تحليل نفسية الإنسان بين الحتمية الطبيعية والحرية النسبية
[size=48]تحليل نفسية الإنسان بين الحتمية الطبيعية والحرية النسبية
لقد احتلّ الإنسان مكانة[/size]ً مرموقةً في تاريخ الفلسفة فكان هو العنصر الأساسيّ في تطوّر العلوم، وقد استطاع أنْ يوفّر لنا عدّة علومٍ من بينها علم النفس وعلم الاجتماع والفيزياء والبيولوجيا.. هذه العلوم تطوّرت من أصل التفكير الفلسفي الذي كان منبعه التساؤل: من أنا؟
والإنسان كائن ذكيٌّ واجتماعيٌّ بطبعه، وبسبب ذكائه قفز من الحالة الطبيعيّة إلى الحالة المدنيّة، وقفز من الحتميّة الطبيعيّة إلى الحرّية النسبيّة، ومازال الصراع دائمًا بين الحتمية الطبيعيّة والحريّة الإنسانيّة النسبيّة، وقد استطاع الإنسان أن يؤسّس دساتير ودوَلاً علمانيةً تهدف إلى الإنصاف والموازنة بين متطلبات ضغوط المجتمع النسبيّ ومتطلّبات ضغوط الحتميّة الطبيعيّة، فهو المسؤول عن تطوّر العلوم وعن تغيّر قوانين الدولة، لكن، إذا كان الإنسان مسؤولاً عن تطوّر العلوم فهل هي قادرةٌ بدورها على مساعدته في التحرّر من قيود الطبيعة والمجتمع؟ هل الإنسان حرٌّ حريّةً مطلقةً كما يدّعون أم أنه يخضع لمبدأ الحتميّة بشكلٍ مطلقٍ ؟
هل حُصر الإنسان بين الحريّة النسبيّة والحتميّة الطبيعيّة ؟ وهل تستطيع العلوم الإنسانيّة أنْ تساعدنا على التحرّر من قيود المجتمع أم أنّ قيود المجتمع أفشلت تحقيق الموضوعيّة في مجال الدراسة الإنسانيّة ؟
للإجابة عن هذه التساؤلات اللاّمتناهية يجب علينا أن نكون محايدين، لا منصفين فقط، لأن التفكّر في العلوم الإنسانية ومقارنتها مع العلوم الطبيعيّة ليس أمرا هيّنًا، ويجب على الإنسان أن يكون محايدًا بشكل كبيرٍ حتّى يستطيع حلّ لغز هذا الوجود العظيم.
[size=32]سلطة المجتمع الهائلة:
[/size]
في كل مرّةٍ نتدبّر فيها لنعلم كيف يجب علينا أن نسلك، نجد صوتًا يتكلّم فينا و يهيب بنا قائلا:
هذا هو واجبك، وعندما نتخاذل عن أداء ذلك الواجب الذي بُيِّن لنا على هذا النحو، يعلو ذلك الصوت ذاته محتجًّا على أفعالنا. ولمّا كان ذلك الصوت يتكلّم بلهجة الأمر، فإننا نحسّ دائمًا بأنه لابدّ أنّه صادرٌ عن كائنٍ يعلو علينا. غير أنّنا لا نتبيّن بوضوح من هو أو ما هو ذلك الكائن.
ولهذا لجأ خيال الشعوب من أجل تفسير ذلك الصوت الخفيّ، الذي تختلف لهجته عن لهجة الصوت الإنسانيّ، إلى أن يعزوه إلى كائناتٍ علويّةٍ على الإنسان، وعلينا نحن أن نزيل عن هذه النظرة ما علق بها خلال عصورٍ من صورٍ أسطوريّةٍ، وأن نصل إلى الحقيقة من وراء الرمز. أمّا تلك الحقيقة، فهي فعل المجتمع الذي بثّ فينا، حين عمل على تكويننا خُلقيًّا، تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجةٍ آمرةٍ صارمةٍ، أو تثور علينا بمثل هذه القوة عندما نأبى أن نمتثل لأوامرها، فضميرنا الأخلاقيّ لم يُنتَج إلاّ عن المجتمع ولا يعبّر إلّا عنه، وإذا تكلَّم ضميرنا، فإنما يردّد صوت المجتمع فينا، ولاشكّ في أنّ اللهجة التي يتكلّمها خير دليلٍ على السلطة الهائلة التي يتمتع بها.
لكنْ، عادة ما نسمع تلك الفرضيّات التي تتكرّر والتي تدّعي أن أخلاقنا من الدين، ونحن نستطيع أن نتّفق مع ذلك لكن بشرط عدم ربط الأخلاق بالميتافيزيقا أو الآلهة وغير ذلك.. فالأخلاق ليست من الدين؛ الأخلاق من المجتمع القادر على اختراع الدين.. فسلطة المجتمع هذه هي حتميّةٌ وتَحرّرُنا منها يكون نسبيًّا وليس مطلقًا، بل إنّنا وجدنا المفكّرين أنفسهم والعلماء والفلاسفة ممّن عُرفوا بادّعائهم للحرّية المطلقة مثل"جون بول سارتر" و"ديكارت" متراجعين في الكثير من أقوالهم عندما ربطوا الأخلاق بالمجتمع، بل ويؤكّدون أنّ"الغيْر"(1) يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل هويّة"الأنا"(2)
يتساءل الإنسان عن طبيعة علاقته مع الآخرين، فيكتشف أنه لا يستطيع أن يعيش وحيدًا في هذا العالم، فالآخرون يوجدون إلى جانبه من أجل تحقيق غاياتٍ مشتركةٍ في الوجود الإنسانيّ. إن تحليلاً أوليَّا لبعض مشاعر الإنسان ومواقفه من الآخرين، مثل مشاعر الحب، الصداقة، التسامح، الكراهية والعنف، يدعونا إلى الانتباه إلى أهمّية حضور الغيْر في إحداث هذه المشاعر وتركيبها النفسيّ لدى الفرد. بل بإمكاننا القول إنّ أفكارنا وممارساتنا ولغتنا لا تكتسب دلالتها ولا تؤدّي وظائفها إلا إذا افترضنا حضور أجسامنا وأسمائنا نتوجه إليها ونتواصل معها، والتي ليست هي"الأنا"، بل إنّها توجد خارج ذاتي ووعيي، فهي" أنا آخر" تواجهني وتختلف عنّي.
سأبدأ هنا بطرحٍ لأحد أشهر الفلاسفة الذين يدّعون الحريّة المطلقة وسنجدهم في أحد كتبهم يعودون بشكل لاشعوري إلى ربط هويتهم بالمجتمع على أنه هو العنصر الجوهريّ في تحديد هويّتنا .
(3) ( 1650- 1595 ): René Descartes رينيه ديكارت
يؤكّد "ديكارت" الفيلسوف الفرنسيّ، عالم الطبيعيّات والرياضيّات وعلم الأخلاق أنه قد دأب مند نعومة أظفاره على فحص الآراء المتداولة التي يتلقّاها من الوسط الاجتماعيّ ممارسًا نوعًا من الشكّ المنهجيّ المبكّر، يقول ديكارت:
«كنت قد انتبهت، مند سنواتي الأولى، إلى أنّني قد تقبّلت كميّةً من الآراء الخاطئة على أنها أراءٌ حقيقيّةٌ وصادقةٌ، وإلى أنّ ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكَّدة، لا يمكن أن يكون إلّا أمورًا مشكوكًا فيها وغير مؤكَّدةٍ، وذلك بحيث كان عليّ أن أقوم، مرّة واحدةً في حياتي، بالتخلّص من كلّ الآراء التي تلقّيتُهَا وصدّقتُها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيءٍ من جديدٍ ابتداءً من الأسس، وذلك إذا كنت أريد أن أقيم قدَرًا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم. لكن بدا لي في ذلك الوقت أنّ هذه المهمّة كبيرةٌ جدًّا بالنسبة لعمري، فانتظرتُ إلى أن أبلغ أقصَى سنٍّ أُصبح فيه أكثر نضجًا، بحيث أستطيع إنجاز هذا الأمر.»
لقد تأثّر ديكارت بالمكانة الاجتماعيّة التي يعيش فيها إذ استقبل وعْيه العديد من الآراء الخاطئة منها الدين المسيحيّ، إلّا أنه في قوله أعلاه يؤكد أنه لم يستطع في بداية صغره أن يتحرر من قيود الدين لكنه انتظر حتى يبلغ سنّ الرشد بحيث يكون أكثر نضجًا ثم يفكّر بالتحرّر من قيود الدين..
فالتحرّر من الدين ليس أمرًا سهلًا بل قد يؤذي الشخص بشكلٍ مباشرٍ في حياته، وقد كان ديكارت أكثر ذكاءً عندما أجّل التفكير إلى حين يكبر ليستطيع إنجاز هذا الأمر.
في حين نجد الفيلسوف الوجوديّ"جون بول سارتر" يتراجع في أحد كتبه من فكرة "الحريّة المطلقة" إلى "الحريّة النسبية"
(4) (1905-1980): J. P. Sartreجون بول سارتر
يؤكّد الفيلسوف والأديب الفرنسي وأحد مُؤسّسي الفلسفة الوجودية جونْ بول سارتر أنّ وجود الغيْر ضروريٌّ من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته وفي هذا يقول:
«إن الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته، وهو ضروري للوعي بالذات لأنني موجود من أجل الغير ووجوده ضروري لاستكمال وجودي وعبره إدراك كل بنيات وجودي. إن الغير لا غنى لي عنه لوجودي كما لا غنى لي عنه لمعرفتي لنفسي.»
ومن هذين الموقفين نستنتجُ أن المضمون الجوهريّ الذي يُبْنَى في الواقع هو أنه لا وجود لهويّةٍ إنسانيةٍ بدون عوامل خارجيّةٍ تربطها علاقة تأثيرٍ وتأثّرٍ فالحواسّ هي الوسيلة التي تربط بين الأنا والغير أو بين الأنا والطبيعة، وهي المسؤولة عن نقل المعلومات من العالم الخارجيّ.
إن الإنسان يخضع للمجتمع ولعدّة حتميّات فيزيائيّة وكيميائيّة وبيئيّة وسيكولوجيّة وسوسيُولوجيّة لا فكاك لهُ منها، ولكونه لا يعيها بوضوح، يُخيّل إليه بأنه حرّ ومرتاحٌ في دينه أو مجتمعه.
هذه السلطة الهائلة التي نخضع لها، تجعلنا نستنتج بدون إرادتنا أن أخلاقها مثاليّةٌ، لكنّها مثاليّة بالنسبة للذي يخضع لها، فعلى سبيل المثال نجد أن زواج المحارم أمرٌ يتكرّر في الطبيعة، عند بعض القبائل الأفريقية مثلا، وحسب علم النفس فإن من لم يطبّق زواج المحارم في تلك القبائل فهو شخصٌ ساذجٌ وكافرٌ وهو يُعارض حكمَ الآلهة، ونفس التصوّر يتكرّر عند كل جماعةٍ أو ديانةٍ موجودةٍ هنا على الأرض، كل فردٍ لديه منبع من الثقة في دينه و يخضع لأخلاق معيّنة من المجتمع.
فالـ"أنا" مقتبسة من المجتمع، كما أنّ الإنسان مضطر إلى أن يخدم ثلاثة من السادة الأشداء، بل قد يبذل أقصَى جهده للتوفيق بين مطالبهم التي هي في الغالب مطالب مُتعارضة، والتوفيق بينها مهمّة عسيرة إن لم تكن أقرب إلى أن تكون مستحيلة فليس من الغريب إذن أن يفشل"الأنا" في أغلب الحالات في مهمة التوفيق، وهؤلاء المستبدون الثلاثة هم: العالم الخارجي، الأنا الأعلى والهُوَ، ونحن عندما نتابع المجهودات التي يقوم بها الأنا بقصد الاستجابة لهذين النوعين من المطالب في وقتٍ واحدٍ، أي بطاعة أوامرها في نفس الوقت، فإننا لن نأسف إذا ما كنا قد شخّصنا هذا الأنا، وقدّمناهُ كحالةٍ خاصّةٍ. فهو يُحسّ بأنّه معرّضٌ لثلاثة ضغوط ٍومهدّد من طرف ثلاثة أنواعٍ من الأخطار يكون رد فعله عليها، عندما تشتد معاناته منها، هو توليد نوعٍ من القلق.
فهو، من حيث أنه هو نفسهُ نشأ نتيجة التجارب الإدراكيّة، يتّجه إلى أن يتمثل متطلبات العالم الخارجي لكنّه يودّ أن يكون بنفس الوقت خادمًا للهُوَ، ومتصالحًا معه ومعَ حاجاته المستمرة للإشْباع، إن"الأنا" في مجهوده من أجل التوسط بين الهُوَ والواقع، مضطر دوما إلى أن يُموّهَ على أوامر اللاشُعُور بتبريرات متعددة، وإلى التخفيف من صراع الهُوَ مع الواقع، وحسب دراستنا لعلم النفس عند "سيغموند فرويد" وجدناهُ يؤكد أن الأنا محاصَرٌ بين ضغط الأنا الأعلى ومطالب الهُوَ وقوة الواقع، من أجل أن ينجز مهمته في إحداث نوع من التوافق والانسجام بين هذه القوى اللاشعورية والتأثيرات المتفاعلة داخله والمؤثر عليه من الخارج.
ماهو الأنا الأعلى عند "فرويد"؟ هل الأنا الأعلى هو الضمير الأخلاقي؟
كانت التصورات الفلسفية والأخلاقية تتحدث عن الضمير الأخلاقي ككيان معياري مُضمَرٍ في نفوس الناس بعيدا عن أية محددات اجتماعية أو نفسية. لكن التحليل النفسي في تحليله الثلاثي للنفس البشرية اعتبر ما نسميه بالضمير الأخلاقي جزء من البنية النفسية يتضمن تمثلا للمتطلبات الأخلاقية للمجتمع واستيعابا لمباحثه ومُحرماته، فالعنصر الأخلاقي هو جزء من النفس وهو انعكاس لقيمٍ وليس كيانا قَبْليًّا مستقلا.
(5) مؤسس علم التحليل النفسي والطب النفسي الحديث:S. Freud يقول "سيغموند فرويد" :
الأنا الأعلى(6) هيئة نفسية اكتشفها التحليل النفسي. والضمير الأخلاقي هو الوظيفة التي ننسبها لهذه الهيأة بجانب وظائف أخرى، وتتمثل هذه الوظيفة في مراقبة أفعال ومقاصد الأنا والحكم عليها، ممارسة على الأنا عملية رقابة.
إن الإحساس بالذنب، وقسوة الأنا الأعلى، وصرامة الضمير الأخلاقي، كلها شيء واحد. إن الإحساس بالذنب هو تعبير عن إدراك الأنا لكونه خاضعا للمراقبة من طرف الأنا الأعلى كما أنه تعبير عن مقدار التوتُر القائم بين ميول الأنا ومتطلبات الأنا الأعلى، وكذا عن القلق النفسي التي يتولد في النفس أمام هذه الهيأة النقدية التي تشمل كل علاقات الفرد. أما الشعور بالحاجة إلى العقاب فهو تعبير عن الدوافع الكامنة في الأنا الذي يصبح مازوشيًّا (متقبلا للتعنيف ) بسبب شدة تأثير الأنا الأعلى الذي أصبح ساديًّا ( ممارسا للتعنيف ). وبعبارة أخرى فإن الأنا يستعمل جزءا من الطاقة النفسية الداخلية الهدامة التي هي كامنة فيه، من أجل إقامة علاقة عشيقة مع الأنا الأعلى.
هذا هو التصوّر الذي يقدّمه "فرويد" للشخصيّة الإنسانيّة التي اقتبست المعلومات من العالم الخارجيّ وهو تصوّر ديناميٌّ للشخصيّة باعتبارها جماعًا بين الغرائز؛
الهُوَ(7) والمُثل الأخلاقيّة الأنا الأعلى وضغوط الواقع الاجتماعيّ.
[size=32]الإ[/size][size=32]نســا[/size][size=32]ن بين الحرّية النسبيّة والحتميّة الطبيعيّة
[/size]
إن أهمّ الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الدراسات الحديثة والمعاصرة للعلوم الإنسانيّة هو صدمة العقل البشريّ من جرّاء نتائج هذه الدراسات باكتشافه أن الإنسان قد أصبح فاقدًا للحرّية، حيث أثبت التحليل النفسيّ أنّ الإنسان خاضعٌ لحتميّة الظواهر الإنسانيّة، ممّا يعني أن هناك قوَى خفيّةً نفسيّةً اجتماعيّةً توجّه الإنسان حسب قوانينها الخفيّة فلم يعد هو من يختار سلوكه أو أحكامه أو كلماته وأفكاره، بل إنّ هذه القوى هي التي تنوب عنه في ذلك.
على شاطئ البحر يوجد حجرٌ يخضع لأحد المؤثّرات الخارجيّة ألا وهي مياه البحر فعندما تدفع مياه البحر ذلك الحجر يواصل حركته بالضرورة، واستمراره في الحركة أمرٌ مفروضٌ من الخارج ليس من حيث هو ضروريٌّ،بل من حيث أنّه راجعٌ إلى دفعةٍ ناتجةٍ عن سببٍ خارجيٍّ، وما هو صادرٌ عن الحجر يجب أن ننسبه له،ومهما تعدّدت استعداداته ،لأنّ كل شيء مفردٌ هو بالضرورة محرومٌ من طرف علةٍ خارجيّةٍ على أن يوجد ويتصرّف بصورةٍ محدّدةٍ، تلك العلّة هي الحتميّة والقانون الطبيعيّ الذي نخضع له. لكن لنتصوّر الآن قطعة الحجر وهي تواصل الحركة وتفكّر وتعرف بأنّها تبذل مجهودًا على قدر ما تستطيع لتستمرّ في حركتها، من المؤكّد أنّ هذا الحجر من حيث إنّ به وعيًا بمجهوده فقط، ومن حيث أنه مهتمٌّ، فهو يعتقد بأنّه حرٌّ حريّةً مطلقةً وبأنه لا يستمرّ في حركته إلّا لأنّه يريد ذلك. تلك هي الحرية الإنسانية التي يتبجّح الكلّ بامتلاكها والتي تقوم فقط على واقع أنّ للناس وعيًا بشهواتهم، ويجهلون الأسباب التي تحدّدهم حتميّا.
لا وجود لحريّةٌ إنسانيّةٌ تجعل من الشخص كائنًا أسمى من الطّبيعة، وما شعورنا بالحريّة إلا وهمٌ ناشئٌ عن تخيّلنا بأنّنا أحرارٌ وعن جهلنا بالأسباب الحقيقيّة التي تسيّرنا. فالإنسان يحاول ما أمكنه التحرّر من قيود الطبيعة والمجتمع والدين عمومًا، لكنّ تحرّره هذا يكون نسبيًّا وليس مطلقًا، لا وجود لشيءٍ يُدعى بالحرّية المطلقة.
عندما ينفجر بركان أمامك هل تقف وتتساءل وتتأمّل وتفكّر انْ كنت ستهرب أم لا ؟
إنّ الطبيعة في حركةٍ وتغيّر مستمرّينٍ، فجسمك يستطيع أن يقدّم ردّة فعلٍ إلى ما يوجد أمامك سواءً كانت الحركة الخارجيّة عبارةً عن هجومٍ ظهر فجأةً أم إشارة تواصلٍ.
فلحظة هجوم الشخص عليك يستطيع جسمك الدفاع عن نفسه بدون تفكيرك وإرادتك الحرّة، لكن تخيّل أنّ شخصًا ما قد رمى حجرا باتجاهك.. هل ستكون ردّة فعلك لاشعوريّة لاإراديّة أم حرّةً شعوريّةً مطلقةً ؟
لا نجد هذا الأمر عند الإنسان فحسب بل كذلك عند الحيوان، كما قد نجده عند الخلايا أيضا مثل خلايا "الأميبا" التي لو جاء بجوارها غذاءٌ مناسبٌ تلتفّ حوله بحذرٍ حتّى لا يهرب.
هذه حتميةُ (8) لاشعوريّةٌ قائمةٌ على ردّة فعل الكائن البيولوجيّ أمام العالم الخارجيّ أو الطبيعة، لكن قد يتساءل أخي القارئ قائلا لي:
هل هذا المقال الذي كتبته صادرٌ عن الحتميّة اللاشعوريّة؟ ما الشيء الذي جعلني أعي ذاتي الإنسانيّة؟
بسبب التطوّر والتغيّر الذي يقع على الكائنات الحيّة انتُخب الإنسان طبيعيًّا على أنّه أذكى الكائنات الموجودة على الأرض وتطوّرت تساؤلاته عن ماهيّة الوجود وأصبح يطبّق نفس الأسئلة على نفسه مثل: من أنا ؟
هنا تبدأ رحلة تطوّر الشعور بالذات الإنسانيّة والتساؤل عن مصدرها، حتى أنّ "فرويد" الذي قدّم لنا فرضيّة اللاشعور نراه في الكثير من الصّور يستعمل السيجارة رغم وعْيه بالقوى اللاشعوريّة.
لحدّ الآن سيكون توحيد أفكارنا مثاليًّا، فالكائن الحيّ يخضع للحتميّة الطبيعيّة البيولوجيّة المتغيّرة، والشيء الذي يجعلنا نعي اللّاشعور في جوهره هو أنّنا نطرح ردود فعلٍ وتساؤلات حول الطبيعة ونطبّق نفس الأفكار على ذواتنا الإنسانية، هذا هو الوعي بالذات اللاشعورية.
إن ذلك الجبان الذي يلوذ بالفرار هاربًا من خطرٍ يهدّد حياته يعتقد أنه يقوم بذلك بمحض إرادته، وهذا ما يجعلنا نشعر بأننا أحرار وبأننا نتصرّف بحريّةٍ مطلقةٍ، لكن الأمر عكس ذلك فالرغبة في الانتقام والهروب من الخطر المحدق هو في الحقيقة استجابةٌ لدوافع خارجةٍ عن إرادة الشخص ولا مجال للحديث هنا عن حريّة ذاتيّةٍ بعيدةٍ عن كلّ إكراهٍ كيفما كان مصدره.
إن الإنسان الذي لا يؤمن بوجود خالقٍ لم يتّخذ هذا القرار بمحض إرادته الحرة المطلقة، بل تساؤله في نفسه حول الموجودات وتناقضات الأديان. .. فيتساءل :
هل أنا جزءٌ من هذه الأديان ؟ هل هذا يعني أنّني جزءٌ من التناقض الحاصل بين الأديان طالما أنّني متديّن؟ ألا يمكن أن يكون كلّ فردٍ واثقًا في دينه؟ ألا تساوي كثرة الثقة بدون دليل ما نعرّفه بالمرض النفسيّ ؟
هنا يبدأ الإنسان بالتفكير في الانفصال عن الدين، لكن رغم وجود هذا الانفصال فهو يبقى غير مطلقٍ بل نسبيًّا.
إننا نخضع لحتميّةٍ، وخضوعنا لها يكون مطلقًا وتحرّرنا منها يكون نسبيًّا؛ فالإنسان يولد وعقله صفحةٌ بيضاء لا معلومة فيها حتّى يخضع للحتميّة الاجتماعيّة والطبيعيّة التي تحدد وعْيه.
إنّ الإنسان حرٌّ حريّةً نسبية(9) وسبب نسبيّتها هو أنّ أصل الحريّة هو الحتميّة، ولهذا فانفصال الحريّة بشكلٍ مطلقٍ عن الطبيعة الحتميّة ليس إلّا وهمًا.
يقول الفيلسوف والعالم التجريبي جون لوك John Locke(10)في كتابه "مقالة في الفهم البشري":
إن ما يحدد هوية الشخص تتألف من الشعور بالذات، وهدا الشعور لا ينفصل عن الفكر وكذا من الذاكرة التي تربط بين الماضي والحاضر، فالإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء لا وجود فيه لأفكار ومبادئ فطرية، فكلّ ما ينقش عليه مصدره الشعور والانطباعات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي .
يؤكد أنصار ومؤسّسو المدرسة الوضعية الفرنسية بأنه يمكن دراسة الظواهر الاجتماعيّة دراسة علمية كما تدرس الظواهر الطبيعية وذلك لكونهما تخضعان معا لمبدأ الحتمية. إن الشخص لا يمكنه أن يكون حرا أمام حتميّة الظواهر الاجتماعية التي تتحكم فيه لأن هذه الظواهر تتميز بقاهريّتها وسلطتها على الأفراد، فالتنشئة الاجتماعية تعمل على تكوين الأفراد كما يريد المجتمع وليس كما نريد نحن فكلما تكلم الفرد أو حكم .
فالمجتمع هو الذي يتكلم وهو الذي يجعل الفرد يخضع له، ويمارس عليه ما سماه عالم الاجتماع إميل دوركايم بسلطة القهر الخارجي (11). هكذا تنظر العلوم الإنسانية إلى الشخص باعتباره بنية سيكولوجية وكائن "سوسيوثقافي".
إنّ الغير ضروري للوعي بالذات لأنني موجود من أجل الغير، ووجوده ضروري لاستكمال وجودي وعبره يتم إدراك كل البيّنات على وجودي.
فلولا الغير لما أدركت نفسي بكونها ذات تخجل من نفسها كما تبدو كذلك للغير. إنه المرآة التي أدرك عبرها وجودي الموضوعي الجسدي، هل يمكنني أن أدرك بأنّني كائنٌ خجولٌ في غياب وجود من أخجل منه، أيْ من الغير؟
الغير ضروريّ لتحديد هوية الأنا، وفي نفس الوقت أن الجحيم هو الغير الذي يمارس علينا سلطة ما سماه الحكماء والفلاسفة والمفكرون والمواقف العقلانية بسلطة "القهر الخارجي" الذي يجعل من تحرّر الإنسان أمرًا غير مطلقٍ.
بخلاف فلسفة "إمانويل كانط" الذي تناول الشخص من المنظور النظري العقلي المجرد نجد الفيلسوف والإبستمولوجي "جورج غوسدورف" يتناوله من المنظور العملي واقعي هكذا فقيمة الشخص الأخلاقية لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير وانفتاحه عليه وتعايشه وتضامنه.
(12) :Georges gusdorf جورج غوسدورف
قيمة الشخص لا تكمن في النظر إليه ككائنٍ مجرّدٍ عن الزمان والمكان ولا ككائنٍ فرديٍّ منعزلٍ عن الآخرين يضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع الآخرين بحيث يتصوّر نفسه كبدايةٍ مطلقةٍ، إنّ الشخص الأخلاقيّ لا يوجد إلاّ بالمشاركة والتضامن والتعاون بين الناس لقد فهم الشخص الأخلاقي أنّ الغنى الحقيقيّ لا يوجد في التحيّز والتملّك المنغلق كما لو كان بإزاء كنزٍ خفيٍّ ولكن بالأحرى في وجودٍ يكتمل بقدر ما يعطي ويمنح.
[size=32]إذا كان الإنسان ابن الطبيعة، هل يمكن دراسة الظ[/size][size=32]ـ[/size][size=32]واهر الإنسا[/size][size=32]نـ[/size][size=32]يّة مثلما ندرس الظواهر التجر[/size][size=32]يبـ[/size][size=32]يّة؟
[/size]
هذا السؤال شائعٌ في نفسيّة الإنسان بحيث يجعله يعتقد أنّ الإنسان يتميّز بالروح لهذا لا يمكن إخضاع الظاهرة الإنسانيّة للتجربة الحسيّة.
فالعلوم الإنسانية هي مجموعةٌ من العلوم التي اتخذت من الإنسان موضوعًا خاصًّا بها فتناولته بالدراسات والبحوث التي تتعلّق بمختلف أبعاد حياته ومستوياتها، مثل السيسيولوجيا والسيكولوجيا والإنثربولوجيا ومن ثم تمّ تأسيس هذه العلوم على موضوع اشتغالها أي الإنسان أو الظواهر الإنسانيّة .
إنّ التجربة هي جوهر العلم، وهي الخطوة الأساسيّة والمهمّة لاستكمال ما يدعى بالنظريّة العلميّة، وقد اختلف العلماء في تعريف النظريّة العلميّة ف"ألبير اينشتاين" ركّز على أنّ النظريّة العلميّة يجب أن تكون قائمةً على المنطق الرياضيّ في حين ذهب التجريبيّون مثل "كلود برنار" و "بيير دوهيم" إلى اعتبار أنها تكون قائمة على التجربة الحسية وأن العقل فقط يكون تابعا لها
في حين جاء الموقف النسبيّ مثل "غاستون باشلار" في تعريف النظريّة العلميّة على أنّها هي الحوار الدائم بين العقل والتجربة معا.
علم النفس هو علم عقلانيّ وبالتالي فالعقل أمرٌ مقبولٌ في مفهوم النظريّة العلميّة، وسأقدّم تعريفًا عامٍّا للنظريّة العلميّة بحيث لا يلغي العقل والتجربة.
النظرية العلمية هي مجموعة من المعلومات الضخمة التي تكون قابلةً للصمود أمام الفرضيّات الأخرى.
فعندما يريد عالم النفس أو عالم الاجتماع دراسة الظواهر الإنسانية تكون هذه الدراسة تجريبيّة كتجربة التنويم المغناطيسيّ حسب علم النفس أو الحوار الدائم التجريبيّ العقلانيّ بين الطبيب النفسيّ والمريض، هذه تجربةٌ مقبولةٌ في ميدان العلم وهي بالطبع جماع بين العقل والتجربة، لذلك نعتبر أنّه من الممكن دائما تحقيق المعرفة في العلوم الإنسانيّة إذا اعتبرنا الظواهر الإنسانيّة ( اجتماعيّة، نفسيّة، تاريخيّة ) شبيهةً بالظواهر الطبيعيّة، أي كأشياء خاضعة للحتميّة وقابلة لأن تخضع للمنهج التجريبيّ.
لقد تكلم الفيلسوف وعالم الاجتماع"أوجيست كونت" وعرّف علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعيّة واعتبر أنّه من الممكن دراسة الظواهر الإنسانيّة مثلما ندرس الظواهر الطبيعيّة وذلك بإخضاعها للمنهج التجريبيّ (الملاحظة، الفرضية، التجربة، الاستنتاج )،يقول"أوغست كونت":
تحدّد القوانين الطبيعيّة تطوّر الجنس البشريّ مثلما يحدّد قانون الطبيعة سقوط الحجر. وقد أسّس"كونت" علم الفيزياء الاجتماعيّة وأكّد على ضرورة دراسة الظاهرة الاجتماعيّة بطريقةٍ علميّة وضعيّة تمكّن من تحريرها من وصاية اللاّهوت والميتافيزيقا، إنّ الظواهر الإنسانيّة شبيهةٌ بالأشياء فهي مرتبطةٌ فيما بيْنها بقوانين ثابتةٍ.
في كتابه" قواعد المنهج السوسيولوجي"(13)Durkheim في حين ينبّه أشهر علماء الاجتماع إميل دوركايم
إلى ضرورة دراسة الظواهر الاجتماعيّة باعتبارها أشياءً، وتعريف الشيء عند دوركهايم هو الموجود وجودًا خارجيًّا كما أنّ الشيء حسب "دوركهايم" يقابل الفكرة، ومن ثمّ إذا كان الشيء معطى خارجي فإنّ الفكرة معطى داخلي وبذلك تنصّ أولى قواعد المنهج السوسيولوجيّ على معاملة الظواهر الاجتماعيّة ( الزواج، الجريمة، الطلاق، العمالة، الجنسية..) كأشياء مادامت تتميّز بالخارجيّة والوجود المستقلّ عن وعْي الأفراد ويخضعون لقسرها/إكراهها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها .
يرى الوضعيون التجريبيّون بشكلٍ عامٍّ أنّ الظواهر الإنسانيّة مرتبطةٌ فيما بينها بعلاقاتٍ سببيّةٍ ثابتةٍ مثلها مثل الظواهر الطبيعيّة وهذا ما يجعلها قابلةً للتفسير، هذا التفسير هو ما يحقّق العلميّة والموضوعيّة لأن الفهم سيفتح باب الذات والتأويل ويؤدي إلى نتائجٍ مليئةٍ بالإيديولوجيا والأحكام والتصوّرات المسبّقة.
ليس للفكر العلميّ غير طريقةٍ واحدةٍ وسبيلٍ واحدٍ في كلّ مجالٍ يدرسه وفي أيّة ظاهرةٍ يتعامل معها وسبيل العلم هو الملاحظة والتجربة وتجديد العلل- الأسباب- والبحث عن القوانين، ومن أجل ذلك يجب معاملة الظواهر الإنسانيّة كشيءٍ وأنْ نتخلّى عن تصوّراتنا المسبقّة بشكلٍ نهائيٍّ.
إنّ التفسير يقوم على ربط ظاهرةٍ بأخرى ربطًا سببيًّا وقد ربط "دوركايم" ظاهرة الانتحار بمجموعةٍ من الأسباب من خلال تطبيقه لمنهج التفسير ومن بين تلك الأسباب: التماسك الاجتماعيّ، التماسك الأسريّ، التماسك السياسيّ ... إنّ للعلم منهجًا للتفسير والتنبّؤ والاختبار ولا يمكن إنكار الفوارق بين مناهج العلوم الطبيعيّة ومناهج العلوم الإنسانيّة غير أنّه علينا أن نعلم أنّنا في العلم معنيّون بالتفسير والتنبّؤ والاختبار وان منهج الاختبار المفروض هو منهج واحدٌ دائمٌ.
[size=32]لـماذا[/size][size=32] لم تحقق العلوم الإنسانية تقدما ملحوظا يؤهلُها لبلوغ مستوى العلوم التجريبية ؟
[/size]
يبدو أنّ الميلاد المتأخّر للعلوم الإنسانيّة داخل حقل المعرفة البشريّة بوجه عامٌّ، له دلالته المعرفيّة والتاريخيّة فبعد أن تمّت السيطرة على الطبيعة الفيزيائيّة وفق التصوّر العقلانيّ الرياضيّ للكون، حققت العلوم الطبيعيّة تقدّمًا ملحوظًا جعل من الإنسان متسائلاً عن أصل أخلاقه وعلومه إنْ كانت فطريّةً أم طبيعيّةَ لأنّ الإنسان بطبعه كائنٌ واعي وراغب متصوّرٌ ومتخيّلٌ ويعيش داخل المجتمع ثم جاءت العلوم الإنسانية في بدايتها حاملةً انتصار التصوّر العلميّ الوضعيّ، في مناهجها وقوانينها، للظاهرة الإنسانية في مختلف أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة والثقافيّة، غير أنّ انتصار نموذج التصوّر العلميّ الوضعيّ سهم في إهمال عالم المعيش ومعنى الوجود الإنساني.
إذا كانت الفيزياء التجريبيّة قد تأخّرت قرونًا، مقارنةً بالرياضيّات، فليس لعلماء الإنسانيّات أن يندهشوا من بطء تكوّنها، بل يُمكنها أن تُعتبر، بنوع من الثقة، بدايةً جدّ متواضعةٍ مقارنةً بالعمل الواجب إنجازه والآمال المشروعة المعقودة عليها.
سبب تأخّرها هو لأنّ دراستها أكثر تعقيدًا، ولأنّ العالم عندما يدرس العلوم الإنسانيّة يكون بذاته جزءًا من المجتمع المدروس، وبالتالي فالذات المُلاحِظة لذاتها ولغيرها والمُجرِّبة على نفسها وعلى غيرها، يمكنها أن تتغيّر بحكم ما لاحظته وجرّبته، كما يمكن أن تؤثّر في سيْر هذه الظواهر وتغيّر طبيعتها فهذا الأمر شبيه بما يقع في الفيزياء فوسائل التجربة تُأثرُ في التجريب مثل تأثير الفوتون (الضوء) في الإلكترون، وهذا يجعل من الفيزيائيّ غير محقّقٍ للموضوعيّة في التجربة الفيزيائيّة، نفس المثال نطبّقه على الطبيب النفسيّ فنجده لكي يفهم نفسيّة الإنسان المريض عليه أن يراقب اللّاشعور المتجسّد فيه، لذا وجب عليه ألّا يظهر للمريض النفسيّ وهنا يكون الطبيب مراقبًا للمريض وهو متخفٍّ عنه، لأنه حينما يظهر يغيّر المريض من تصرّفه ويتظاهر بتصرّف أخر .. وهنا لا تتحقّق الموضوعيّة في دراسة الظاهرة الإنسانيّة إلّا بشرط عدم تدخّل الذات الملاحِظة في الظاهرة المدروسة .
في كتابه ابستيمولوجيا علوم الإنسانية (14)jean-Piaget يقول عالم الاجتماع والإبستمولوجي"جون بياجي" :
تخلق وضعيّة التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانيّة صعوبات إضافيّةً مقارنةً بالعلوم الطبيعيّة حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات والموضوع، وبعبارة أخرى، إن عمليّة إزاحة تمركز الذات حول ذاتها والتي هي عمليّة ضروريّة لتحقيق الموضوعيّة، تكون بالفعل أكثر صعوبةً في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات. وذلك لسببيْن بنيويّين إلى حدّ ما: أولهما، أن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول ذاتها(15) والذات العارفة يكون أقل وضوحا عندما تكون الذات الملاحظة جزء من الظاهرة التي يجب عليه أن يدرسها من الخارج، ثانيهما، يكمُن في أن الملاحظ يكون أكثر ميْلاً للاعتقاد في معرفته الحدسيّة بالوقائع لانخراطه في هذه الأخيرة ولإضفائه قيمًا محددةً عليها، مما يجعله أقل إحساسًا بضرورة التقنيات الموضوعيّة.
وهنا نستنتج أن الوضعية الابستمولوجيّة المركزية في علوم الإنسان تكمن في كون الإنسان ذاتًا وموضوعٌا، بل وذاتً واعية ومتكاملة مما يجعل الموضوعية(16) وشروطها الأولية المتمثلة أساسا في إزاحة تمركز الذات حول ذاتها، متعرّضةَ لصعوبات عديدة، فالعالِم لا يكون أبدا معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفيٍّ أو إيديولوجيٍّ .
الأربعاء مارس 02, 2016 10:36 am من طرف نابغة