[رسم من الفيلم][مقتطف من كتاب جديد عنوانه "إلى أن قامت الحرب: نساء في الثورة السورية"، سيصدر قريباً لدى "دار رياض نجيب الريس" في بيروت. يستند الكتاب إلى مقابلات أجرتها جمعية "استيقظت" السورية النسوية مع نساء سوريات، وقد سجّل فريق "استيقظت" شهاداتهنّ وسِيرهن في يوميات الثورة. قام الكاتب بصياغة هذه الشهادات والسيَر وكتابتها وإعدادها للنشر].
ذات الرداء الأحمر وذات الحجاب الأبيض
في اعتصام "أوقفوا القتل"، قطعت صفاء شارع البرلمان وبيدها شمعة. أوقفت السيارات عند إشارة المرور، وهتفت: "الله سوريا حرية وبس"، ليهتف فوج الشبيحة الذين سبقوا المعتصمين القليلين إلى المكان: "الله سوريا بشار وبس". أوقعها أحدهم أرضاً، فظلت تركله، وتركل الهواء، وهي ملقاة تحت قدميه في عرض الشارع. هاربة، أمام مقهى في شارع العابد ليست متأكدة من اسمه "الروضة"، أعادتها إلى الوراء استغاثة فتاة وحيدة، ذات ثوب أحمر ويضربها شخصان: "كرمى لله يا خالة لا تتركيني". كان الشبان قد اختفوا إذ بدأ الضرب. صفاء إحدى السيدات اللواتي تتحول دماثتهن ووداعتهن إلى "شراسة في الحق" حين يخلّصن بعض الفتيات من قبضة الأمن، متشبثات بهن، مثلما فعلت أمام جامع الحسن في الميدان وجامع الإيمان، وتمنت لو فعلت الشيء ذاته أمام الجامع الأموي، لو كانت هناك إلى جوار الفتاة، ذات النظارة الشمسية وعلم سوريا يدثر كتفيها، لتسحبها من التظاهرة الصغيرة التي اعتبرت إحدى الشرارات الأولى لبدايات الثورة. شبيح أحمر اللحية، وعضلاته كلاعبي كمال الأجسام، أمسك بصفاء قبالة البرلمان ونزع حجابها الأبيض. جرّها، وهو يركلها ويصفعها، إلى سيارة انطلقت إلى فرع تسميه فرع حافظ مخلوف، حيث التعذيب على أشده، وشعر الفتيات المقتلع يغطي الأرض في الممرات وغرف التحقيق. تقاسمت صفاء المنفردة مع هبة التي أسمعها الضابط في التحقيق أنه "حتى في أمريكا هناك رشى وسرقات يا بنتي. الدكتور بشار، سيادة الرئيس، هو الذي عيّن رجال الأمن، والتشكيك بهم تشكيك به". كانت كلتاهما تتيمّمان وتصليان في السر، تلهجان بالأدعية، وتستظهران ما تتذكران من سورة "يس"؛ هبة الطالبة الجامعية التي كانت تنام كثيراً، فتنعس حين تخاف وتغفو في الخطر، وتخدر بنومها أطراف صفاء التي أراحها الإفراج عن رفيقتها الصغيرة، فقد اتسعت فسحة النوم على الأقل، وصار بوسعها أن تمد أطرافها التي ظلت تحتال على طيها وبسطها أياماً، حائرةً كيف ستنام.
أفرج عن هبة بفردة حذاء واحدة، بعد أن تركت تحت الوسادة سواراً من الصوف، مغزولاً على شكل علم الاستقلال أو علم الثورة، ولفتتها في الخارج كلمة "حلاوة" التي سمعتها بالصدفة، إذ استرجعت على الفور حلاوةَ السجن الأشبهَ بالتراب. كانت قد قرأت فظاعات لا تُنسى في رواية "القوقعة"، واستفادت مما قرأت في التحوط والحذر. سُرق هاتفها في باص الأمن، على الطريق إلى الفرع، وشهدت كيف تحرش عنصر بفتاة كانت تبكي وتتوسل ألا يغتصبوها، فمدّ يده من المقعد الأمامي وقرص رجلها، ثم شد شعرها وانهالت الأكفّ، والفتاة الباكية نسيت كيف تُتلى الفاتحة، في ذاك الهلع الذي زاد عناصر الدورية سعاراً، فبدأوا يعابثونها بفكرة الاغتصاب المروعة حين علموا أنها من حمص. كانت المعتَقلات مرغَمات على التحديق بأرض الباص، وترديد النشيد العربي السوري. ممنوعٌ رفع الرأس. كان الإطراق خيراً من الحملقة بتلك الوجوه البغيضة. المعتقلات لسن سواسية، بعضهن عائدات من سوق الصالحية وعبرن بالصدفة- نائحات أمضين على تعهدات بيض الأوراق وخرجن بعد تدخلات سريعة غامضة، وبعضهن من "المندسات" اللواتي لا يندر بينهن الاعتقاد بأن دورهن قد انتهى، وقد قمن بما عليهن، ويتوجب الآن الرضوخ لإلحاح الأهل بالتوقف عن أية مشاركة في الثورة. أسكت الضابط اللواتي بقين حين بدأن الحكي جميعاً. في لغط الخائفات ذاك وقفت هبة التي إذا خافت ضحكت، كتمت ضحكها لكيلا تشتد الضربات على ظهرها، وهي المحجبة الوحيدة بينهن، الموصومة بـ "أم بقجة"، ترى بزاوية عينها الرقاب التي احمرّت بالصفعات، وكيف تقطع الباكياتُ الممرَّ إلى المهجع حيث أينما التفتن وجدن "يا رب" محفورة في الجدران، وعلى وجوه بعضهن وأذرعهن الخدوش التي تركتها أظافر شبيحات هاجمنْهُنّ أمام البرلمان، وهن يصحن صياح رجال الأمن نفسه: "هاي هي الحرية اللي بدكن ياها؟"
الأب والابن وجسد الأم
اعتصام آخر من أجل أطفال الحولة أمام المستشفى الإيطالي بدمشق. كان مخترَقاً. اعتُقلت نساء عديدات، إحداهن صفاء التي اعتادت لسكناها في الغوطة أزيز الرصاص. اقتربت من عنصر يطلق النار في الهواء، وقالت: "نحن أهلك وأخواتك"، كررت ما قالته من قبل لعنصر أمن آخر أطلق النار أثناء مأتم في القابون، وأتاها الجواب: "انقلعي وإلا قتلتك!" لم يستجب لصيحاتها أحد من المارة أو أصحاب المحلات. لم تكن لتتخيل قط مقدرتها على مواجهة رجل أمن هكذا. العنصر الذي تعرف إليها في فرع الخطيب تشفّى من معاودتها الاحتجاج، فآذى قدمها وأغرقها بالبصاق. ما رُوعيت بتاتاً. تمادى في تحقيرها تحقيراً مضاعفاً: "أنتم الفلسطينيون خونة، بِعتم أرضكم للصهاينة، وتريدون الآن أن تبيعوا أرضنا أيضاً. لُعن أبوك يا بنت الكلب..." يمطرها بالشتائم، هي جالسة على كرسي، معصوبة العينين ويداها مقيدتان وراء ظهرها، وهو يحوم زاعقاً متوعداً بالضرب وما هو أشنع، ما سمعتْ عنه وما لم تسمعْ. أشدُّ ما آلمها، وأبكاها حين عادت وحدها، أنه شتم أباها المتوفي، المترجم الفلسطيني الذي درست الأدب الإنكليزي بمشورته، وكان زميلاً لتوفيق البجيرمي في كلية الآداب بدمشق. عنه أخذتُ الترجمة التي أعيش من مزاولتها، تقول صفاء، وظللتُ أزاولها بالمراسلة من المنزل. لازمتُ البيت بعد أن أنجبت أولادي. أنهى الإنجاب أربعة أعوام من العمل الرتيب في المراسم بوزارة الخارجية. كان المردود معقولاً، وابنتي المقيمة في الإمارات تزودني بالكتب الأجنبية، وحالياً ترسل إلي كل شهر مبلغاً صغيراً، يكاد لا يغطي شيئاً من أبسط النفقات. أعيش على الكفاف، لكنني سعيدة على الرغم من كل شيء. مثلي مثل الذين خسروا منازلهم وباتوا في العراء، لكنني على الأقل تخلصتُ من قيود زواج مبكر أثقل بفشله على حياتي كلها. كان الانفصال محتماً. كنا قد وصلنا إلى نقطة تبدد فيها معنى الأمل. ثلاثون عاماً من التعاسة وضعتُ لها مختلف الأقنعة، ولا أعلم حقاً كيف مرَّ كل هذا الوقت لأقف الآن على عتبة الخمسين.
تتذكر صفاء كيف أغضى أبوها، وتسارعت خطاه حين رأى مع طفلته رجلين يضربان مراهقاً في حديقة السبكي. لم يجب عن استفسارها "من هؤلاء؟"، فظنت رجلي الأمن من أقرباء الفتى. كذلك لا تنسى رجل أمن آخر تفرّج عليها وهي طالبة إعدادية تُضْرب أمامه في غرفة الإدارة، فقط لأنها قالت بطيش المراهقات "أنا أكره حافظ الأسد"، ومديرة المدرسة تنوب عنه في الضرب إلى أن أمرها "كفى". بعد انصرافه اعتذرت منها المديرة. لقد اضطرت إلى القيام بذلك، لأنه هددها شخصياً. صفاء ترعرعت على الكتمان، فالناس اعتادوا أن يخفِضوا أصواتهم، ويتلفتوا عند الكلام في المحظورات السياسية، ولو حتى داخل منازلهم، كأن المخبرين مبثوثون في الهواء. فكيف ستنسى الحقد الذي ربته المظالم والفقر، وأيُّ وعي تفتح على المأساة منذ البداية؟ لو كنا في عهد حافظ الأسد، تقول، لأبادنا أجمعين منذ البداية، مثلما فعل هو وأخوه رفعت، فأبادا أهالي حماة ودمّرا مدينتهم، أما ابنه فاعتمد الإبادة التدريجية. بمتابعة ما جرى في تونس ومصر وليبيا، مثل سوريين كثيرين، ترقبت صفاء في السر وصول الموجة إلى سوريا. استبعدت ذلك، مرجِّحة أن السوريين لن يثوروا أبداً. ومثل كثيرين أيضاً، ترى في بشار الأسد شخصية مهزوزة تتفلسف، لكنهم أذيال نظام أبيه الذين رفعوه إلى سدة الحكم، هُم مَن استماتوا في الذود عن مصالحهم، لأن رحيله سيؤذن بنهايتهم أيضاً، فواصلوا القتل وإطلاق أوامر القتل، وعلى يديه وأيديهم تحققت كل الكوابيس، إذ لم يتخيل أحد الانتهاء عند هذه الأشكال المريعة من الموت. لم تصدّقْ ما رأته على شاشة التلفزيون من تهليل وتصفيق لضحكاته البلهاء، في خطابه بمجلس الشعب بعد مقتلة درعا الأولى. أمام ذاك المبنى نفسه ضُربتْ، وتحت قبته شُرّعت التجاوزات، وجرى تعديل الدستور خلال دقائق ليرث الابنُ كرسيَّ أبيه. ربما اعتدنا القمع، تقول صفاء، وعلينا التخلص من هذا الميراث. لن نصل إلى أية نتيجة سريعاً، لن يلمس نبيٌّ أحوالنا بمعجزة. لا أصدق، ولا أستوعب، كيف لنا أن نظلم بعضنا بعضاً بعد كل هذه المحن، ونتحسّر لأن هذه الأهوال لم تقع في عهود استقرار الأسدين، إذ كنا ضعافاً وجبناء. أيامنا مفتوحة على المجهول، وطموحاتي محدودة وقليلة، إذ ما نفع الآمال الكبرى في واقعٍ أعرفه جيداً؟ لو عاد الزمن إلى الوراء لأقدمتُ مرة أخرى على ما قمتُ به خلال الثورة. أعلم أن العدل سيتأخر كثيراً، ولكن ربما علينا مواصلة الصبر، ومواجهة أنفسنا دون تذمر، وقد يأتي أكفّاء لا يهدرون دماء الشهداء سدى.
سُئلت صفاء في فرع الخطيب عن ابنها. "لا بد أنه مع الجيش الكر"، سخر المحقق، متوعداً بأنهم سيجلبونه ويعذبونه أمامها. لم يعرف أحد بما تضمر من ألم. ابنها طالب طب أخّره عن التخرج اعتقاله مرتين، وقد خلع الأهالي لقب "دكتور" على أقرانه من طلبة الطب الذين عملوا في المستشفيات الميدانية في الغوطة. اختفى في إحدى المظاهرات السلمية الأولى في حرستا، حين لم يكن للمسلحين أيُّ أثر؛ تم توقيفه يوماً واحداً. ذهبت أمه تبحث عنه بين الجرحى في المستشفى الوطني، ورأت بأم العين كيف أردى رصاصُ الأمن شاباً شهيداً. اعتُقل ابنها مرة أخرى فيما بعد، ثلاثة أسابيع في فرع فلسطين. زار وأصدقاءه أمَّه، بعد خروجها من اعتقالها الثاني، مهنئين محتفين بسلامتها، وعانقها عناقاً مشتاقاً حاراً. لكنه بعد القطيعة بين أبويه، لم يتفهم وجهة نظر أمه بتاتاً. إنه لا يقبل بظهورها كمطلقة في المجتمع، ويرى أن الأنسب هو بقاؤها منفصلة دون طلاق رسمي. اتصل بأزواج النساء اللواتي يدعمن أمه، وأفهمهم ما معناه "إن أمي خطر على زوجاتكم". إثر هذا التحذير من شاب مستقيم مثله، ازدادت قناعاته تزمتاً في الآونة الأخيرة، بتن يخشين الاحتكاك معها، ورفضنها مصدقاتٍ ما سمعنَ، أو مجاراةً لرفض أزواجهن. ما عدن يرسلن إليها التبرعات التي تأتي من أقرباء لهن خارج البلاد مقتنعين بقضية الثورة. لكن رب العالمين لا يغلق باباً إلا ليفتح غيره، فليسامح الله ابني الذي أساء إلي كثيراً، تقول صفاء. إنه قطعة مني ونسخة عني. صادفته منذ أيام في أحد شوارع مسرابا. اندفعتُ نحوه متلهفة لأحضنه، فأمسك بيدي على الملأ، راجياً: "لا تحرجيني". أنا الملامة لأنني عصيته.
حين كان المحقّق يسألها عن أسرتها، ربما لم يكن يعلم أن حياتها تلك قد انتهت تقريباً، ولم يبقَ لها أحد. إنها الوحيدة بين إخوتها وأخواتها مَن شاركت في الثورة، شدّت على يدها أختُها التي هُجّرت من داريا. ابنتها طالبة البكالوريا تقيم مع زوجها، كانت ترعاها وتصحبها حتى إلى باص المدرسة، كما لو كانت طفلة، ولو رأت حقاً أحوال مَن تعمل أمها من أجلهم لغيّرت رأيها وازدادت عطفاً. لعلّ البيت الكبير والدافئ، في كنف والدها وعمتها، أعماها مؤقتاً وأنساها الشظف الذي يقاسيه الناس.
مسَّ قلب صفاء في المحكمة شرطيٌّ شابّ خاطبها "يا أمي"، صعد بها الدرج إلى قاعة المحاكمات في القصر العدلي، معتذراً وهو يضع القيود في يديها، لأن الكاميرات تراقبه. خفّف موقفه من الوقع المهين لتفتيش الشرطية. برجوعها إلى السجن حاولت صفاء بعضاً من المرح، فبدتْ كمَن تستعيد أحلام صباها المسكونة بالأفلام المصرية، كالحلم بالعمل محامية، لتساعد وتفهم أمثال الراقصة "عبدو" التي كانت تُضحك السجينات بالرقص في المهجع؛ نصحتها صفاء بأن تستهدي بالله، وتفتح بقالية عند خروجها، عوضاً عن العمل في الطاحونة الحمراء وملاهي أخرى.
فور الخروج من السجن، برائحة المعتقلات التي تغلغلت في ثيابها وجلدها، ذهبت صفاء تعود أمها التي خرجت للتو من العناية الصدرية المشددة. رجتها أمُّها المريضة، مثلما كانت ترجوها دائماً، الكفَّ عما تفعله في الريف، والاعتناء بمظهرها وعدم ارتداء نفس الملابس دائماً. توفيت بعد أيام قليلة، ولامت الابنة نفسها كأنها أحد أسباب ذاك الموت، هي التي حاولت في المعتقل أن تحتوي وتساند المنهارات وتضحك الباكيات، فذلك بالنسبة إليها دورها الطبيعي، غدت بغتة مستنزَفة، وأمامها أيام طوال من الوحدة والنحيب والكآبة البشعة. لكلِّ فعلٍ ضريبته، لقد ابتعدنا عن ذوينا وخسرناهم، ولا بد لنا من بداية. عانيتُ الأمرّين مع زوجي، فهو كرجل شرقي لا يراني نداً له، ولا يجوز لي إبداء رأيي في شيء، تقول صفاء. تفاقمت خلافاتهما تدريجياً، بدءاً من مشاركاتها الأولى في تنظيم مظاهرات صغيرة، فما عاد يصادفها دائماً، مثلما اعتاد في الماضي، عند رجوعه إلى البيت. بدأ يُملي على زوجته صواب السلوك، ويسيء الظن بالنوايا، فالخروج عن رأيه نقيصة لكليهما وعيب مشين. "أرأيت ما ألحقتهِ بنفسكِ وبنا؟" أسمعها موشَّحاً من التوبيخات بعد اعتقالها، وكأن كلَّ مَن اعتُقلت اغتُصبت. الاغتصاب، هذا الهاجس الأفظع، هو ما يتوارد أولاً إلى أذهان معظم الناس حين يُحكى عن اعتقال أية امرأة، لكن صفاء ليست إحدى ضحاياه اللواتي يكتمن رعبهنّ بالتناسي. طلبت مخالعة بالتراضي يستلزم حصولها موافقة الزوجين. رفض الزوج، وأنّب المحامية عندما زارته ليتفاهما، ففي دعوة التفريق يستطيع المماطلة أعواماً، لتظل زوجته لا تدري ما تفعل في هذه الحيرة، والعمر يتقدم والوقت يمضي. القوانين لا تنصف المرأة، والمآسي تتوالى، ولا حب يخفف القليل من شدة وقعها. سُئلت كثيراً عن هذا الانفصال، وما دواعيه الآن. ربما لم أكن الأنثى التي حلم بها، تقول صفاء. ميولها تعاف المكياج والتبرُّج، ولعلها أخطأت بهذا الإهمال الذي لم يطَلْ تدبيرها شؤون المنزل والمطبخ. لم يخدع أي منهما الآخر، ولربما أسعده الارتباط بامرأة أخرى. لكن بعض العلاقات قد تدوم أكثر بالكتمان، وليس من الضروري المصارحة والإفصاح عن كل شيء، حتى لأقرب المقرَّبين.
حدّثتْ إحدى صديقاتها الصغيرات: هل من المعقول أن يرضى الله بممارسة المرأة للجنس مع زوجٍ لا تحبه في علاقة مقرفة للغاية، بينما يتوعدها بالويل إذا مارست الحب مع رجل آخر تحبه؟ أليس هذا بالأمر الغريب؟ حياتي كجسدي ملكي أنا، لا ضرر ولا ضرار، تقول صفاء. ستُغفر الذنوب، إلا الإساءة إلى الآخرين وهتك أعراضهم. لا يغرّ حجابي أحداً ممن يعرفني. لقد وضعته عن قناعة شخصية وأنا في الثامنة والعشرين من عمري. ليس فرضاً أو إكراهاً، وإن تمنّيته لكل النساء. أصلّي ولست بمتعصبة لأحد. لا أتنقّب ولا أرتدي المعطف الطويل، وأدرك معنى أن تحكمنا دولة إسلامية ستكون أولى مهماتها إلغاء أي دور محتمل للمرأة وإقصائها تماماً، وآنذاك سيبدو أي حديث عن المساواة والحقوق ضرباً من العبث. شهدتُ في الغوطة الشرقية بعض المواقف، فما ظننته أقصى ما أستطيع بذله من أجل الثورة لم يرَه المحافظون والمتشددون إلا شقاً لعصا الطاعة الزوجية، لأن مكاني الطبيعي داخل المنزل. في إحدى المرات، شاركت في دورة تمريض في مستشفى ميداني بمسرابا، وكنت أراقب حالة مريض ينتظر نقله إلى مكان آخر للعلاج حين جاء شخص يغضّ طرفه. سألني الخروج من الغرفة لأن ثمة رجالاً يرغبون في الدخول. ظننته يمزح، فأجبتُه: دعهم يدخلون. ثم عاود الطلب نفسه بخروج "الحرمة"، كلّمني كأنني غائبة لم أقُلْ شيئاً. ما هذه المزحة، قلتُ وخرجت. حادثتُ رجلاً آخر في الممر، فظهر بغتة رجل مسلح لامني: "نساء يكلمن رجالاً. اتقوا الله، القذائف تنهمر، وأنتم تكلمون بعضكم بعضاً!". علا صوتي وقد سمّى المرأة "حرمة" أيضاً؛ ذكّرته بالفتيات الأربع من عائلة الترك في حرستا، كيف اعتقلهن الأمن الجوي ليلاً وهنّ بثياب الصلاة، بسبب عمّهم الشهيد حسان الترك، وهنّ لم يكن قد شاركن في أي شيء. كنتُ قد خرجت وامرأة أخرى فقط للاعتصام من أجل الإفراج عنهن، مع عدد كبير من الرجال. في يوم هادئ آخر، دخل رجل آخر إلى ذاك المنزل نفسه الذي صار مستشفى ميدانياً. وجد ثلاث ممرضات يافعات، والغرف خالية من المرضى أو الجرحى، فوبّخهن: "صار المستشفى كالجامعة". ما أخفى رغبته بأن يقتصر كل عمل على الرجال فحسب، لأن وجود المرأة هنا يعيق سير العمل، بل من غير المقبول أساساً أن تعمل، ناسياً في حنقه احتمال وصول المريضات أو جريحات القصف وغارات الميغ. بعد الصبر والاحتجاجات المتكررة، عوملن أخيراً ببعض الاحترام وإن على مضض. كان فرضُهنّ هذه المشيئةَ البسيطة منقوصاً، إذ جُوزيت المرأة أحياناً بالطلاق الذي ازدادت حالاته بعد الثورة، لأن الرجل لم يستطع أن يتقبل فكرة خروجها عن أمره. لقد خسرت، على الرغم من بعض المكاسب المحدودة التي جنتها، ومشاركتها في الثورة تُظهِرُ طبيعة المجتمع جيداً، فقد ظلت محدودة جداً، خصوصاً بعد موجات النزوح الكبيرة في مدن وبلدات ريف دمشق. الرجل يبدي امتنانه على ما تبذله زوجته، لكنه لا يسمح لها أن تقوم بمثل ما يقوم به. يقلقه أن تغادر المنزل، وربما أهانها وضربها، وربما أيّدته نساء أخريات فيما يذهب إليه. لا يزال عملها يحرجه، فهذا جزء من تنشئته. قد يؤثِرُ إجهادَ نفسه في القيام بعملين على السماح لها بالعمل، تقول صفاء. كنتُ ذاهبة برفقة طبيب مسنّ إلى مدرسة نزحتْ إليها عوائل عديدة. على الطريق نادتني سيدة تحمل طفلها الذي لا يتجاوز عمره بضعة أشهر. استوقفتني على استحياء. "ابني مريض"، قالت، "الله يخليك، خذيه أنتِ إلى الطبيب بدلاً عني، فنقابي ليس معي".
**** *****
كانت الجنائز مظاهرات ضخمة أحياناً. ظلت صفاء تخرج في تشييع الشهداء منذ مطلع نيسان 2011، امرأة وحيدة أحياناً بين آلاف المشيّعين في حرستا، فالنساء يلازمن باب الجامع، ممتنعاتٍ عن السير خلف الرجال، ولا تعلم من أين أتى هذا التحريم، وتضييقه على تكريم الشهداء كما ينبغي. الحرستاويات لم يقتدين بالدومانيات الأقرب إلى الرجال، ولا أقصد الشكل، تقول صفاء، بل قوة الإرادة. كانت التظاهرات النسائية في حرستا قليلة جداً، وتخرج عادة بنساء منقَّبات عند حلول الليل. أفتى بعض أئمة المساجد بأن خروجهن خروجٌ عن الشرع، ولا يجوز لهن الكشفُ عن عورة أصواتهن بالهتاف في الشوارع. شاهدها زوجها مرةً في تشييع ليلي، وجاء تأنيبه شديداً، لأنها خالطت الرجال الذين يرى النشاط الثوري حكراً عليهم. لم يسمح لها وجوده في البيت، بعد الإفراج عنها، بأن تستقبل بين المهئنات رجلاً شاركته العمل في الغوطة. يحزّ هذا الموقف في قلبها كلما تذكرت الحديث المقتضب مع ذاك الزائر على عتبة الباب. إنه رجلٌ تقدره بإعجاب، وتراه عصامياً لا يكاد أحد يعرفه، استطاع أن يحافظ على نزاهته واستقامته وهدوئه طوال عشرات الشهور الطويلة المنصرمة.
كرست صفاء وقتها لإغاثة النازحين وأهالي المعتقلين وعوائل الشهداء، توزع التبرعات العينية وسلال الأغذية. المحطَّمون يحتاجون إلى كلمة جميلة أيضاً، كلمة تجنبهم حرج أن يتلقوا ما قد يحسبونه صدقات، في الأقبية والبنايات غير المكتملة والمدارس، فمَن تساعدهم يساعدونها أيضاً، ويزيدون من إيمانها بطيبة الناس ويخففون عنها، إن كانت ثمة راحةٌ ممكنة لأحد. إنهم الآن حياتها، ويؤسفها أن يغترّ بعض المتطوعين أحياناً، وكأنهم ينسبون إلى أنفسهم أفضال المتبرعين، المجهولين غالباً. ولأن حرستا التي عاشت فيها نصف عمرها لا يسكنها الآن غير المقاتلين تقريباً، تبقى صفاء في مكتب جمعية تتبع المجلس المحلي في سقبا، امرأة وحيدة بين جموع الرجال، وبعضهم يعرفون أنها تخلت عن كل شيء من أجلهم، قد تعانقهم وتلثم جباههم كأنها أمهم، فتياناً وكباراً ومسلحين، تطهو لهم وتستغرب كيف لم تتعرف إلى هؤلاء الجميلين من قبل. تسرّها أمومتها، وتفعمها كلما سنحتْ لها فرصة أن تتجلى. شبان مسلحون أتوها بأسطوانة غاز حين عادت إلى منزلها في حرستا لتجده منهوباً خاوياً، فطبختْ لهم وجالستهم وحدها في الشارع، وهم يلقبونها تحبباً "أبو بكر". تراهم طيبين ينقصهم التوجيه، وتبقى مع بعضهم في المنزل نفسه حتى انتصاف الليل، حين يغادرون ليسنح لها في الخلوة خلع الحجاب. عادة لا يتركونها وحدها، بعد انتهاء العمل في المكتب عند السادسة مساء، لكيلا تقتلها الوحدة، تقول. إنهم يحتاجون أمّاً في ظروف هي الأحلك، وأنا أحتاج أبناء لأن الأمومة غريزة وحاجة أيضاً.
لا تستطيع صفاء أن تنسى ما رأته في ممرات السجن، حيث حركات الذهاب والإياب وتوافد المعتقلين الجدد تزوّد بالأخبار. كانت تلمح في كوة الباب طبيباً شائباً يعبر الممر، ويستكمل أشغال الجلادين بخياطة جراح الشبان المعذَّبين دون تخدير؛ كان، في المطبخ القذر المقابل للمهجع، يخيط الأقدام الجريحة التي أنزفتها السياط، ثم يجبرهم على المشي ذهاباً وإياباً في الممر وهم مضمَّدون، بينما النساء عاجزات، ليس لهن إلا دور المنصِتات إلى المتألمين، كأنهن مذنبات لأنهن لا يُعذَّبن مثلهم، ولطالما سمعن توسلات شبان يرجون الجلادين أن يكتبوا ما شاؤوا، ويأتوهم بالإفادات ليمضوها. للمتهمين بأنهم مسلَّحون العذابُ الأشد. مثلهم كانت ميسون، القادمة من فرع الأمن العسكري، بندوب حديثة مرتفعة في معصميها، مشوَّهة بحروق التعذيب الكهربائية، لأنها ساعدت في تهريب السلاح. لا تنسى صفاء الشبان المقرفصين ساعات طوالاً، مواجهين الحائط في الممر، مصفوفين في رتل تحت عين السجان، مكبَّلين معصوبي الأعين عراة الصدور، وعلى أكتافهم حزوز العصي والأكبال الرباعية التي يُسمع صفير نزولها على اللحم. بذهابها إلى الحمام صباحاً، والذهاب إليه مسموح مرتين يومياً، شاهدتِ الذين كانت قد شاهدتهم الليلة الفائتة وهم لا يزالون على الوضعية نفسها. كان في ظهر أحدهم جرح غائر ينزّ دماً. لمست يده، فأجفلته اللمسة. ربما حسب ذاك الحنو العابر انتهاكاً وشيكاً.