه من الغفلة فيذكره بمنشئه الصغير الحقير"
قَالَ
لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ
تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي
وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ مَا
شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ
مِنْكَ
مَالًا وَوَلَدًا(39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
جَنَّتِكَ
وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا
زَلَقًا
(40)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41)"(39)
وهكذايبـرز
نموذجين إثنين من الرجال، الأول منتفش متكبر والثاني مؤمن موقن بالله معتز
بالإيمان، يدعوا صاحبه و يذكره، لكن هذا الأخير لا تنفعه الذكرى، حتى يجد
نفسه يقلب
كفيه"
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا
أَنْفَقَ
فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا(42)"(40)
.
فبهذا المثل المطول
رسم التعبير القرآني نموذجين بشريين رسما واضحا، تبرز من خلاله معان ثلاث؛(
معنى
الضياع و الدمار بعد التعالي و التمرد ) ، ( و معنى وجوب الشكر والحمد على
النعم )
،(و معنى الشكر و الرضا حتى لو لم تهب لنا النعم الرغيدة) .
6-تصوير القصص
الحقيقية : لقد سرد لنا القرآن الكريم
قصصا
حقيقية، و قعت للأنبياء و الأقـوام الذيـن سبقونا، لكن سردها هذا لم يكن
عرضا
تقريريا للأحداث ،واقعيا، مباشرا ، بل جعلنا القرآن الكريم أمام قصصا
حقيقية حية
متحركة تثير النفس، و تنشط الخيال، و كأنها وقائع تحدث أمام أعيننا لا قصصا
ماضية
نقرأها بألسنتنا، و ذلك مثل قوله تعالى
"وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)"
(41)،
فهذه قصة حقيقية
قصة
سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام لكنها لم تعد هنا قصة تروى، بل
جاءت
صورة حية ترى، فيها الحركة، و فيها الرفع
"وَإِذْ
يَرْفَعُ" فتجعلنا
نتخيل
مشهد البناء والتشيد، كما أن هناك حركة، و نقلة عجيبة من الإخبار إلى
الدعاء "و هي
أحيت المشهد و ردته حاضرا، فالخبر"
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ"
كان كأنما هو الإشارة برفع الستار ليظهر المشهد : البيت ، و إبراهيم ، و
إسماعيل
يدعوان هذا الدعاء الطويل "
(42) إن هذا الرفع، وهذا الانتقال،
و هذا
الإعجاز ليندثر لو قيل : " و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل
يقولان :
ربنا..." إنها في هذه الصورة حكاية، وفي الصورة القرآنية حياة، و هذا هو
الفارق
الكبير، إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة، و سر الحركة كله في حذف لفظة
واحدة
... و ذاك هو الإعجاز"
(43) .
فبهذه النماذج و
غيرها بين سيد قطب قدرة القرآن الكريم المتفردة و المعجزة على مطابقة
المعاني
مطابقة تامة بتمثيلها، و تصويرها تصويرا دقيقا، يحرك الخيال و يثير
الانفعال و يصل
بالمتلقي إلى درجة الاقتناع و الامتثال، و مما يزيد هذا التصوير القرآني
إعجازا و
بلاغة و براعة هو أنه تصوير بلغة عادية غير منزاحة.
2- أسلوب
التصوير البياني : لقد تنافس جهابذة الشعراء، و
البلغاء
العرب على و صول أعلى مراتب البلاغة والبراعة، و الإصابة، فتفننوا في
استعمال اللغة
العربية على أوجه عديدة وضروب مختلفة، مما جعل هذه اللغة على قدر كبير من
الغناء، و
الثراء، والاتساع و قد عـزز القرآن الكريم هذه الأساليب البيانية
المختلفة،
فاتخذها وسيلة لعرض المعاني،مستعملا إياها استعمالا فاق اللغة البشرية
وأعجزها،
فبلغ منته البلاغة.
إن تعدد هذه الأساليب
البيانية في
اللسان العربي عامة، و النص القرآني بخاصة حفز وشجع علماء العرب على الخوض
في هذا
الميدان من اللغة، و محاولة التقنين والتقعيد، فأسسوا علما أسموه -علم
البيان- .
و علم البيان علم منبثق من
علم
البلاغة العام، وهو الذي يهتم و يبحث في الأساليب البيانية التي وردت في
كلام
العرب، و كلام الله عز و جل، و هي كما أجملها جل البلاغيين:التشبيه،
والمجاز، و
الكناية" وأن علم البيان حاصله إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح
الدلالة
عليه كالاستعارة و الكناية والتشبيـه وغيرهما "
(44). لقد خاض البلاغيون القدامى في
هذا
الضرب من البلاغة، فتناولوه تناولا موسعا ومتشعبا، اتفقوا في و جوه، كما
أنهم
اختلفوا في و جوه أخرى، و نذكر بعض المؤلفات التي بحثت في علم البيان على
سبيل
التمثيل لا الحصر : مؤلفا "أسرار البلاغة " و "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر
الجرجاني
(ت471ه) و مؤلف "مفتاح العلوم " للسكاكي (ت626ه) ومؤلف" الأقصى القريب في
علم
البيان" للتنوخي (ت692 ه) و مؤلف "الطراز" للعلوي، و غيرها من المؤلفات
البلاغية.
إن و جوه البيان من مجاز و
تشبيه و
كناية، هي كما و صفها عبد القاهر الجرجاني عمد الإعجاز، و أركانه، و
الأقطاب التي
تدور البلاغة عليها " ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها، و
جعلها
العمد و الأركان فيما يوجب الفضل والمزية، وخصوصا الاستعارة و الإيجاز،
فإنك تراهم
يجعلونها عنوان ما يذكرون، و أول ما يريدون ...."
(45) و قد أثبت البلاغيون المزية و
الفضل
لهذه الأركان و الأقطاب باعتبارها أبلغ من الحقيقة، و المباشرة ، لأنها
لإصابة
المعنى أدق و أقرب، و في النفس أحلى وأوقع، فقال الإمام عبد القاهر
الجرجاني عن
الاستعارة "... و هي أمد ميدانا و أشد افتنانا، و أكثر جريانا، و أعجب حسنا
و
إحسانا، و أوسع سعة و أبعـد غـورا....
نعم و أسحر سحرا
وأملأ بكر ما يملأ صدرا، و يمتع عقلا، و يؤنس نفسا و يوفر أنسا...و هي أجل
من أن
تأتي الصفة على حقيقة حالها،وتستوفي جملة جمالها"
(46). و ذهب الإمام العلوي إلى أن
للتشبيه
ثلاث مزايا، و هي: البلاغة فيما قصد به من التشبيه على جميع و جوهه، و
الإيجاز و
الاختصار في اللفظ، و البيان والإيضاح فقال عن هذه المزية الأخيرة "و هذه
أيضا هي
فائدة التشبيه الكبرى، فإنه يخرج المبهم إلى الإيضاح، و المتلبس إلى البيان
و يكسوه
حلة الظهور بعد خفائه وبروزه بعد استتاره"
(47) أما الكناية فقال عنها
العلوي" اعلم
أن أنس النفوس، و سكونها متوقف على إخراجها من غامض إلى و واضح، و من خفي
إلى جلي،
وإبانتها بصريح بعد مكنى، وأن تردها في شيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي
بشأنه أعلم،
و ثقتها به أقوى، و تحققها له أدخل، و من ثم كان التمثيل بالأمور المشاهدة و
لمادة
الشبه أقطع...."
(48) و بهذا تكون ضروب البيان من
تشبيه، و
استعارة، و كناية السبيل إلى البلاغة والمعول عليه في الإصابة ، و الإفادة،
فهي
التي لها القدرة على مطابقة المعنى بتمثيله وتصويره، و على التأثير في
المتلقي بشده
و إشراكه.
لقد كان هذا مقتضب
وجوه البيان و مزيتها، فما هو حظ سيد قطب منها ؟ وما هي الوجوه التي وقف
عندها
لإثبات التصوير القرآني.
بعد تتبعنا و
تفحصنا للنماذج القرآنية التي اتكأ عليها سيد قطب بغية إبراز وإثبات ظاهرة
التصوير
للقرآن الكريم، فإننا نخلص إلى جملة من الملاحظات :
لقد اعتمد سيد قطب
في حديثه عن التصوير الفني في القرآن الكريم على التراكيب القرآنية
المشتملة على
التشبيه، والاستعارة بصورة بارزة ثم تأتي بعدهما الكناية، أما المجاز
بنوعيه
(المرسل و العقلي) فلم يحفل به حديث سيد قطب. كما كانت معظم الصور التي
ذكرها سيد
قطب صورا مركبة لا مفردة، و هي ما يعرف في البلاغة بالتمثيل.
و قد برز كذلك من خلال تصنيف
سيد قطب
للأغراض، و المعاني المعبر عنها بالتصوير في القرآن الكريم أن هذا الضرب من
التصوير
مستعمل بشكل بارز في التعبير عن المعاني الذهنية، و الحالات النفسية، و
النماذج
الإنسانية، أما الأغراض الباقية (الحوادث الواقعة ، القصص ، الجدل.. ) فكان
التصوير
الوصفي هو أداتها المفضلة.
وتجدر بنا الإشارة في هذا
المقام إلى
أن تعامل سيد قطب مع الصور البيانية القرآنية لم يكن تعاملا تشريحيا، يجزئ
الصورة و
يبين أطرافها، بل كان همه ووجهته إظهار قوة التصوير
و التمثيل، و الإحياء،
و
تحقيق المعنى ومطابقته و الأثر الناتج من كل هذا في نفس المتلقي، لذلك لم
نجده
مصنفا للصور إلى تشبيهات واستعارات.. بل عرضها جملة واحدة لأنها تحقق كلها
الغرض
الذي كان يصبو
إليه.
1-المماثلة
بالتشبيه: التشبيه هو جنس من أجناس
البيان
الأكثر انتشارا، و شيوعا، و هو القاعدة التي تتفرع منها باقي الأجناس" اعلم
أن
التشبيه هو بحر البلاغة، و أبو عذريتها وسرها ولباسها، و إنسان مقلتها.... "
(49) و التشبيه في اصطلاح
البلاغيين هو
الجمع بين أمرين في معنى ما، و قد تعددت تعريفاتهم إلا أنها كلها تصب في
هذا المعنى
فقال فيه الخطيب القزويني"التشبيه لدلالـة على مشاركة أمر لآخر في معنى..."
(50)،
أما العلوي فعرفه بقوله " هو الجمع بين الشيئين أو الأشياء بمعنى، بواسطة
الكاف و
نحوها "
(51)و بهذا يكون للتشبيه أربعة
أركان
هي:المشبه، و المشبه به، و أداة التشبيه، ووجه الشبه. كما له أنواع مختلفة،
فهو
باعتبار أداته: مرسلا و مؤكدا، و باعتبار وجه شبهه: تمثيل وغير تمثيل، مفصل
و مجمل،
قريب و بعيد، و يوجد التشبيه المقلوب و التشبيه الضمني و البليغ.
و إذا ما عدنا إلى التشبيهات
عند سيد
قطب ، فإننا نجدها تشبيهـات مركبـة وهي ما أسماه عبد القاهر الجرجاني
بالتشبيه
التمثيلي، و التشبيه التمثيلي هو ما كان فيه وجه الشبه صورة منتزعة من
أشياء عدة، و
هو الذي يجعل من المعاني ماثلة ظاهرة حية أمام أعيننا.
1-1-تصوير المعاني الذهنية : صور القرآن الكريم
العديد من المعاني الذهنية، فعبر عنها بالتشبيه،فأخرجها
في صورة حسية كقوله تعالى
" يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى كَالَّذِييُنْفِقُ مَالَهُ
رِئَاءَ
النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ(264)"(52).
يريد الله
سبحانه و تعالى أن يبين لنا بهذه الآيات أن الصدقة التي تبدل
رياء، لا لمرضاة الله، و التي يتبعها المن و الأذى، فهي لا تثمر شيئا، و لا
تبقى، و
ليس لها عند الله سبحانه و تعالى وزن، و لا قيمة، لكن التعبير القرآني لم
يعرض لنا
هذا المعنى الذهني عرضا تجريديا تقريريا، بل مثله بصورة الحجر الصلب، الذي
تغطيه
طبقة من التراب والتي توهم الناظر أنه خصب، لكنه إذا ما جاء المطر انكشف
أمره، و
أصبح صلدا ، إن هذا التصوير يشد أذهان القراء "ويدعهم يتملون هيئة الحجر
الصلب
المستوي غطته طبقة خفيفة من التراب، فظنت فيه الخصوبة، فإذا وابل من المطر
يصيبه،
فبدلا من أن يهيئه للخصب، و النماء
كما
هي
شيمة الأرض حين تجودها السماء إذا به- كما هو المنظور- يتركه صلدا وتذهب
تلك الطبقة
الخفيفة التي كانت تستره، وتخيل فيه الخير والخصوبة"
(53)فبهذا
التصوير
القرآني نعرف حال هذه الصدقة المخرجة رياء،كما نعرف جزاءها ومآلها.
1-2-تصوير
الحالات النفسية : أما الحالات النفسية
التي صورها التعبير القرآني بالتشبيه كثيرة، نأخذ منها
قوله تعالى "
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ
اللَّهِ
مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ
إِذْ
هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرَانَ
لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) "
(54) هذه حالة الذي يشرك
بالله بعد التوحيد، فيصبح حيران موزع القلب بين الإله الواحد والآلهة
المتعددة،
فهده الحالة النفسية مثلها القرآن الكريم بصورة الذي تستهويه الشياطين في
الأرض "
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد، و
من
يتوزع قلبه بين الإله الواحد و الآلهة المتعددة من العبيد، و يتفرق إحساسه
بين
الهدى، و الضلال فيذهب في التيه .... إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس (الذي
استهوته
الشياطين في الأرض) .... و ياليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه فيكون له
اتجاه
صاحب القصد الموحد.... و لكن هناك من الجانب الآخر أصحاب مهتدون يدعونه إلى
الهدى
وينادونه –إئتنا- و هو بين هـذا الاستهواء وهذا الدعاء حيران لا يدري أين
يتجه...."
(55) فبهذه الصورة الحية وصف القرآن الكريم الحالة النفسية التي
تنتاب
من يشرك بالله بعد التوحيد، فطابق هذا التمثيل هذه الحالة الموصوفة مطابقة
تامة "
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك حتى ليكاد يحس و يلمس من خلال التعبير "
(56).
1-3-تصوير
النماذج الإنسانية : و من النماذج
الإنسانية المصورة قوله تعالى
"
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آَمَنُوا
لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا
الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
" (57)إن النموذج
الإنساني المعروض في هذه الآية هو نموذج المنافقين الذين يتلقون خبر نزول
سورة
محكمة، تدعوا إلى الجهاد فإذا بهم "... يفقدون تماسكهم، و يسقط عنهم ستار
الرياء
الذي يتسترون به، و ينكشف جزعهم و ضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف،
فيبدون في
حالة تزري الرجال ...."
(58)، فهذه الحالة، و هذه الأوصاف
المتعددة، قد
عبر عنها التعبير القرآني بتمثيل فريد، دقيق، فبدت به الصورة و كأنها
معروضة
للأنظار، إنها صورة المريض المغشي عليه"وهو تعبير لا تمكن محاكاتـه
و لا ترجمته إلى أي
عبارة أخرى، و هو يرسم الخوف إلى حد الهلع، و الضعف إلى حد الرعشة، و
التخاذل إلى
حد الغشية، و هي صورة خالدة لكل نفس خوارة، لا تعتصم بإيمان و لا بفطرة
صادقة، و لا
بحياء تتجمل به أمام الخطر، و هي هي طبيعة المرض و النفاق "
(59) كانت هذه نماذج مختارة من
التشبيهات
القرآنية التي بين من خلالها سيد قطب قدرة القرآن الكريم على مطابقة
المعاني مطابقة
تامة، وذلك بتمثيلها وإخراجها في صور حية مؤثرة في النفوس، و ماثلة للعيون.
2-المماثلة
بالاستعارة: الاستعارة هي ضرب من المجاز
اللغوي
علاقته المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، و هي في حقيقة أمرها
تشبيه
حذف أحد طرفيه ، مع و جـود قرينـة.مانعة من إرادة المعنى الحقيقي و قد تكون
لفظية
أو حالية.
و قد عرف عبد القاهر الجرجاني
الاستعارة بقوله" اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل اللغوي
معروفا تدل
الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر، و غير الشاعر في غير
ذلك
الأصل، و ينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية"
(60) .
أما الإمام العلوي
فقال عن أصل الاستعارة، و عن طبيعة العلاقة القائمة بين المستعار منه و
المستعار
له" اعلم أن الاستعارة المجازية مأخوذة من الاستعارة الحقيقية وإنما لقب
هذا النوع
من المجاز بالاستعارة أخذا لها مما ذكرناه، لأن الواحد منا يستعير من غيره
رداء
ليلبسه، و مثل هذا لا يقع إلا من شخصين بينهما معرفة و معاملة .... وهذا
الحكم جار
في الاستعارة المجازية، فإنك لا تستعير أحد اللفظين للآخر إلا بواسطة
التعارف
المعنوي"
(61).
و للاستعارة أقسام معروفة بين
البلاغيين نذكرها مجملة: فهي تصريحية ومكنية أصلية و تبعية، مرشحة و مجردة
،مفردة
و مركبة.
و إذا كان عبد القاهر
الجرجاني قد
ذهب إلى