نصوص من كتاب المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي
اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
الحوار المتمدن-العدد: 4480 - 2014 / 6 / 12 - 13:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المصدر :
هنا الفيلسوف السوفييتي، بونيفاتي ميخايلوفيتش كيدروف
للمنطق الشكلي (الرسمي) تعريف ذائع جداً: المنطق هو علم قوانين اسلوب التفكير الصحيح وأشكاله.
ولكن تعابير (اسلوب التفكير الصحيح) غير واضحة، اذ يمكن فهمها على وجهين: أولاً: يمكن فهمها بمعنى (التفكير الأمين)، يعني ذلك الذي يعكس الواقع الموضوعي بأمانة، والذي يفضي بالتالي الى اكتشاف الحقيقة.
ويمكن فهمها ثانياً: بمعنى التفكير الصحيح في(شكله)، يعني المطابق لقواعد منطقية محددة، وهذه المسألة هي موضوع المنطق الشكلي.
لقد اشار فريدريك انجلز الى انه لا يمكن اعتبار المنطق الشكلي مجرد اداة للبرهان، الا على اساس فهم محدود، وبالتالي خاطئ. يقول: (والمنطق الشكلي نفسه هو-قبل ان يكون اي شيء اخر- طريقة تستخدم للحصول على نتائج جديدة، وللتقدم التدريجي من المعلوم الى المجهول: وهذا صحيح ايضاً فيما يتعلق بالدياليكتيك، ولكن على مستوى ارفع بكثير.(
ان المنطق، يطرح المسألة العامة، المنهاجية، وبالتالي الفلسفية، ماذا يجب تان تكون بالمعنى العام، وسيلة معرفة الشيء، تلك التي تتيح اكتشاف الحقيقة.
وفي حين كان يجب على العلوم الخاصة ان تستقل عن فلسفة كانت في السابق وحيدة، غير مجزأة، لا يستطيع المنطق، بسبب طبيعته، ان يستقل عن الفلسفة، وهو العلم الذي يساوي ما لمضمون الفلسفة كلها من شمول، ويستخدم منهجاً في جميع حقول المعرفة. ان الفكر الفلسفي يتطلب فكراً منطقياً صارماً، صالحاً للعمل بواسطة المفاهيم. فكيف يستطاع فرز المنطق من الفلسفة-وهو الذي ساعد على اكتساب هذه الصلاحية، ويساعد هكذا على صياغة فكر فلسفي فعال-هذه الفلسفة التي يؤلف المنطق جزءاً منها؟
بما أن المنطق، يضع ويحل المسألة الفلسفية لاكتشاف الحقيقة-يعني القوانين التي يجب ان يخضع لها الفكر، وما عليه ان يتخذ من اشكال، لايصالنا الى النتائج الحقيقية- لهذا السبب يرتبط المنطق ارتباطاً لا ينفصم له عرى بنظرية المعرفة، وهذا يعني أن المنطق قد يكون مادياً او مثالياً، حسب اسلوبه في حل هذه المسألة الأساسية.
حتى في المنطق الشكلي، كما في كل فلسفة، اتجاهان متعارضان مباشرةً: الاتجاه المادي، والاتجاه المثالي، وهما يحلان، بصورة مختلفة المسألة الأساسية للمنطق: مسألة الحقيقة.
ان نزع القشور المثالية عن المنطق الشكلي، لهو احد (التصحيحات) التي قال بها فلاديمير لينين.
هناك من يعتقد، بأن المنطق الشكلي لا يدرس غير اشكال الفكر، في حين المنطق الدياليكتيكي يدرس مضمون الفكر نفسه، هذا الرأي خاطئ، ذلك أن المنطق الدياليكتيكي لا يدرس المضمون وحسب، وانما يدرس ايضاً اشكال الفكر. وأشكال الفكر الأساسية نفسها: المفهوم، الحكم، الاستنتاج، انما يدرسها-على حد سواء- المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي. انها تمثل الأشكال المنطقية التي يتلبسها الفكر عند انطلاقه لاكتشاف الحقيقة، والتي يتحدد فيها النتائج التي يحصل عليها الفكر. هذا هو الشيء المشترك بين المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي: وهذه الوحدة، تستبعد كل امكان للكلام عن منطقين منفصلين غير متلائمين في المبدأ، ومتنافين. ولكن ثمة درجات مختلفة في المنطق: الدرجة الدنيا، يعني المنطق الشكلي، والدرجة العليا، يعني المنطق الدياليكتيكي.
والاعتراف بدرجات مختلفة في المنطق، لا يعني بأن الاقرار بأن المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي لا يؤلفان سوى منطق واحد، ولا يعني انهما يندمجان، انهما يتمايزان باسلوب مواجهتهما الشيء، وبدرجة المعرفة التي يعطيانها عنه.
نفهم بكلمة (المنطق الشكلي) المنطق الذي يرتكز على قوانين الفكر الأربعة (الهوية، التناقض، العكس، البرهان)، والذي يقف عند هذا الحد، اما المنطق الدياليكتيكي فهو علم الفكر الذي يرتكز على الطريقة الماركسية المميزة لهذه الخطوط الأربعة: (الاقرار بالترابط العام، وبحركة التطور، وبقفزات التطور، وبتناقضات التطور).
من وجهة نظر المنطق الدياليكتيكي، ليست الحقيقة شيئاً معطى مرة واحدة لا غير، ليست شيئاً مكتملاً، محدداً، مجمداً، ساكناً، فالحقيقة هي عملية نمو معرفة الانسان للعالم الموضوعي خلال كل تاريخ المجتمع.
يقول فلاديمير لينين حول المنطق الدياليكتيكي: (المنطق هو نظام المعرفة، المعرفة هي انعكاس الطبيعة في ذهن الانسان، ولكنها ليست انعكاساً بسيطاً، مباشراً، كلياً. انها حركة نمو سلسلة من التجريدات وتكون مفاهيم وقوانين، الخ... ان الانسان لا يستطيع ان يدرك الطبيعة كلها على نحو كامل، في شمولها المباشر، انه لا يستطيع سوى الاقتراب منها، اقراباً مستمراً، بخلق التجريدات والمفاهيم والقوانين، وبخلق مشهد علمي للعالم، الخ).
ويقول في صفحات تالية: (ان توافق الفكر والشيء، هو حركة تطورية، ويجب ان لا يتصور الفكر (يعني الانسان) الحقيقة في شكل مجرد مشهد (صورة) شاحبة بدون حركة... ان المعرفة هي الاقتراب اللامتناهي، الأبدي للفكر نحو الشيء. يجب فهم انعكاس الطبيعة في فكر الانسان، ليس كشيء جامد مجرد بدون حركة، بدون تناقضات، وانما كعملية تطورية ابدية للحركة، لولادة التناقضات وحل هذه التناقضات).
عبر لينين عن هذا المفهوم للحقيقة، بوصفها حركة نمو تطورية، بهذه الصيغة الحاسمة: (من التأمل الخلاق الحي، الى الفكر المجرد، ومن هذا، الى النشاط العملي، هذا هو الاسلوب الدياليكتيكي لمعرفة الحقيقة، لمعرفة الواقع الموضوعي).
عبر فلاديمير لينين، عن ان وضع مسألة الترابط بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، يعود لطرح المسألة التالية: (هل تستطيع التصورات البشرية المعبرة عن الحقيقة الموضوعية ان تعبر عنها دفعةً واحدة، من كليتها، بدون شرط، وعلى نحو مطلق، ام انها لا تستطيع التعبير عنها الا بصورة تقريبية، نسبية).
وكتب لينين بعدئذ: (يرى انجلز ان الحقيقة المطلقة هي نتيجة الحقائق النسبية، والحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية هي حركة تطور تاريخية، هي حركة المعرفة).
ولهذا السبب بالضبط، يتناول المنطق الدياليكتيكي الماركسي، الشيء الذي يدرسه، من وجهة نظر تاريخية، من حيث هو عملية نمو تطورية. انه يطابق التاريخ العام للمعرفة، يطابق تاريخ العلوم. وينتج من هذا ان وجهة النظر التاريخية في تفسير الحقيقة، هي احدى المقتضيات الرئيسية للمنطق الدياليكتيكي الماركسي.
خلافاً للمنطق الدياليكتيكي، يعمد المنطق الشكلي الى حل مسألة الحقيقة حلاً أولياً، الى ابعد حد، بواسطة صيغة (نعم-لا): انه يعلم الاجابة بكلمة واحدة، وباختصار، وبصورة قاطعة على السؤال: (هل الظاهرة تلك موجودة ام لا؟) والاجابة مثلاُ ب(نعم) على السؤال: هل الشمس موجودة؟ وب(لا) على السؤال: (هل الدائرة المربعة موجودة؟). في المنطق الشكلي، يقف الانسان عند حد اجابات بسيطة جداً، اي عند حد تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ. لهذا السبب، تواجه الحقيقة باعتبارها شيئاً معطى، ساكناً، ثابتاً، نهائياً، ومتعارضاً تعارضاً مطلقاً مع الخطأ.
والواقع، ان الحقائق من هذا النوع (الحقائق الثابتة) لا تصادف الا في حالة ملحوظة عادية، مجردة من الأهمية الكبرى، فيما يتعلق بالمعرفة، في حالة سطحية كما يقول فريدريك انجلز: فالحكم عن وفاة نابليون، الذي يورده انجلز، هو مثال لهذه الحقيقة الأبدية، الثابتة، المطلقة: هذا المثل يأخذ به فلاديمير لينين فيكتب رداً على بوغدانوف: (توفي نابليون في 5 نوار 1821-هذه قضية صحيحة نقر بصحتها ما دمنا غير قادرين على تأكيد عدم دقتها أو غلطها، وما دمنا غير قادرين على دحضها فيما بعد، فنحن نعترف بأبدية هذه الحقيقة... ان المثل الذي اختاره انجلز هو في منتهى البساطة، ويستطيع كل انسان ان يجد بسهولة طائفة كبرى من هذه الحقائق الأبدية والمطلقة، التي لا تسمح للشك فيها الا للمجانين " كما يقول انجلز الذي يقدم ايضاً هذا المثال". لماذا يتحدث انجلز هنا عن السطحيات؟ لأنه يدحض المادية الجامدة والمذهب الغيبي، ويهزأ بهما، يعني بدوهرينغ، العاجز عن تطبيق الدياليكتيك على العلاقات بين الحقيقة النسبية والحقيقة المطلقة... كان دوهرينغ، في صدد أكثر المسائل تعقيداً، ومسائل العلم عامةً، والعلم التاريخي خاصةً، كان يسرف في نثر هذه الكلمات يمنةً ويسرة: الحقيقة النهائية، الأبدية. ولقد تهكم به انجلز لهذا السبب وأجابه: مؤكد أن الحقائق الأبدية موجودة، ولكن ليس من الذكاء استعمال كلمات طنانة لأشياء بسيطة جداً).
يعمل المنطق الشكلي عمله، بالضبط، بوساطة علاقات أولية وأشكال بسيطة، فهو لا يعتبر فكرنا وأشكاله المنطقية الا بمقدار ما يستطاع اعتبارها اشياء ثابتة، لا متحركة، ف(القوانين الأساسية) للفكر، وخصوصاً قانون الهوية (أ هي أ) انما هي معدة لكي ندرك-من تعدد ومن تعقد المعرفة البشرية التي هي في حالة تطور- الأجزاء التي يمكن في حدودها لموضوع الفكر او الفكر المختص بالموضوع، ان يعتبر ساكناً نسبياً، مماثلاً لذاته، يعني ايضاً جامداً. فالأحكام التي هي من نوع: (توفي نابليون في الخامس من نوار 1821)، انما تتصف حقاً بهذا الجمود. بيد أن المنطق الشكلي، مع وجود هذا الطايع الأولي الى ابعد حد، يعمل جوهرياً في فكر الانسان، في الاتصال بين الناس، في التفاهم المتبادل. وفي الحدود-وفي هذه الحدود فقط- التي يجب ان تبقى فيها افكارنا مستقرة مماثلة لذاتها، تكون مراعاة (القوانين الأساسية) للمنطق الزامية لجميع الناس، ومن جملتهم الدياليكتيكيون الماركسيون. ولسوف يؤدي خرق هذه القوانين، ضمن هذه الحدود، الى تقهقر في الفكر، ولسوف تنزع منه دقته، وينزع كل اساس للتأكيدات، الخ... اذن فمراعاة قواعد المنطق الشكلي، في الحدود الملائمة، ليست على الاطلاق ضد الدياليكتيك.
لنضرب لذلك مثلاً: لنفترض ان مدرساً يعالج مسألة معينة، محددة تمام التحديد، يخرج عن موضوعه اثناء القاءه تقريره فينتقل الى موضوع اخر. ولما كان الموضوع قد حدد اطار التقرير، وكان عليه حسب قانون المنطق الشكلي (أ هي أ) ان يبقى ثابتاً، فالمقرر بانتقاله الى موضوع اخر، قد خرق هذا القانون، وجعل فكرته غامضة على السامعين. وأياً كان الدياليكتيك الذي يستند اليه المحاضر في تقريره، فهو لا يستطيع تبرير مثل هذا الاخفاق، ومثل هذا التقصير في دقة التفكير، ولا تبرير في مثل هذه القفزة من موضوع الى اخر، فالدياليكتيك هو الذي يتطلب بالحاح من مقرر يعالج موضوعاً محدداً ان يعرض حقاً هذا الموضوع نفسه. دون الخروج عن الاطار المحدد له. ان خرق قانون الهوية من قبل المحاضر هو ضد الدياليكتيك الماركسي، ذلك لأن هذا الخرق يؤدي الى التشويش، ويضلل السامعين، ولا يسمح ببيان مضمون المسألة الموضوعة.
يبين هذا المثل:
أولاً: ان مراعاة قواعد المنطق الشكلي (حيث تدعو الضرورة الى ذلك)، هو شرط للفكر الدياليكتيكي.
ثانياً: انو قواعد المنطق الشكلي نفسها، وكذلك الأمثلة التي تطبق عليها، هي أولية، الى أبعد حد. فنسبة قواعد المنطق الشكلي الى الفكر هي مثل نسبة جدول الضرب الى الرياضيات او كنسبة قواعد الاملاء الى اللغة.
يجب معرفة، مراعاة قوانين المنطق الشكلي، ويجب ان لا تخرق (حيث يمكن تطبيقها)، ولكن ليس من الجدي المبالغة في أهميتها وحصر حركة تطور الفكركلها تقريباً في حدود مراعاةقوانين المنطق الشكلي.
نعرف المقارنة الشهيرة التي أجراها انجلز، من جهة، بين المنطق الشكلي والرياضيات الأولية، التي تعمل على اساس كميات ثابتة، (لا متحركة) والعلاقات البسيطة، ومن جهة اخرى، بين المنطق الدياليكتيكي والرياضيات العليا التي تعمل على اساس كميات متغيرة (متحركة) وعلاقات رياضية معقدة جداً. وكما ان الرياضيات العليا لا تحل محل الرياضيات الأولية، كذلك الديالكتيك لا يسعه ان يحل محل المنطق الشكلي، بل يفترض هذا الأمر، خلافاً لذلك، ان من الطبيعي استخدام المنطق الشكلي في كل موضع نستطيع ان نعبر فيه عن اغراض الفكر بمقولات ثابتة مطابقة لقانون الهوية المجردة (أ=أ).
عالج لينين هذه القضية التي وصفها انجلز وطبقها على حقل الحياة الاجتماعية، على سياسة الحزب، فكتب: (تشبه السياسة علم الجبر اكثر من شبهها الحساب او اقل، انها تشبه الرياضيات العليا اكثر من شبهها الرياضيات الأولية).
والمنطق الشكلي، بعدم مواجهته الأشياء او الأفكار المعنية بالأشياء الا حيث يمكن اعتبارها ثابتة، يضيق الى ابعد حد، افق المعرفة، ولكنه يضيقه بمقدار ما تحتفظ هذه الأشياء، او الأفكار المعنية بها، بهوية نسبية، مع ذاتها، وفقاً للقانون (أ=أ). أما الدياليكتيك يحطم ضيق المنطق الشكلي.
في حقل الرياضيات العليا، يحتفظ جدول الضرب بأهميته ويستخدم بكل دقة كلما كانت ثمة علاقات (2 X 2=4) (ذلك ان الرياضيات العليا تعمل، ليس فقط على اساس كميات متغيرة، وانما ايضاً-وهذا بدهي- على اساس كميات ثابتة)، فالدياليكتيك مثل الرياضيات، يفترض امكان وضرورة مراعاة قواعد المنطق الشكلي في كل مرة نكون فيها ازاء شروط تقتضي هذه المراعاة. يواجه المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتكي الشيء الموضوع للدرس مواجهة مختلفة، من ناحية افق كل منهما، بمقدار ما يحيطان به الشيء الموضوع للدرس، من اتساع.
فلنأخذ حكماً ما، بسيطاً جداً، يعتبره المنطق الشكلي بمثابة شيء مكتمل، معطى، وهو يحلله وفقاً لتركيبه، ويفككه الى اطرافه (الموضوع، والمقدمة والطرف الأوسط) وهو يدرس هذه الأطراف كلاً على حدة، وفي علاقاتها الخارجية، وبالتالي فهو يميز هذا الحكم تبعاً لنوع المقدمة والموضوع والطرف الأوسط، ويصنفه بين مختلف مراتب الأحكام تبعاً للعناصر-المستقل احدها عن الاخر- وهي عناصر الصنف، والكمية، والعلاقة، والكيفية.
أما المنطق الدياليكتيكي فهو لا يواجه هذا الحكم كأنه شيء مكتمل، بل بوصفه تعبيراً عن فكرة قادرة على ان تنمو و(تتحرك). وأياً كانت بساطة حكم ما، ومهما بدا عادياً هذا الحكم، فهو يحتوي على بذور او عناصر تناقضات دياليكتيكية تتحرك وتنمو، داخل نطاقها، المعرفة البشرية كلها. اشار لينين في عرضه للدياليكتيك الى انه ينبغي: (البدء بأية قضية كنت، بأبسط القضايا، وأكثرها عادية وشيوعاً، الخ... اوراق الشجر خضراء، ايفان هو رجل، جوتشكا هي كلبة، الخ... فحتى هنا ايضاً... دياليكتيك: فالخاص هو عام... يعني ان الأضداد-والخاص هو ضد العام- هي متماثلة... وحتى هنا ايضاً، ثمة مبادئ أولية، ثمة مفاهيم (ضرورة)، صمة صلة موضوعية للطبيعة الخ... فالصدفة والضرورة، والظاهرة والجوهر، موجودة هنا، فأنا اذ اقول: ايفان هو رجل، وجوتشكا هي كلبة، وهذه ورقة شجر الخ، انما انبذ سلسلة من العناصر باعتبارها عرضية، وأفصل الجوهري عن السطحي، واثبت التعارض بينهما، وهكذا في كل قضية-كما في كل خلية- نستطيع ان نكتشف بذور جميع عناصر الدياليكتيك).
يبين انجلز، (منطلقاً من كون كل معرفة واقعية مكتملة، انما تقوم فقط في اننا ننتقل من المفرد الى الخاص، ومن الخاص الى العام) ان الدرجات المتعاقبة لحركة نمو المعرفة تنعكس في الانتقالات المتعاقبة: من الحكم المفرد الى الحكم الخاص، ومن الحكم الخاص الى الحكم العام. لقد سمح تصنيف الأحكام الأكثقر عادية، التي يعمل المنطق الشكلي على اساسها، مثلاً: الحكم (الوردة هي حمراء)، (جميع الناس ميتون)، الخ... ان توزيعها الى زمر تجيء مطابقة لحالات المفرد، والخاص، والعام، قد سمح لانجلز باكتشاف الوشائج العضوية الموجودة بين اصناف الأحكام وعرضها من وجهة نظر نمو المعرفة البشرية. يوضح انجلز هذه القضية متخذاً مثالاً من تاريخ اكتشاف تحول الطاقة. وثمة مثال يعادله في جودته يقدمه لنا اكتشاف مندلييف لقانون الدورية. يبين هذان المثالان ان المنطق الدياليكتيكي هو: تعميم الانسان تعميماً واقعياً لتاريخ الفكر والعلم ومعرفة العالم الموضوعي.
والفكرة القائلة بأن الحقيقة هي حركة تطور، تجد تعبيراً عنها في قضية المنطق الدياليكتيكي التي تؤكد أن المعرفة تذهب من الظاهرة الى الجوهر ومن الجوهر الأقل عمقاً الى الجوهر الأعمق، كأن المعرفة تتغلغل الى اعماق الأشياء ذاتها، وتجتاز على ذها النحو سلسلة من الدرجات. ان السير الدياليكتيكي للمعرفة هو، في نظر فلاديمير لينين: (حركة تعميق، لا انتهاء لها، يقوم بها الانسان لمعرفة الأشياء والظاهرات، وحركات التطور الخ... حركة تذهب من الظاهرة الى الجوهر، ومن الجوهر الأقل عمقاً الى الجوهر الأعمق).
ليس ثمة اي اطار يحدد المنطق الدياليكتيكي في دراسة الأشيتاء، ان هذا المنطق يجهد لدراسة الأشياء، بكليتها الشاملة وبعمقها كله. كتب لينين معرفاً متطلبات المنطق الدياليكتيكي: (لكي نعرف شيئاً معرفة واعية، فيجب الاحاطة بجميع وجوهه، ودراسة هذه الوجوه، ومعرفتها بجميع ارتباطاتها وجميع تعابيرها غير المباشرة، ونحن لا نتصول الى ذلك بصورة كاملة، ولكن هذا المطلب الضروري يجنبنا الأخطاء واختبال الفكر) .وخلافاً لذلك، لا يأخذ المنطق الشكلي عادةً الا ما يقع اولاً وغالباً تحت الأعين، وما هو على سطح الظاهرات نفسه. هنا يتوقف المنطق الشكلي، وبهذا الحد يكتفي. انه لا يتخطى العلاقات الأكثر عادية، وبساطة، وشيوعاً، انه لا ينفذ الى مضمون الشيء الموضوع للدرس، ولا يكشف عن جوهره. وهذا ما يخلق الطابع الضروري للمنطق الشكلي.
يقول لينين: (يتخذ المنطق الشكلي تعريفات شكلية، مستنيراً الى ما يقفز الى الأعين عادة وفي الأغلب، ثم يتوقف عند هذا الحد).
وتبعاً لهذا، فالفرق بين المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي يقوم في واقع أن الأول يتوقف تماماً عند الدرجة الأولى من المعرفة، ولا يذهب الى ابعد من ذلك، في حين ان الثاني يتخطى سطح الأشياء.
ان المنطق الشكلي يضع ويحل مسألة الحقيقة بصورة مجردة الى ابعد حدود التجريد، فهو بانحرافه عن المجرى التاريخي للمعرفة، عن وجهة النظر التاريخية، التي تعتبر الحقيقة نفسها حركة نمو، لا يأخذ بعين الاعتبار ان الشيء الموضوع للدرس لا يستنفد. فالمنطق الشكلي يحيد عن مضمون الأفكار، وخصوصاً عن حركة هذا المضمون، عن نموه وعن الارتباطات العامة، وذلك ما يميز ايضاً المنطق الشكلي من المنطق الدياليكتيكي لأن: (المنطق الدياليكتيكي يعلمنا ان ليس ثمة حقيقة مجردة، فحيز الحقيقة ملموس دائماً وأبداً)، كما يقول لينين.
انطلاقاً من واقع ان المنطق الدياليكتيكي يبسط فعله الى حقل الفكر كله، الى حقل المعرفة، وان المنطق الشكلي يقتصر على قسم من هذا الحقل، حيث يمكن اعتبار الأشياء او الفكرة المعنية بالأشياء ساكنة نسبياً وثابتة، اقترح بليخانوف الحل التالي لمسألة العلاقة بين المنطق الشكلي والدياليكتيكي:
(كما ان السكون هو حالة خاصة من حالات الحركة كذلك الفكر (وفقاً للقوانين الأساسية للفكر) هو حالة خاصة من حالات الفكر الدياليكتيكي).
هذه القضية التي وضعها بليخانوف لم تنقد حتى الان، ونحن نتصور لأول وهلة انها متفقة مع الماركسية، وذلك على وجه التدقيق لأنهما تؤكدان وجهة النظر التاريخية التي يفتقر اليها المنطق الشكلي (الذي يعمل على اساس مقولات ثابتة) هي من مميزات المنطق الدياليكتيكي. وبليخانوف يؤكد، في الوقت نفسه، ان المنطق الدياليكتيكي لا يلغي استخدام المقولات الساكنة نسبياً في المنطق الشكلي، وانما هو يعترف بها بوصفها مطابقة للقوانين في بعض الحدود.
والواقع، ان هذه القضية التي وضعها بليخانوف هي بعيدة كل البعد عن الماركسية. انها تحتوي ضمناً على التأكيد بأنه كما أن السكون يؤلف جزءاً من الحركة، هو حالة خاصة من حالاتها، كذلك المنطق الشكلي الذي يدرس الأشياء او الأفكار في سكونها، يجب ان يكون جزءاً من المنطق الدياليكتيكي الذي يدرس الأشياء وانعكاساتها في الفكر، وهي في حالة حركتها وتغيرها. بيد ان المنطق الشكلي يدرس السكون، لا كحالة خاصة من حالات الحركة، يعني في ارتباطها بالحركة، وانما يدرسها تجريدياً، خارج الحركة. ان جميع طرائق المنطق الشكلي وقواعده وقوانينه تنزع الى التمكن من تجريد (لحظة السكون)، وفصلها عن التطور العام للفكر، او عن موضوع الفكر، لحصر دراسة مسألة الحقيقة في الظاهرات السطحية.
كيف نستطيع الاعلان بأن هذه الطرائق المستخدمة من قبل المنطق الشكلي لتحديد الفكر في اطار مقولات ساكنة (أ هي أ) هي حالة خاصة من حالات الفكر الدياليكتيكي؟ يقر المنطق الدياليكتيكي ويتطلب الدقة في حل المسائل، لكنه لا يتوصل الى ذلك بصرفه النظر عن تعقد هذه المسائل وتطورها (كما يفعل المنطق الشكلي) ولكن على العكس، بأخذه بعين الاعتبار، تعقدها وتطورها في حيز الملموس.
ويترتب على هذا اننا اذا امكننا القول، من وجهة نظر ما، ان دقة الجواب على السؤال الموضوع هي نتيجة (لسكون) معين، فان هذا يتم على نحوين مختلفين تماماً في المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي: فالأول يعتبر هذا (السكون) معزولاً عن الحركة، منفصلاً عن التطور العام للفكر، والثاني على العكس، يعتبره حالة من حالات الحركة، وبمثابة نتيجة حصلت اثر تطور الوعي، اثر حركة الفكر. وواضح اننا لا نستطيع بأية حال، اعتبار الطريقة الأولى كحالة خاصة من حالات الطريقة الثانية. انهما طريقتان مختلفتان ومفهومان مختلفان لظاهرة واحدة، لا غير.
ان المنطق الشكلي، يتناول سطح الظاهرات بمعزل عن سائر جوانب حقل المعرفة ويقتصر على هذا الحد، أما المنطق الدياليكتيكي، فيتناولها بارتباطها مع الكل بصورة ملموسة.
ومع ان المسالة في الحالتين تتعلق في الجزء نفسه من الكل، فليس هذا سبباً كافياً لكي نحول التصور المجرد للجزء، كما يتصوره المنطق الشكلي، الى حالة خاصة من حالات التصور الملموس للكل، كما يتصوره الدياليكتيك، فلن تكون هذه الحالة الخاصة تصوراً يقوم به المنطق الشكلي، بل تصوراً دياليكتيكياً للجزء المندرج في الكل. مثلاً، في كتاب (رأس المال) لماركس، ليست تعريفات السلعة حسب المنطق الشكلي هي التي تكون حالة خاصة، وانما هي الدراسة (التي هي دياليكتيكية، كما هي الحال في كتاب رأس المال كله) دراسة السلعة بوصفها (النواة) الأساسية للنظام الرأسمالي بأسره، بوصفها خليته.
ولا نستطيع ان نجعل من الدراسة المحدودة السطحية، الوحيدة الجانب، لشيء ما، الحالة الخاصة لدراسة كاملة معمقة لهذا الشيء نفسه، بحجة ان كل جانب من جوانب هذا الشيء يكون جزءاً من مجموع جوانبه! ان الطريقة التي لا تتناول الا جانباً واحداً، ليست حالة خاصة من الطريقة التي تتناول جميع الجوانب، ذلك لأن الدراسة المفصلة لمسألة ما، لا تحتوي قط على الضيق والسطحية بوصفهما حالة خاصة.
وكما اننا لا نستطيع القول عن ذراع مفصولة انها تؤلف جزءاً من جسم حي، فحص حقل (الاستعمال العادي)- بصف النظر عن الكل- يعني فحص سطح الظاهرات، او فحص (لحظة السكون)، بصرف النظر عن الحركة، لا يمكن ان يعتبر بمثابة حالة خاصة من فحص هذا الحقل في ارتباطه الملموس بالكل، ولا بمثالة حالة خاصة من فحص السكون بارتباطه بالحركة.
لا نستطيع اعتبار رأي صحيح، كامل، عن الأشياء بمثابة حاصل لاراء جزءية. ان حاصل وجات النظر التي لا تتناول الا جانباً واحداً من المسائل لا يؤدي الى فحص كامل للشيء، وانما الى انتقائية فارغة من المضمون، كما بين ذلك لينين في مؤلفه (مرة اخرى في موضوع النقابات).
ان تصور منطق (أوحد) ينطلق تماماً من قضايا بليخانوف، هذه الغريبة عن الماركسية، لهو خاطئ خطأً جوهرياً.
بين المنطق الشكلي والغيبية ثمة فرقاً جوهرياً: ان المنطق الشكلي يعمد الى التجريد، انه يحتفظ من العلاقات الواقعية بين الأشياء أو مقولات الفكر التي تعكسها، بفترة من الهوية، فترة من الاستقرار النسبي، ويعتبر هذه الفترة بصورة تجريدية ضارباً صفحاً عن التفاوت القائم باتحاد مع الهوية، وضارباً صفحاً عن التغاير، عن السيلان القائم باتحاد مع الاستقرار.
يؤكد بعض المناطقة أن الفرق الأساسي بين المنطق الدياليكتيكي والمنطق الشكلي ينحصر في أن الأول هو الانعكاس المطابق للواقع، مع ارتباطاته العامة ونموه، وتناقضاته، في حين أن الثاني ليس صورة عامة نموضج اصلي في الواقع المادي، ذلك لأنه لا يوجد في الطبيعة، ولا في المجتمع اشياء او علاقات تكون دائماً مماثلة لذاتها (أ هي أ) وتكون معفاة من التناقضات الخ... يقول هؤلاء المناطقة: ان المنطق الشكلي هو علم القوانين الأساسية للفكر، والفكر-في زعمهم- بخلاف الطبيعة والمجتمع، الذين يعكسهما الدياليكتيك، انما يتميزان بسكونه وخلو أشكاله من التناقضات. وهكذا نصل الى القول، بأنه ليس يوجد فقط اي تطابق بين قوانين العالم الموضوعي وقوانين الفكر، بل ان ثمة، على العكس، انقطاعاً شديداً فيما بينها، ولا يمكن ان يؤدي هذا الا الى ما زعمه (كانت) من انفصال بين الذات والموضوع، وبالتالي الى اللاأدرية والى المثالية.
ويكمن الخطأ هنا في جهل واقع هو أن الاستقرار النسبي للأشياء وصورها الذهنية، يستخدم قاعدة موضوعية (انطولوجية) للمنطق الشكلي وقوانينه.
ان دوام الأفكار المصوغ قانوناً للهوية المجردة (أ هي أ) ليس الا الصورة المجردة لجوانب مستقرة نسبياً-لأشياء وارتباطات بين أشياء، في الواقع نفسه.
بين المنطق الشكلي، والمذهب الغيبي ثمة صلة محددة، وهذا ما اعطى الأساس لأنجلز للكلام عن امكان تطبيق الغيبية (بمعنى المنطق الشكلي) في حقل الاستعمال العادي. والمنطق الشكلي، كالغيبية، ينطلق من الهوية المجردة للأشياء، أو الأفكار المعنية بالأشياء، مستخدماً بذلك جميع قوانين المنطق الشكلي وطرائقه. وفي الوقت الذي تجرد فيه الغيبية فترة الاستقرار، يعني فترة الدوام، فترة سكون الشيء وجموده، ولا حركيته، في هذا الوقت نفسه تجعل من هذه الفترة شيئاً مطلقاً، نافيةً نفياً باتاً سيلان الشيء، وتغيره، وحركته وتطوره. وتبعاً لهذا، فالغيبية تحول الهوية المجردة، التي يستمدها المنطق الشكلي من الواقع، الى تصور خيالي، الى هوية مطلقة، وبالتالي، فالمنطق الشكلي يضرب صفحاً عن التباينات القائمة (ضمن الهوية) كما يعبر انجلز. اما الغيبية فهي تنفي الوحدة بين الهوية والتباين، فالأول يتجاهل التغير، والثانية تنفيه. فالسكون في نظر الأول هو نسبي، وان كان لا يعتبره بمثابة حالة خاصة من حالات الحركة، نظراً لأنه يتجاهل التطور، أما الغيبية فتعتبر السكون مطلقاً لأنها تنكر الحركة.
وبايجاز نقول، أن الغيبية تنفي ما يكتفي المنطق الشكلي بتجاهله. ان المنطق الشكلي القديم الذي حدد المفهوم الغيبي عن العالم، لم يكن يفرق بين التجريد والنفي، فبالقياس اليه كانت الهوية المجردة تعني ذات ما تعنيه الهوية المطلقة-بالمعنى الغيبي. وحين تعمد الغيبية، الى اطلاقه، تجعله محالاً، وتبطل في الوقت نفسه فكرة ضرورته. كتب لينين في مؤلفه (مرض الطفولة اليساري في الشيوعية) : "ان اضمن وسيلة تحمل الناس على نزع ثقتهم من فكرة سياسية جديدة (وليس فقط من فكرة سياسية) وللاساءة اليها، هي المدافعة عنها بدفعها حتى المحال، والواقع ان كل حقيقة، اذا جعلناها (مفرطة)، كما يقول دياتزجن الأب، اذا بولغ فيها، اذا مددت لى ما وراء حدود تطبيقها الواقعي، يمكن ان تدفع الى المحال، بل انها تتحول حتماً الى شيء (محال)". وانها حقاً، لخدمة من وع الخدمات القاتلة، التي يقدمها القيبيون للمنطق الشكلي بمحاولة تعميمه، وبمحاولتهم ان يجعلوا منه منطقاً وحيداً يفسر جميع حركات تطور الفكر، وأن يستنفد بواسطة قوانينه الأربعة، الضيقة الناقصة الى ابعد حد، كل ما يسير الفكر وأشكاله.
ضد النزعة الذاتية في المنطق:
علينا اذا اردنا ان نستخدم المنطق استخداماً واعياً، اثبات الهوية حيث تكون قائمة في الواقع، والاحتفاظ بها ما دامت قائمة خلال تغيير ونمو الأشياء او الفكرة المعنية بالأشياء.
وحين نستخدم الهوية المجردة المثبتة التي يكونها المنطق الشكلي استخداماً صحيحاً، تطابق الواقع الموضوعي، اما كون الغيبية ترفع هذه الهوية المجردة الى صعيد المطلق، يعين انها تمددها الى جميع حقول المعرفة بدون استثناء، حتى الى تلك التي يتسحيل تطبيقها عليها، على نحو خاص، فلا يطابق الواقع مطلقاً بل هو نتيجة تفسير اعتباطي ذاتي بحت لقوانين المنطق الشكلي. ان النزعة الذاتية، والتعصب الذاتي، يؤلفان الأساس المعرفي للغيبية، بخلاف المنطق الشكلي الذي عليه، اذا طبق تطبيقاً صحيحاً، ان يتخلى عن الاعتباطية والذاتية. يقول انجلز متحدثاً عن الطابع الغيبي المحدود للعلوم الطبيعية في ذلك العهد الذي كان يفرض عليها (خطوط فاصلة) واختلافات في المراتب مثبتة تثبيتاً جامداً: (ان ما كان يعزى اليها من تحديات مثبتة وقيمة مطلقتين، لم يدخلهما في الطبيعة الا تصورنا الذاتي.). والتشويه الغيبي للمنطق الشكلي انما يظهر حين يبدأ الناس الذين ينطلقون من اعتبارات ذاتية محض، والذين يجهلون الحقيقة الموضوعية، ان يفرضوا ذهنياً على الطبيعة، او على المجتمع، او على الفكر بصفة رواميز مطلقة، ما ليس صحيحاً الا في الحدود الضيقة لحقل (الاستعمال العادي).
والفكر الذي يتتبع قواعد المنطق وحسب، ذلك المنطق المسمى ايضاً (حساً سليماً)، اذا خرج من بين الجدران الأربعة، جدران (الاستعمال العادي)، فهذا يعني محاولته الاحاطة، بصورة اعتباطية ذاتية- بواسطة هذه القواعد التي لا تطابق بظاهرات لا يمكن ان تعكس عكساً صحيحاً الا بالدياليكتيك.
ولكن، قد توجد ثمة نزعة ذاتية ليس فقط حينما نعمل على اسا المنطق الشكلي بمقولاته الساكنة، الجامدة، ولكن ايضاً حينما نعمل بواسطة مقولات مرنة متحركة، ففي الحالة الأولى نصل الى الغيبية، وفي الثانية نصل الى المذهب النسبي، والسفسطائية والانتقائية. كتب لينين مبيناً خصائص الفكر الدياليكتيكي: (ان المرونة التامة الضشاملة للمفاهيم، وهي المرونة التي تذهب الى حد تماثل الأضداد، ذلك هو جوهر القضية، ان هذه المرونة اذا استخدمت على نحو ذاتي تفضي الى: الانتقائية والسفسطة، والمرونة المستخدمة موضوعياً، يعني كونها تعكس جميع جوانب حركة التطور المادية ووحدتها، انما هي الدياليكتيك، وهي الانعكاس الصحيح للتطور الأبدي للعالم). وهو يوضح هذا التباين، هكذا: (ان المطلق، في نظر الدياليكتيك الموضوعي، هو في النسبي. اما في نظر الذاتية، والسفسطة، فالنسبي ليس الا نسبياً، وهو يستبعد المطلق).
وفي موضوع اخر، اشار لينين: (نستطيع بانطلاقنا من المذهب النسبي البحت، تبرير كل نوع من انواع السفسطة والاقرار مثلاً في نطاق (النسبي) بأن نابليون توفي في الخامس من نوار عام 1821، او لم يتوف).
يقتضي المنطق الدياليكتيكي الماركسي ان يطابق انعكاس العالم الموضوعي في ضمير الانسان الشيء المنعكس، وأن لا يتضمن شيئاً غريباً عنه، شيئاً جيء به على نحو ذاتي. ان التفسير الذاتي، وفقاً لوجهة النظر النسبية لمرونة المفاهيم، هو اضافة غريبة، تماماً كالمبالغة الغيبية الذاتية في تجريدات المنطق الشكلي.
ويجب في هذا الصدد ذكر التأكيد الخاطئ الذي يقول بأن التدقيق هو من المقتضيات المميزة للمنطق الشكلي، خلافاً للدياليكتيك، وأن ذلك يكون بالتالي امتيازاً للمنطق الشكلي، ومن ثم يستنتج: اذا كانت الفكرة دقيقة، فهذا يعني ان لها طابع المنطق الشكلي، هذا الاستنتاج خاطئ كل الخطأ.
ان الدياليكتيك، لا يمكن ارجاعه بأيه حال، الى النزعة النسبية، وان كانت تدخل فيه فترة من النسبي. ولكنه ليس اقل من المنطق الشكلي تطلباً للدقة في الفكر، وهو لا يرضي بأجوبة غائمة مبهمة، غير دقيقة، على اسئلة موضوعة وضعاً حسناً.
فالدياليكتيك، لا يقر مثلاً بأن يجاب على السؤال: (كيف تسير في لحظة معينة، الحركة الثورية لبلاد معينة: انحو هبوط او نهوض؟) لا يقر بأن يجاب على هذا السؤال: نحو الهبوط، ونحو النهوض معاً. ذلك لأنه ليس ثمة في الواقع حركات من هذا النوع في الحياة الاجتماعية. ان جواباً كهذا لهو سفسطة نموذجية، ذلك لأن مرونة المفاهيم مطبقة هنا على نحو ذاتي لا وفقاً للواقع الموضوعي.
ليس ثمة دياليكتيك يعفينا من اعطاء جواب صارم الدقة، غير ملتبس على سؤال ملموس. واذا كان السؤال موضوعاً وضعاً حسناً، بصورة ملموسة، فالدياليكتيك بالضبط- وهو الذي يقر بأن الحقيقة ملموسة- هو الذي يستطيع دائماً ان يعطي جواباً دقيقاً، لا المنطق الشكلي الذي قد يورط احياناً الفكر في مأزق بسبب طابعه المجرد، اذا توقفنا عند حدود مقتضياته الشكلية بدلاً من أن نأخذ بعين الاعتبار مقتضيات المنطق الدياليكتيكي.
وكما يقول لينين، فان كل قسم من المنحى المعقد، لمعرفة الانسان، يمكن ان يحول بصورة اعتباطية ووحيدة الجانب، الى خط مستقيم مستقل، يؤدي دائماً (اذا لم نرى الغابة خلف الأشجار)، الى المستنقع، حيث تحتفظ به دائماً المصلحة الطبقية للطبقات الاستغلالية.
بونيفاتي ميخايلوفيتش كيدروف 1903-1985، باحث سوفييتي، فيلسوف في مسائل المنطق، مختص في مسائل المعرفة والفكر، كان عضواً في اكاديمية العلوم السوفييتية، وكان عضواً في الأكاديمية العالمية لتاريخ العلوم.