خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى أوائل القرن العشرين، لم يدافع أحدٌ من العلماء عن النظرية الداروينية كما فعل العالم الألماني ارنست هايكل (صورة 1) Ernst Haeckel 1834-1919، فقد كانت كتبه العديدة التي ترجمت إلى الكثير من لغات العالم، مصدرًا هامًا لنشر العلم بين كمٍ هائلٍ من الناس، حتى أنها فاقت في تأثيرها كتب دارون نفسه، وقد تسببت كتب هايكل بزوبعةٍ من الغضب العارم في أوساط معاصريه من المؤمنين المتشددين، وخاصة المتعصبين الأرثودوكس، ويُردُّ اليوم موقف رجال الدين العدائي تجاه نظرية التطور في الأصل إلى معارضة هايكل الدائمة لحشر الدّين في العلم.
وعلى الرغم من العلاقة الطيبة التي كانت تربط هايكل بدارون ودعم الأخير الدائم له، فإن بعض معاصريه من العلماء المنتقدين لنظرية التطور – مثل لويس آغاسيز Louis Agassiz، وايميل دو بوا ريموند Emil Du Bois-Reymond، ورودولف فيرشو Rudolf Virchow- اتّهم هايكل بالخداع، وقد عادت هذه التهمة اليوم مدعومةً بأدلةٍ تبدو للوهلة الأولى مقنعةً ولا تقبل الجدل.
فقد نشرت مجلة ساينس Science مقالاً للباحثة بنيسي Pennisi عام 1997 بعنوان: “أجنّة هايكل: إعادة الكشف عن التزييف Haeckel’s Embryos: Fraud Rediscovered” اتهمت فيها هايكل بالتضليل المتعمد وتزوير مراحل التطور الجنيني (Pennisi 1997)، وصرّحت المقالة بأن أعمال الباحث مايكل ريتشاردسون Michael Richardson قدّمت أدلةً واضحةً على تزوير هايكل من خلال مقارنة رسوماته للأجنّة في المراحل المبكرة مع صورٍ حديثةٍ لأجنّة نفس الأنواع في نفس المرحلة الجنينية (صورة 2). وتُظهر الصور أجنّة أنواعٍ مختلفةٍ فيما بينها بشكلٍ كبير، وبالطبع مختلفةٌ عمّا جاء في رسومات هايكل، ونستدل من الصورة بجلاء بأن هايكل محتالٌ مزوّر!
وتذكر المقالة عبارةً للباحث ريتشاردسون تؤكّد هذا الاتهام: «يبدو أنّها أشهر عملية تزييفٍ في تاريخ البيولوجيا»[size=15][3] (Pennisi 1997). سرعان ما تلقّفت الصحف العامة هذه القصة، لتنشرها تحت عناوين مثيرة، على شاكلة: عالم الأجنّة الكذّاب (Hawkes 1997)، وبعد ذلك بفترةٍ قصيرة، استغلّ الخلقيون وأنصار التصميم الذكي الخبر، فنشروه بآلاف المواقع على شبكة الأنترنت في مقالاتٍ تسيء لسمعة هايكل وتنقض نظرية التطور، مثل الخلقي جوناثان ويلز Jonathan Wells الذي وصل إلى نتيجةٍ مفادها: “سقطت نظرية التطور لأنها نظرية تغضب الله” (2006Wells )، كما افترض وجود علاقةٍ بين العنصرية النازية وأفكار هايكل حول تطور الإنسان، والدليل على كل هذا كان صور ريتشاردسون التي تُظهر مبالغة هايكل بإظهار تشابه الأجنّة في رسوماته، مع أن الأدلّة التاريخية والبيولوجية تدلّ على أنّ الاتهامات الموجهّة لهايكل غير منطقية، ومتحيّزة لاعتمادها على صورٍ مضلِّلة بشكل كبير.[/size]
اعتمدت مقالة مجلة ساينس على بحثٍ نشره ريتشاردسون وآخرون عام 1997 في دورية علم التشريح والأجنّة Anatomy and
Embryology، مفاده أنّ أنواع الفقاريات في مراحل تشكّلها الجنيني الأولى phylotypic stage، لا تكون متشابهة جدًا شكليًا كما كان سائدًا في القرن التاسع عشر. وذكر البحث أنًّ هايكل ليس الوحيد الذي قدّم رسومات خاطئة للأجنّة، بل أيضًا كانت رسومات فيلهيلم هيس Wilhelm His، وهو أشهر علماء الأجنّة في زمانه ويعتبر من أشد المعارضين لأعمال هايكل. فقد قدّم هيس رسوماتٍ خاطئة كذلك، بالغ فيها بالتشابه بين الأجنّة المختلفة وأهمل الاختلافات، والفكرة الرئيسية في بحث ريتشاردسون كانت مقارنة أعمال علماء الأجنّة في القرن التاسع عشر وعلماء الأجنّة في القرن العشرين. واستخلص البحث أنّ علماء الأجنّة في القرن العشرين قاموا بجهد أفضل ممن سبقهم. ولم يتّهم البحث أيَّ شخصٍ بالتزوير أو التضليل، فهذه التهمة ظهرت فقط في مقالة بنيسي بمجلة ساينس وضد هايكل دون هيس، ومنطقيًا، إذا اعتبرت المجلة هايكل مزورًا بسبب رسوماته المتشابهة بشكل مبالغ به، فيجب أن تطال التهمة كذلك هيس لارتكابه نفس الخطأ، وكذلك علماء الجنين المعاصرين الذين ذكرهم بحث ريتشاردسون الذين قالوا بأنّ مراحل التشكّل الجنيني الأولى متشابهة جدًا بين أنواع الفقاريات، وهم: (Butler and Juurlink 1987، Wolpert 1991، Slack et al. 1993، Alberts et al. 1994، Collins 1995)، وقد كان حريًا بمجلة ساينس أن تحاكم هؤلاء العلماء المتأخرين أخلاقيًا قبل محاكمة هايكل، بسبب الفارق المعرفي الهائل وتطور أدوات البحث الكبير خلال 125 سنة فاصلة بينهما.
قام ريتشاردسون بمقارنة الصور التي التقطها برسوماتٍ من كتاب هايكل Anthropogenie: oder, Entwickelungsgeschichte des Menschen (تشكّل الإنسان: أو التاريخ التطوري للإنسان) (Haeckel 1874)، وهو أحد أشهر كتب هايكل التي دافع فيها عن نظرية التطور، وأصل الكتاب كان سلسلةً من المحاضرات ألقاها على جمهورٍ من عامة الناس عام 1873، قام بعدها بإعداد كتابه على عجلٍ معتمدًا على ملخصٍ كتبه أحد طلابه الذين حضروا محاضراته تلك، وزيّن الكتاب برسوماتٍ رسمها بنفسه تتضمن مقارنةً تدعم فرضية ترديد الجنين لتطور السلف[size=15][4] recapitulation hypothesis (صورة 3).[/size]
علينا أخذ عدّة نقاطٍ بعين الاعتبار قبل الحكم على مصداقيّة أعمال هايكل:
أولاً. أن محاضراته وبالتالي كتابه كانا موجهّان إلى عامة الناس، وعند شرح الحقائق العلمية لغير المختصين يُسمح عادةً بالمبالغة بإظهار التشابهات لإيصال الفكرة بسهولة.
ثانيًا. هايكل لم يكن عالم أجنّة، ولم يكن متخصصًا أصلا في بيولوجيا الفقاريات، وإنما اختصاصه بيولوجيا البحار، لهذا اعتمد في رسوماته على أعمال خبراء زمانه في علم الفقاريات، ولم ينسَ شكرهم في كتابه وذكرهم بالاسم.
ثالثًا، في مقالة مجلة ساينس، يقول ريتشاردسون أن هايكل زوّر في مقياس رسم الأجنّة، فالفروقات بالحجم بين الأجنّة المرسومة قد يصل إلى عشرات الأضعاف، وهايكل رسمها كلها بقياس واحد!
ولكن هايكل كان واضحًا جدًا بالإشارة في حاشية كتابه إلى أنه قام باختزال الرسم إلى قياس ٍ واحدٍ لتسهيل مقارنة البنى الجنينيّة (Haeckel 1874، صفحة 1874).
أخيرًا، اختار ريتشاردسون رسوماتٍ من الطبعة الأولى لكتاب هايكل Anthropogenie، والذي استخدم فيه ذات الرسوم المبسّطة التي استخدمها في محاضراته، وقد صدر من الكتاب خمس طبعات، في كل طبعةٍ كان هايكل يزيد في الأمثلة والأدلة الداعمة له، ففي الطّبعة الأولى قارن بين أجنّة ثمانية أنواعٍ فقط من الفقاريات، ثم قارن بين عشرين نوعًا في الطّبعة الخامسة عام 1905، وكان أيضًا يستبدل الرسومات بأخرى أكثر جودة وأعلى دقة، ففي الطبعة الرابعة مثلاً عام 1891، صارت الفروقات بين أجنّة الأنواع أكثر وضوحًا (صورة 4)، وكانت هذه الزيادة في جودة الرسومات نتيجةً للتطور في صناعة المجاهر أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولنتذكر هنا أن الأجنّة في مراحل التشكّل الأولى لا تُرى بالعين المجردة.
فهل قارنت بنيسي في مقالتها في مجلة ساينس صور ريتشاردسون الحديثة للأجنّة مع رسومات هايكل من الطبعات المتأخرة؟ ولو فعلت هذا، هل حقًا ستجد مبررًا لاتهامه بالتزوير؟
ولكن ماذا عن الفرق الواضح بين رسومات الطّبعة الأولى من كتاب هايكل وصور ريتشاردسون الحديثة؟
لنستثني الاعتبارات التاريخية والمنطقية التي ذكرناها سابقًا، ولنسأل: كيف يرسم البيولوجي الخبير جنين السلمندر؟ هل يرسمه على شكل كرةٍ منتفخة كما يظهر في الصورة؟ أم يرسمه بشكل متطاول نحيل؟
تُظهر صورة جنين السلمندر Salamander أكبر الاختلافات ضد هايكل، ولكن الصورة مضلٍّلةً إلى حدٍ كبير، فالجنين فيها مرتبطٌ بكيس المح، والذي كان على ريتشاردسون إزالته قبل التصوير كما فعل هايكل قبل رسمه، فكيس المح ليس جزءًا من الجنين بأية حال.
وهناك عدّة صورٍ لأجنّةٍ لاتزال مرتبطةً بأجزاءٍ من كيس المح وبنىً أخرى، وهذه الزيادات حول الأجنّة تضخّم الفروقات بينها وبين رسومات هايكل (صورة 2)، فقد أشار هايكل بصريح العبارة إلى إزالة كيس المح والأغشية الأمينوسية من أجنّته (Haeckel 1874، صفحة 256)، فالانتفاخ في صورة السلمندر عند ريتشاردسون هو كيس المح وليس جزءًا من الجنين بذاته، كذلك صورة جنين الإنسان والسمكة تحتوي أجزاء زائدة لا تنتمي للجنين، (نجح ريتشاردسون في إزالة كيس المح عن جنين الأرنب والدجاج).
إضافةً إلى هذا، فإن صورة جنين السلمندر – كما هو واضحٌ للعيان- ليست مختزلة إلى نفس قياس باقي الأجنّة (على الرغم من إشارة ريتشاردسون في مجلة ساينس إلى توحيد قياس الصور!).
كذلك فإن جنين الدجاج شديد الانحناء ويتجه رأسه للأسفل، ويبدو أنّه من مرحلة تشكّلٍ متقدمةٍ عمّا رسمه هايكل، ومرةً أخرى، صرّح هايكل بجلاء أنه وجّه الأجنّة كلها بوضعية واحدة لسهولة المقارنة بينها.
لقد قمت باستخدام برنامجٍ حاسوبي لإزالة كيس المح من الصور، وضبط استقامة جنين الدجاج، وإعادة ضبط قياس جنين السلمندر (صورة 5)، والنتيجة ترينا بوضوح أن الفروق بين الصور والرسومات ليست كبيرة كما تقدّمها مقالة مجلة ساينس، فبعد إزالة أجزاء كيس المح بشكل خاص، لم تعد الصور كافيةً لاستخدامها كدليلٍ على ادعاءات المجلة.
عندما نضع أعمال هايكل في إطار الظروف المحيطة بها والزمان الذي جاءت فيه، تبدو إنجازاته بلا جدالٍ كمنارةٍ أضاءت الطريق للعلوم الحديثة (Richards 2008)، وبناءً على كل ما سبق، يمكننا القول بثقة أنَّ تهمة التزييف لم تثبت على هايكل.لقد كان هايكل رجل علمٍ فذًّا مدفوعًا بعشقٍ للمعرفة، قاده حماسه الكبير – في مرحلةٍ ما – إلى التسرّع الذي أدّى به إلى ارتكاب الأخطاء، مما أعطى معارضيه فرصةً للهجوم عليه والنيل منه، ففي الطبعة الأولى من كتابه الشهير ” التاريخ الطبيعي للخلق Natürliche Schöpfungsgeschichte” عام 1868، استخدم ذات الرسم ثلاث مراتٍ ليشرح بها مكونات جنين الكلب والدجاج والسلحفاة، وعندما وُجّهت له انتقاداتٌ لهذا، دافع هايكل عن نفسه بقوله: ما من أحدٍ يمكنه ملاحظة أيّ فرقٍ بين الأجنّة الثلاث في تلك المرحلة الأولية! (Rütimeyer 1868)، وبالنّظر إلى أدوات البحث المستخدمة في زمانه، نرى أنّ هايكل كان محقًا في دفاعه هذا، بل يُشهد له بأنه لاحظ خطأه الواضح وصححه فورًا في الطبعة الثانية بعد سنتين، ولكن الخطأ كان قد وقع، ولم يكفًّ أعداؤه عن تذكير القرّاء بخطأه القديم، ورغم هذا، وفي ذروة الانتقادات الموجّهة له، لم يتخلى علماءٌ كبارٌ عن دعمه، أمثال ريتشارد دارون Richard Darwin وتوماس هكسلي Thomas Huxley، وأوغست فايسمان August Weismann، وكارل غيغنباور Carl Gegenbaur.
[size=44]الهوامش[/size]
[1] نشرت هذه المقالة في دورية العلوم والفلسفة Biology and Philosophy العدد 24 لعام 2009. [2] Robert J. Richards: أستاذ تاريخ العلوم والطب في جامعة شيكاغو- مركز موريس فيشبن لتاريخ العلوم. [3] على الرغم من أن ريتشاردسون لم يسحب حُكمه هذا، إلا أنه على مايبدو عدّل من وجهة نظره في مقالةٍ لاحقة، كتب فيها: إن رسومات هايكل الأكثر انتقادًا لاتزال تحظى بأهميةٍ بالغةٍ في فهم فرضيات الأصل الشعبي، وللأغراض التعليمية، وكدليلٍ على التطور، ورغم أن بعض الانتقادات تجاهها محقّة، إلا أن البعض الآخر منحازٌ بشدة (Richardson and Keuck 2003 صفحة 495). [4] عبّر عنها هايكل بعبارة: التطور الفردي يختزل تاريخ التطوّر الشعبي Ontogeny recapitulates phylogeny وتعني أنّ جنين الكائن الحي يمرُّ أثناء تشكله في مراحلٍ تشابه المراحل التي مر بها أسلافه أثناء تطورها عبر ملايين السنين مع بعض التعديلات، وتعتبر هذه الفرضية مقبولة لدى العلماء اليوم ولها تطبيقاتٌ عدّة.