[صورة الشاعر الايطالي ماريو لوتزي]قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي ماريو لُوْتزي
Mario Luzi 1914-2005
ماريو لُوْتزي في سطور:
وُلِدَ في الخريف بعد ستِّين عاماً بالضَّبط من ميلاد رامبو: 20 تشرين الأوَّل 1914، درس الأدب الفرنسي في فلورنسا وكتب رسالته البحثيَّة عن "فرانسوا مورياك"، وخلال سني دراسته الجامعيَّة تلك عقد لوتزي صداقاتٍ مع شبَّانٍ متحمِّسين للحركة الشِّعريَّة الهرمسيَّة "الإبهاميَّة" من أمثال بييرو بيغونجاري، وألسَّاندرو بارُّونكي، وكارلو بو، وليونِه ترافِرسو، وكذلك مع النَّاقد الكبير أورِستِه ماكري، الأمر الذي كان له فائق الأهمِّيَّة في تكوين ملامح بدايات لوتزي الشِّعريَّة. صدرت مجموعته الشِّعريَّة الأولى "القارب" سنة 1935، وفي 1938 بدأ مسيرته بالتَّعليم في المدارس العليا حيث انتقل بين بارما وسان مينياتو ثمَّ انتهى به الأمر في روما حيث عمل في حقلِ فهرسة الكتب وتصنيفها. في 1945 عاد إلى فلورنسا حيث عمل مدرِّساً في الثَّانويَّة العلميَّة، وفي 1955 تسلَّم هناك كرسي الأستاذيَّة في الأدب الفرنسي في كلِّيَّة تًشِزارِه ألفييري للعلوم السِّياسيَّة. حصل في عام 1978 على جائزة فيارِدجو Viareggio عن مجموعته الشِّعريَّة "في نار التَّضاد". إضافةً إلى كونه مؤلِّفاً للعديد من الدِّراسات النَّقديَّة الهامَّة ومشرفاً على الكثير من المختارات الشِّعريَّة كان لوتزي ناقداً سينمائيَّاً حيث استوفت مراجعاته النَّقديَّة الفنِّيَّة أزيدَ من ثمانين فيلماً، وقد جُمِعت فيما بعد في كتابٍ صدر سنة 1997. في 14 تشرين الأوَّل 2004 وبمناسبة عيد ميلاده التِّسعين عيَّنه الرَّئيس كارلو أتزِليو تشامبي عضواً في مجلس الشُّيوخ. وبعد شهورٍ قليلة من ذلك رحل لوتزي في الثامن والعشرين من شباط 2005 في فلورنسا.
* * *
يحتلُّ لوتزي مكانةً خاصَّة في الحركة الشِّعريَّة الهرمسيَّة في إيطاليا، ويمكن القول إنَّه يشكِّل، مع بييرو بيغونجاري وألسَّاندرو بارُّونكي، أوجَ الهرمسيَّة الفلورنسيَّة. إنَّ الموضوعةَ الجوهريَّة في شِعر لوتزي هي التَّمجيدُ الدَّراماتيكيُّ للأنا، وهي تتقصَّى إبرازَ الصِّدام العنيف بين "الأنا" المحمولة على رؤىً مهيبة وسامية وبين المشاهد الأرضيَّة التي تعرِض لها. تضمُّ المرحلةُ الأولى من مراحل شِعريَّة لوتزي مجموعاتِه الأربع الأولى: "القارب" 1935؛ "قدومٌ ليليٌّ" 1940؛ "قرعُ الكؤوس" 1944؛ "دفترٌ غوطيٌّ" 1947. في هذه المرحلة تبدو المنظومة الفكريَّة للشَّاعر مدموغةً بالمسيحيَّة يعزِّزها في ذلك الفكرُ المسيحيُّ الفرنسيُّ الحديث، أمَّا على المستوى الأدبي فيبدو لوتزي متأثِّراً بالخطِّ "الأورفيوسيِّ" المنتمي إلى الغنائيَّة الحديثة التي يُعَدُّ ملارميه نموذجها الأوَّل، والتي لا تنفصل كثيراً عن الخطِّ السُّورياليِّ الذي يمثِّله بول إيلوار، وهذا ما يُستشفُّ بوضوحٍ من مجموعة "قدومٍ ليليٍّ" على وجه الخصوص؛ أمَّا مِن مجموعةِ "دفترٍ غوطيٍّ" فتُستشَفُّ خبرةٌ شعريَّةٌ، أكثر نضجاً، متأتِّيةٌ عن اطِّلاع لوتزي على الآداب الأوروبيَّة، وعلى رأسها قصائد ريلكه.
* * *
تضمُّ المرحلة الثَّانية والرَّئيسيَّة في مسيرة لوتزي الشِّعريَّة المجموعات الثَّلاث "أوَّل الصَّحراء" 1952، و"مجد الحقيقة" 1957، و"مِن أقصى المواسم" 1965، انتهاءً بمجموعة "على عُمُدٍ لامرئيَّة" 1971، والتي يبلغ فيها الشَّاعر أوج شِعريَّته؛ وتشكِّل مجموعته "في الصُّهارة" 1963 محطَّةً بالغة الأهمِّيَّة في تاريخ الشِّعر الإيطالي الحديث عموماً. فعدا عن التَّجديد على مستوى المعنى، من جهةِ انتضاجِ المعرفة الوجوديَّة للشَّاعر، ثمَّة تجديدٌ واضحٌ كذلك على مستوى المبنى الشِّعريِّ: مكانَ الخطابِ الشِّعريِّ المبنيِّ على مناجاة الذَّات يحلُّ ههنا النَّموذج الحِواريُّ الذي ينحو فيه أسلوبُ الشَّاعر أكثر فأكثر نحو تقمُّصِ المخاطَب، في تأرجحٍ ما بين الكينونة والصَّيرورة، وبين التَّحوُّل والهويَّة. الآخر هنا هو نصفُ "الأنا" المضاعَفة، وهذا التَّضاعف يريدُ به لوتزي تعزيز القوَّة التي تحامي عن القصيدة ضدَّ عالَمٍ محكومٍ بسلطةِ المدينة: سلطةِ الغائيَّة والنَّفعيَّة، عالمٍ يضيق على الشِّعر وعلى الشَّاعر وينفيهما.
* * *
تُظهِرُ قصائد لوتزي الأخيرة تغييراً في الأسلوب يميل أكثر نحو النَّثريَّة، أمَّا المضامين فمفتوحةٌ على مصراعيها حيالَ ذكريات الصِّبا، وحيالَ وصف الأجواء اليوميَّة في تساوقٍ مع وصف المشاهد الدَّخيلة والغريبة. ضمن هذه المرحلة، وتحديداً من مجموعة "في نار التَّضاد" 1978، إلى مجموعة "لأجل معموديَّة أجزائنا" 1985، ما يريد الشَّاعر قولَه باختصارٍ شديدٍ هو أنَّ حياته بأسرها كانت اشتغالاً عميقاً على مسألة تحديد الهويَّة، ابتداءً من المراحل الأولى المُغرِقة في الفرديَّة وصولاً إلى مرحلة الانصهار بالآخر؛ حيث يرى لوتزي في تلك الصُّهارة ناراً معرفيَّةً، النَّارَ الوحيدةَ التي يمكن أن تلدَ القصيدةَ.
النُّصوص:
طبيعة [من مجموعة "القارب" 1935]
هي ذي الأرضُ ومعها ينسجمُ البحرُ
وفي الأعلى حيثما كانَ ثمَّة بحرٌ أشدُّ ابتهاجاً
باللهيبِ العَجلِ للعصافير
وبنهجِ القمرِ المتراخي والتَّهجاعِ
تهجاعِ الأجساد العذبة نصف المقفلَة على الحياةِ
وعلى الموتِ عندَ حقلٍ؛
و[كذا] بتلك الأصوات التي تهبطُ
هاربةً من أبوابٍ خفيَّة وتتواثبُ
فوقنا مثل طيورٍ جُنَّت إلى الرُّجوع
صوبَ أعالي الجزر الأصليَّةِ منشدةً:
ههنا يُعَدُّ
مخدَعٌ مِن أرجوانٍ وأغنيةٌ تهدهدُ
كرى المؤرَّقين
صلبٌ هو الحجر،
مسنَّنٌ هو الحبُّ.
* * *
نُضجٌ [من مجموعة "قدومٌ ليليٌّ" 1940]
ماذا وراءَ تلك الزَّجاجيَّات التي تمزِّق الصَّمتَ
وتنشرُ في الفراغِ دهشةَ
وجهٍ سقطت وردةُ لونِه؟
ذاهلةً تتيه العينان في مدارجِ الزُّرقة
وحزنُكَ أبداً لن يكرَّر.
تموجُ الجُمَّيزةُ بوفاءٍ منقطع النَّظير.
جليدٌ، ليست أكثر من جليدٍ التَّجلِّيَّاتُ الحزينةُ
عِبْرَ الدُّروبِ المقطَّرةِ بالصَّمتِ
والعمبرِ، جليدٌ هي انعكاساتُ المرمرِ البعيدة
وسطَ البروق البيضاءِ للنَّوافير.
ظلٌّ، ليست أكثر من ظلٍّ حياتي
على الدُّروبِ التي تسدُّها ذكرياتي الباردة.
ها أرْبِعَةٌ1 بحريَّةٌ عندَ أغوارٍ متروكةٍ
لريحٍ رجعُها يطلبُ العزلةَ
في قاعِ وجهكَ المشتَّت!
تحرَّر من قدمي ظلِّك، أنتَ يا ظِلَّ الظِّلِّ
بدِّدْ في رجفةِ الماءِ غبطتَك.
ها غيمةٌ تتهزهزُ وفردوسٌ آخرُ لايقينيٌّ.
لم يعد لنا هذا القفرُ الذي يجذبنا ويفرِّقنا
في الفمِ المقوَّسِ بالنِّسيان،
سقطت السِّيادةُ الجَسورُ، سيادةُ صُفرةِ
يديكَ على الرِّيح، مِن فوق العُمُدِ العليَّة.
عيونٌ مستوحدةٌ، هيئاتٌ لا أسماء لها
تبرزُ في الليل الثَّقيل المدلَّى فوق صدرِك.
* * *
ها ديانا، انهضي [من مجموعة "قرعُ الكؤوس" 1944]
مُذَرَّاةً تبرُق الرِّيح بين أدخنة
السَّهل، والجبلُ يستضيءٍ
بضحكةٍ قلَّ مثالُها، وميضٌ يخرج
من الماء، فأيُّ رسالةٍ أبهى من ذلك؟
إنَّه ميقاتُ الانبعاث، ميقاتُ العيش
بنقاء. هي ذي ابتسامةٌ
تحلِّق في المرايا، رعشةٌ على البلَّورِ المفتوح،
يؤوبُ صوتٌ ليلجُمَ الآذان.
وأنتِ تخفِّين جذلى وتخالفين
الموت بإيماءةٍ واحدة. هكذا إذْ
ينفتحُ بابٌ تندفقُ الألوانُ
بفرحٍ، وتخرجُ الظُّلمة في المقابل
لتتفسَّخ. تولدُ صورٌ مغتبطة،
وفي الدَّمِ تَرشَحُ، عمياءَ إلى مآبها،
روحُ الشَّمس، فيما نسائمٌ تسحبنا
معها: لِنُوجَدَ ولِننطفئَ ذات يومٍ.
* * *
حيثُ لم تكوني [من مجموعة "دفترٌ غوطيٌّ" 1947]
حيث لم تكوني يا له سلاماً: السَّماء
من بين الأشجار المائجة كانت تحصدُ
الأُعطيةَ البيضاءَ للدُّروب، ووجهٌ
كان يشعُّ في ظلامِ الينابيع،
لُبابُ العسلِ
كان يلطِّفُ غُصَّةَ العابرين
والبهاءُ يتلألأ،
ويتوارى مقسَّماً بين الدُّروبِ
الوهَّاجةِ في الصَّمتِ المهوَّى.
لا ذكرى، ولا تخييلٌ، ولا حُلُم.
وجه الغائبِ كان أملاً
يتمرآهُ النَّجمُ الكثيفُ الأوَّل،
وحتَّى هنا لم تكوني، كنتِ سقطتِ
خارجَ الوجود؛
صفاءٌ كان يشجي الدُّروب المتقاطعة
ولم يكن ميقاتَ المساء،
كان الحقيقةَ البيضاءَ الخاملةَ
في جُبِّ هياجي، والمستغلِقة.
* * *
نيسانٌ-حُبٌّ [من مجموعة "أوَّلُ الصَّحراء" 1952]
تصاحبُني فكرةُ الموتِ
بين جدارَي هذا الطَّريق الذي يصعدُ
ويتوجَّع على امتدادِ عَطْفاتِه. بردُ
الرَّبيعِ يُحنِقُ الألوان،
يدوِّخ العشبَ، وزهرَ الوِسْتارية، يُصيِّرُ الصَّوَّانَ
فِجَّاً؛ وتحت المعاطفِ والمِمْطَرات
يلسعُ الأيدي المتيبِّسة، يرسلُ رجفةً.
آهِ أيُّها الزَّمن الذي يتألَّمُ ويؤلِم، الزَّمن
الذي يحملُ في زوبعةٍ صافية
زهوراً ممزوجةً بظُهوراتٍ طاغية، وكلُّ ظهورٍ
ما إن تستوضحَ كنهَه حتَّى يزولَ
خطفاً في الغبارِ وفي الرِّيح.
الطَّريق هو نحو أماكن معهودةٍ
إلَّمْ تكنْ موهومةً
فهي المثالُ الآخرُ للمنفى والموت.
وأنتَ الذي، هو أنا الذي صرتُ،
أنا التَّائه في فضاءٍ زاخرٍ بالرِّياح،
رجلاً في إثرِ علامةٍ رقيقةٍ وواهنة!
لا يصدَّق أنَّني أبحث عنكَ في هذا
المكان أو ذاك من الأرضِ حيث
أبعدَ من المعقول أن يعرف أحدنا الآخر.
ولكنَّه عمرٌ كاملٌ، عمري أنا، هذا الذي
لا يزال يترقَّبُ من الآخرين
ما هو موجودٌ فينا أو ما ليس له وجود.
الحبُّ يُعين على الحياة، على الاستمرار،
الحبُّ يُلغي ويَهَبُ البدءَ. فإذا كان
مَن يتألَّمُ أو يَهِنُ يأملُ، إن كان لا يزال يأملُ،
أن تأتيه بشارةُ خلاصٍ من بعيد،
فلأنَّ فيه نفساً عارماً بما يكفي لبعث ذلك الأمل.
هذا تعلَّمته ونسيته ألف مرَّة،
والآن ترجع هذه الحقيقة الجليَّة منكَ إليَّ،
الآن تحوزُ الصِّدقَ والإشراق.
قِصاصي هو أن أستمرَّ ما بعد هذه اللحظة.
* * *
الليلُ يغسلُ العقلَ [من مجموعة "مجدُ الحقيقة" 1957]
هو ذا ليلٌ يغسلُ العقلَ.
قليلٌ بعدُ ويكون ماثلاً هنا كما تعلم جيِّداً،
يا صفَّ الأرواحِ على امتدادِ الإفريز،
ذلك المتحفِّزُ للقفز، شبهُ المصفَّدِ بالسَّلاسل.
أحدٌ ما فوق صفحةِ البحر
يمزِّقُ حلمَ حياةٍ، يحدِّقُ في نقطة.
يَلُوحُ نورسٌ لِماماً.
* * *
الأكبر سنَّاً [من مجموعة "من أقصى المواسم" 1965]
عندَ المسنِّين
كلُّ شيءٍ فائقٌ حدَّه.
دمعةٌ في خرم
صخرةٍ يمكن أن تقهرَ
العطشَ إذْ هي بهذه النُّدرة. الخاتمةُ
وسهرةُ الخاتمة تطلبانِ
القليل، تنطقان همساً.
لكن نحن، في ذروةِ العمر،
في طابونِ الزَّمن، ما نحن؟ تَفَكَّرْ.
* * *
لكن أين [من مجموعة "في الصُّهارة" 1966]
"لم يعدْ هنا" يوعزُ صوتٌ فجأةً
"قلبُ مدينتك" ثمَّ يغيبُ
في المَضَلَّةِ المظلمة
صوتٌ/ لعلَّه ضَّوءُ الرَّبيعِ المنهمرُ
في العشبِ المرئيِّ
من فوقِ سُقُفٍ سامقة.
لا أعرف بمَ أجيب وأمكثُ أحدِّقُ
في نحلِ هذا الفناء العتيق،
في الملائك المذهَّبين، والرُّموس النَّذريَّة،
وفي صَنَعَةِ المعادن والأبنوس
وهم يغلقون خرِباتِهم واحداً واحداً
وينتشرون فرِحين قليلاً وفزِعين قليلاً في أزقَّةِ الجهات.
"لم تعد هنا، فإذن أين؟" أتساءلُ
فيما الصُّدفة والحتميَّة
تُربِكان عينَ العقل
وأفكِّر فيَّ وفي صَحبي، في الحوارِ
المهشَّم مع الأنفسِ المكابدةِ
ألمَ حياةٍ قلَّما تثمر، وفي ضياعِ
خَشْرَمِ3 أفكارِها بحثاً عن قطبٍ.
بعضها يخضعُ، وبعضها يصمدُ مطوَّقاً باليقين.
* * *
[من مجموعة "في نارِ التَّضاد" 1978]4
الكينونة، أوَّلُ
الغواميضِ وأكثرها تجرُّداً - أسألُها
عن الكيفيَّة هاذياً،
وأسألها عن السَّببيَّة. غير أنَّها تتحوَّلُ
نحو الصُّورةِ الجانبيَّة
لتجسُّداتها، وتنكسفُ
تحتَ عُباباتِ الظُّلمة.
وإلَّا،
فإنَّها بتواضعٍ عندَ الرَّأسِ الآخر للأحجيةِ نفسِها
تختمرُ وتتحضَّرُ
داخلَ بصلةِ النُّعاس، هي التي تبصرُ
النَّجم المسدَّدَ نحوَ ميلاده
عالياً على الكثبان؛ وتُذهِلُ،
تُذهِلُ بذلك-
أفكاري
التي بلَّغتُها، أفكاري المرتعِدةَ
في الرِّيح، المستفيقةَ
بين الصَّخرةِ التي لم تُمَسَّ
والصَّخرةِ المشكَّلةِ مِن قبل. أوه أيَّتها الفنُّ الأعلى!
* * *
[من مجموعة "كلماتٌ ورقشٌ لأغنيةٍ خلاصيَّة" 1990]5
أيُّها الاختبار، الاختبارُ الإنسانيُّ
الذي يُفرِطُ أحياناً
ويهين إنسانيَّةَ الإنسان
الممزَّق بنصلِ شرورِه
وبالكادِ لا يفتك بها-
ولأجل ذلك
تبدو عاسفاً
ولا يفقه
البشرُ كنهَك...
إن كان فيكَ
فردوسُ معرفةٍ
لم نرَه،
عميِّينَ من عذابٍ واصبٍ،
أو رأيناهُ مثلَ هَوْلٍ،
فلا تنظرْ إلينا، أضرعُ إليك،
بالعينِ التَّائهةِ والحصينة لحتميَّتِك،
بل تحدَّث إلينا، تحدَّث
بعدُ ودون انقطاعٍ
مثلما كنتَ تفعلُ آنفاً
بأفواهِ قدِّيسيك
وبأنينِ التَّجسُّدِ المصلوب.
هكذا تقول اللغة مفسِّرةً، هكذا
تشاءُ اللغة.
* * *
[من مجموعة "طَوافُ سيمونِه مارتيني6 الأرضيُّ والسَّماوي" 1994]7
هو، الكينونةُ. إنْ هو إلَّا هو.
الكاملُ،
اللامُنزَفُ،
قِرْنُ نفسِه وعِدْلُها.
هوَ
الصَّيرورة والتَّحوُّل.
لا نهاية له،
هو هو بلا نهايةٍ،
وهو ما يصيرُه،
يصيرُ
نفسَه
آخريَّةَ نفسِه.
هو مثلما
يتراءى هو.
لا شيء
ممَّا هو محجَّبٌ
يحجُبُه.
ما مِن
مِحبَسِ رمزٍ
يقوى على حبسِه
وما مِن زرَدٍ يحميه.
أوه، يا لَه لهباً!
هو الملتهب برمَّته دون ظلٍّ واحدٍ.
هو الكُنهُ، القدومُ، التَّجلِّي،
الجوهرُ الكلِّيُّ الفائق الشَّفافيَّة.
أم لعلَّه
الفردوسُ؟ أو، الإغواء المشرق،
البسمة المبهمة
منذ البدء، بسمتنا التي لا تُقهَرُ أبداً؟
* * *
[من مجموعة "فقهُ المبتدئِ الفائق" 2004]8
الزَّورق، منجورٌ
مسحورٌ
بين ريحٍ وماء،
شمسٍ وظلٍّ.
أعرفُ
يلاطفُك عشبُ
هذا الرَّبيعِ الغضير، القليلِ البرقِ،
لكنَّك عاجزٌ عن قضمه،
إلَّا عِبر الرَّغبة:
ليس في وسع الذَّاكرة الشَّبقيَّة
أمرٌ آخرُ إلَّا
أن تُعمِلَ عضَّةَ العجزِ.
لَيُمَزِّقنَّ قلبكَ اليومَ
ذلك المرعى؛
لامتناهياً كان مداكَ
أيُّها الخروفُ، ولَبَقيَ كذلك
لولا أنَّ ردحاً من الدَّهرِ مرَّ
هناك في الأعلى مع غيومِه
فيما أنتَ ضالٌّ، ههنا، تثغو.
وداعاً، المرجُ الآنَ مختلفٌ تماماً.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي] الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- جمعُ "ربيع".