[size=32]من تعدُّدية المناهج[/size]
[size=32]إلى العبرمناهجية[/size]
[rtl]إن على الحيوان، كيما يؤمِّن حمايته وبقاءه، أن يُحسِن معرفة بيئته، ولاسيما مجاله الحيوي. أما الإنسان فهو، إذ يتخطى مجرد إشباع حاجاته، تحرِّكه رغبة في علم غير محدود يدفعه إلى اكتشاف للطبيعة لا ينتهي. إنه يميِّز موضوعات استقصاءاته، ويقوم بتقطيعٍ للواقع، وينظِّم معارفه ونشاطاته في مناهج disciplines – بكلمة واحدة يوجِد العلم والتقنيات.[/rtl][rtl]ظلت هذه الطريقة التحليلية خصبة حتى فرضت نفسها فكرة أن "العلم كلٌّ"[1] وأن المناهج، بالتالي، يجب أن يُربَط بعضها مع بعض. أصبحت تعددية المناهج pluridisciplinaritéوالبينمناهجية interdisciplinarité عندئذٍ ضرورة نظرية وعملية. واليوم ينظر بعضهم، إذ يواصلون هذا التفكُّر في وحدة المعرفة، في عبرمناهجية transdisciplinarité تجتاز المناهج وتتخطاها، من أجل إيجاد رؤية جديدة للإنسان وللكون.[/rtl]المناهج
[rtl]في العصر الإغريقي القديم، برزت الحاجة إلى تمييز الطبيعة عن النشاطات البشرية المختلفة التي تتكئ على المعرفة. لقد اقترح أرسطو التمييز بين ثلاثة منها: العلوم العملية، العلوم الشعرية، والعلوم النظرية (الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات). وفي العصر الوسيط، شكلت الفروع المختلفة للمعرفة الفنونَ الحرة، الموزَّعة بين الرباعي quadrivium (العلمي) الذي كان يشتمل على الهندسة والحساب والفلك والموسيقى، والثلاثي trivium (الأدبي) الذي كان يضم النحو والبلاغة والديالكتيك أو المنطق. وفي مستهل القرن السابع عشر، في الوقت الذي ولد فيه العلم الحديث، نادى ديكارت بطريقة لـ"البحث عن الحقيقة في العلوم"، حتى قبل أن يتم إتقان تقنيات الاستقصاء. وهذه الطريقة مهدت الدرب لاستقلالية المناهج العلمية.[/rtl][rtl]كان لابد من انتظار القرن التاسع عشر حتى تنطرح مسألة تصنيف المناهج. ولقد اقترح كثيرون، من نحو أندريه أمبير أو هوبرت سبنسر، حلولاً، لكن حلَّ أوغست كونت هو الذي لفت الأنظار أكثر من غيره. فبالفعل كان له الفضل في مَفْصَلَة المناهج بعضها مع بعض على نحو خطِّي، بدءاً من الرياضيات حتى علم الاجتماع، مروراً بالفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وعلم النفس، بحيث يتأسس كلٌّ منها على القوانين الرئيسية للمنهج السابق، ويكون في آنٍ معاً أساساًً للمنهج اللاحق. في هذا التصنيف، كانت درجة عمومية كل منهج تتناقص نزولاً من الرياضيات إلى علم الاجتماع، بينما تتزايد درجة تعقيده. وبذلك اختصت الرياضيات بمنزلة راجحة. ثم جاء أنطوان أوغستان كورنو مغنياً الرؤية الكونتية بأن أضفى عليها المنظور التاريخي الذي يتعاظم أهميةً من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية.[/rtl][rtl]وفي عهد قريب، واجه ج. بياجيه (1967) هذا التسلسل الخطِّي بتصور دائري. وبالفعل، صارت العلوم الإنسانية – علم النفس والاجتماعيات – قابلة للتمفصل مع العلوم المنطقية–الرياضية. ناهيك عن أنه اقترح التمييز بين عدة "مجالات" في كل منهج: مجال مادي (موضوع المنهج)، مجال تصوري (مجموع معارفه ونظرياته)، مجال إبستمولوجي داخلي (دور الذات، نقد النظريات، إلخ)، ومجال إبستمولوجي مشتق يستخلص المدى الإبستمولوجي العام لنتائج المنهج. في هذا المنظور، تتوقف كل معرفة، في آن معاً، على الموضوع وعلى الذات، وبذلك تصير كل المناهج متواكلة بالضرورة.[/rtl]تطور المناهج
كل المناهج تتطور. إنها تنمو، تتحول، وتنقسم فرعياً بمقتضى إبداعات تصورية واكتشافات تجاربية واختراعات تقنية. ومن جراء امتهان البحث، واختصاص الباحثين الذي يتزايد ضيقاً، والتعقيد المتنامي لأدوات البحث، تنحو المناهج التحتية إلى الاستقلالية.[rtl]هذا التطور نحو الاختصاص الفائق، أياً كان مجاله، ظل حتى الساعة خصباً للغاية. لكن المعرفة، بالمقابل، تقصَّفت إلى ما لانهاية إلى "مناهج مختلفة مستقلة إلى حد كبير، ليس بوسع أي فرد أن يسيطر على انتشارها، بينما يتضاءل باطِّراد احتمال أن يحيط أي اختصاصي بكلِّية واحد منها حتى. هذا الوضع يؤدي إلى قطيعة عميقة بين واقع وجود العلم وبين فكرة العلم، بوصفه الشوط الأعلى للمعرفة البشرية، كما بسطتها الفلسفة منذ أصولها."[2] هذا الخطر نبَّه إليه مرات عديدة إدغار موران الذي كتب في مقال له (1994): "الحدُّ المناهجي للمنهج، لغته، ومفاهيمه سوف تعزله بالنسبة إلى المناهج الأخرى، وبالنسبة إلى المشكلات المشتركة بين المناهج."[/rtl][rtl]بيد أن هذا الميل التطوري يبرِّره كون العديد من المنظومات الطبيعية قابلاً للتفكيك إلى مستويات تعضِّي ينبغي أن تكون موضوع عددٍ مساوٍ من المناهج التحتية المتمايزة. ففي كائن حيٍّ عديد الخلايا، على سبيل المثال، لا يمكن لكل من مستوى الجزيئات، ومستوى الخلايا، ومستويات الأعضاء والأجهزة (التنفسي، الدوراني، إلخ)، وأخيراً مستوى العضوية ككل، إلا أن يُدرَس دراسة منفصلة. فمن المبرَّر بالتالي أن تستقل سلسلة كاملة من المناهج البيولوجية التحتية، تتراوح من البيولوجيا الجزيئية إلى الفسيولوجيا بعامة. لكن من المتعذَّر رصد مستويات التعضِّي كلِّها في الوقت نفسه.[/rtl][rtl]ككل الاستعارات، ينطوي مفهوم التعضِّي organisation – المختلف عن مفهوم مستوى الواقع الذي اقترحه بَسَراب نيكولسكو (1985) في العبرمناهجية – بضعة مصاعب ونقاط غامضة. فهو، من جهة، موضوعي من حيث المنظومة نفسها التي يسعى إلى تحديد بناها ووظائفها على سلَّم معطى. وهو، من جهة أخرى، ذاتي، بمقدار ما يعرِّف به راصدٌ غير متأكد أبداً من أنه بيَّن كافة مستويات منظومة طبيعية معينة. بذلك فقد جاءت البيولوجيا الجزيئية مؤخراً لكي تنحشر بين البيوكيمياء والبيولوجيا الخلوية.[/rtl][rtl]إن مفهوم المستوى مفهوم مضلِّل لأنه يحيل إلى مفهوم نظام متراتب hiérarchique. فكما بيَّن هـ. أتلان (1984)، يبقى الانتقال من مستوى إلى آخر محجوباً عنَّا. وبالمقابل، نحن نعلم أن كل عبور إلى مستوى أعلى يُتَرجَم بأن ما كان متمايزاً ومنفصلاً على المستوى الأدنى يجد نفسه الآن مجتمعاً وموحَّداً. هكذا، على مستوى عضو ما، تتجمَّع الخلايا التي سبق أن كانت متمايزة لكي تصوغ كلاً وظيفياً؛ لكن الألفت للنظر هو أن تحول الانفصال إلى اجتماع – هذا التغير في العلامة – يترافق بانبثاق خصائص جديدة.[/rtl][rtl]ومن جراء جهلنا للتَمَفْصُل بين المستويات ومن جراء انبثاق خصائص نوعية لكل مستوى، يُحرَّم، بل يتعذَّر، اختزال مستوى إلى المستوى الواقع تحته، اختزال عضو إلى الخلايا المؤلِّفة له، على سبيل المثال، واختزال هاتيك الخلايا إلى جزيئات.[/rtl][rtl]ما قيل للتوِّ على مستويات التعضِّي وعلى المناهج التحتية المقابلة لها لن يعتم أن يكون له أثر على مفهومي تعددية المناهج والبينمناهجية.[/rtl]تعددية المناهج والبينمناهجية
[rtl]إن التطور نحو التخصص الفائق للباحثين، متفاقماً من جراء تعقُّد التقنيات، آل إلى التسبب في ردة فعل تُرجِمَت إلى تقارب عدد من المناهج واشتراكها في عدد من المفاهيم، من نحو مفاهيم نظرية المعلومات مثلاً، التي اجتاحت العديد من المناهج، وبخاصة البيولوجيا. لكن هذا النوع من العمليات لم يكن عديم المخاطرة، كما يبرهن عليه، في جملة ما يبرهن عليه، الاستخدام الطائش لاستعارة "البرنامج الوراثي" الخادعة.[/rtl][rtl]في غضون الستينيات من القرن العشرين برز مفهوما تعددية المناهج والبينمناهجية بروزاً مشوشاً في المجتمع العلمي والجامعي، ترجمةً لحاجة عملية وتوق نحو المثال الفلسفي لوحدة المعرفة؛ لكنهما ظلا مشوشين وغير محدَّدين.[/rtl][rtl]ففي مقاربة أولى من الممكن القول إن عدة مناهج، في تعددية المناهج، تتشارك دراسةَ موضوع مشترك لا يستطيع أي منها أن يرصد كل مظاهره بالتقنيات التي بحوزته وحدها، بينما تتجلَّى في البينمناهجية ضرورة ترسيخ تعاون بين مناهج مستقلة ابتغاء توسيع فهم مجال معين أو بلوغ هدف مشترك.[/rtl][rtl]يمكن لتعددية المناهج أن تُشرِك عدة مناهج، إما أفقياً وإما عمودياً. ففي الفلك، على سبيل المثال، تم تجديد رصد الأجرام السماوية تجديداً تاماً لدى إضافة كل أشكال الفلك الراديوي إلى الفلك البصري الكلاسي (تعددية مناهج أفقية). واستكشاف مختلف مستويات تعضِّي المنظومة الطبيعية نفسها يمكن أن يُعتبَر كتعددية مناهج عمودية. ولكنْ، في هذه الحالة، يجب الاستغناء عن تكامل كل المعارف المحلية في معرفة شاملة من جراء بقاء التَمَفْصُل بين المستويات مجهولاً.[/rtl][rtl]أما البينمناهجية فحصرها أسهل. فلبلوغ هدف تشترك فيه عدة مناهج، مثل المصادقة على نظرية، أو تأويل معطيات، لابد من تعاون مناهج مختلفة. فمن أجل المصادقة، جزئياً، على النموذج المعياري للكوسمولوجيا (Big Bang)، تم اللجوء إلى رصد مجرات، إلى تسجيل الإشعاع الخلفي للسماء، وإلى قياس مقدار وفرة العناصر الخفيفة (الهدروجين، الهليوم) في الكون. ونقل طرائق الفيزياء الكوانتية ولَّد الكوسمولوجيا الكوانتية. وكأمثلة أخرى على حقول بحث بينمناهجية، يجوز أن نورد، مع إ. موران، التاريخ والأنثروبولوجيا القديمةpaléoanthropologie. ولقد بيَّنت مدرسة الحوليَّات أن تعاوناً وثيقاً بين كل علوم الإنسان (الديموغرافيا، الاقتصاديات، علم الاجتماع، إلخ) وبين التاريخ وسَّع المنظور التاريخي الكلاسي وأغناه بشكل ملحوظ. وبالمثل، فإن الأحافير البشرية اتَّخذت مغزى جديداً عندما لجأ الأنثروبولوجيون القدماء ليس إلى الجيولوجي وحسب، بل وإلى عالم المناخ، والفيزيائي، والاختصاصيين في علم الحيوان والنبات الأحفوري. هكذا فإن إعادة تكوين بيئة أشباه الإنسان hominidés ألقى ضوءاً جديداً على تطورها.[/rtl][rtl]لئن صحَّ أن تعددية المناهج والبينمناهجية تمثلان تقدماً من حيث إنهما تبيِّنان الروابط التي تربط المناهج، ومن حيث إنهما تغنيان المعرفة وتوحِّدانها، لا يقل عن ذلك صحة أنهما لا تعدِّلان موقفَ الإنسان أمام البحث وأمام المعرفة تعديلاً جذرياً. لذا تطمح العبرمناهجية إلى تجاوز المناهج، فيما هي تعترف بصحتها وبقيمتها.[/rtl]ولادة العبرمناهجية
[rtl]ينبغي – أغلب الظن – التفتيش عن أصل مفهوم العبرمناهجية في مقال نيلز بوهر (1955) في وحدة المعرفة. فمع أن الكلمة لا تَرِد فيه فإن المفهوم معبَّر عنه فيه تعبيراً واضحاً: "إن مشكلة وحدة المعرفة وثيق الارتباط بتفتيشنا عم فهم شمولي، مقدَّر له أن يرتفع بالثقافة الإنسانية." (ص 272)[3] وهذا الموقف العام، "المتَّصف بكونه جهداً لفهم مظاهر من وضعنا أوسع فأوسع فهماً متناغماً" (ص 273)، قد حرَّضته الثورة الكوانتية.[/rtl][rtl]من الصعب أن نحدد تاريخاً لظهور كلمة عبرمناهجية. بيد أن مرجعاً محدداً يبقى النص الذي كتبه ج. بياجيه عام 1970 بمناسبة مؤتمر حول البينمناهجية: "أخيراً، عند شوط العلاقات البينمناهجية، يمكن أن نأمل بأن يلي شوط أعلى سيكون "عبرمناهجياً"، لا يكتفي ببلوغ تفاعلات أو مبادلات بين الأبحاث الاختصاصية، إنما يضع هذه الصلات داخل منظومة كلِّية لا حدود مستقرة فيها بين المناهج."[4] منذ ذلك التاريخ، اجتهد عدة مؤلفين، في فرنسا تحديداً، في تدقيق تصورهم عن العبرمناهجية. إنهما قبل كل شيء إ. موران (1994) وب. نيكولسكو (1985، 1993). غير أن تصور هذا المؤلف الأخير يبقى التصور الأكثر تماسكاً. وأصالته هي في اتِّخاذه أساسين مفهومَ مستوى الواقع niveau de réalité ومنطقَ الثالث المشمول le tiers inclu،[5] إنما لاشيء يبرهن أنه سيكون محلَّ إجماع كل الذين يتكلمون على العبرمناهجية بدون أن يحددوا طبيعة هذا الموقف الجديد بإزاء المعرفة وطرائقه وأهدافه – هذا الموقف الذي يقطع صلته متعمِّداً مع كل من تعددية المناهج والبينمناهجية. مهما يكن من أمر، فإن العبرمناهجية تمثل جهداً لإدراج كل ما لا تأخذه المناهج بالحسبان في المعرفة وإعادة مركزة الإنسان في قلب المعرفة.[/rtl][rtl]في تشرين الثاني من عام 1994، تبنى المشاركون في المؤتمر العالمي الأول للعبرمناهجية ميثاقاً الهدف الجوهري منه هو إعطاء توجُّه مشترك للمناهج، ومَرْكَزَتُها حول حاجات الإنسان وتطلُّعاته. بكلمات أخرى، عبر المناهج وفيما يتعدَّاها، البحث عن معنى – اتجاه ومغزى – بإعادة اكتشاف وحدة الكون والحياة والإنسان. هذا على الأقل ما استخلصتُه منه. هاكم على كل حال جوهر المبادئ التي يعلنها الميثاق:[/rtl][rtl]· العبرمناهجية لا تتوافق مع اختزال للإنسان إلى بنيان صوري ومع اختزال للواقع إلى مستوى واحد يحكمه منطق واحد.[/rtl][rtl]· تقدم العبرمناهجية رؤية جديدة للطبيعة، بفتح المناهج على ما يجتازها ويتجاوزها. فهي تذهب فيما يتعدى العلوم الدقيقة التي يجب أن تصالحها مع العلوم الإنسانية.[/rtl][rtl]· العبرمناهجية تضع الإنسان في القلب من الكون. وهي تسلِّم بأن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان. وهي تتحاور مع جميع الإيديولوجيات الإنسانويَّة وغير التوتاليتارية.[/rtl][rtl]زبدة القول إن العبرمناهجية تسجِّل موقفاً بأن العلم اليوم وصل إلى تخوم الميتافيزياء، وبأن الفيزياء الكوانتية – تطور المادة منذ الـ Big Bang، النموذج المعياري للكوسمولوجيا، إلخ – تعاود طرح الأسئلة التي يعجز العلم عن الإحاطة بها على الإنسان: من أين جئنا؟ ماذا نحن؟ إلى أين نذهب؟ وهي، أخيراً، تجسِّد هذا التيار الجوفي الذي اجتاز النصف الثاني من القرن العشرين، يحييه علماء من نحو تِيَّار دُهْ شاردان، بريغوجين وغيرهم كثيرين.[/rtl][rtl]سيساعد تقديم مستويات الواقع الآن على فهم ما يمكن أن يكون عليه بحثٌ عبرمناهجي.[/rtl]الواقع ومستويات الواقع
[rtl]إن الباحث الذي يعمل ضمن منهاجه لا يطرح على نفسه عادة مشكلة الواقع الفلسفية التي أعادت الفيزياء الكوانتية إقحامها في المجال العلمي. أما ب. نيكولسكو (1985، 1993) فعنده أن مفهوم العبرمناهجية لا يفترق عن الثورة الكوانتية التي "شكَّكت من حيث الأساس في الاعتقاد العلموي بأن الحقيقة العلمية تستنفد تماماً حقل الحقيقة." هذا التشكيك ليتجلَّى لدى دراسة المنظومات الطبيعية بانبثاق "منطق الثالث المشمول" ومفهوم "مستوى الواقع". يعين هذا المفهوم، المتميِّز عن مفهوم مستوى التعضِّي، على فهم مفهوم العبرمناهجية.[/rtl][rtl]إن مفهوم الواقع، الذي يتخلل كل الفلسفة، من أفلاطون إلى أوغست كونت، مروراً بكنط، أعادت النظر فيه الفيزياءُ الكوانتية التي قادت إلى الاعتراف بوجود مستويات للواقع مختلفة. هو ذا ب. نيكولسكو (1993) يحدِّد: "أقصد بـالواقع ما يقاوم تمثيلاتنا، وتوصيفاتنا، وصورنا. وأقصد بـالمستوى جملة من المنظومات الطبيعية لا تتبدل بفعل قوانين معينة." (ص 6)[/rtl][rtl]إذا اتَّخذ المرء منظوراً زمنياً حراكياً diachronique فإن مفهوم مستوى الواقع يتضح. وبالفعل، يجوز في منظور تاريخ الكون، كما يتمثَّل في النموذج المعياري للكوسمولوجيا، القول بعدة مستويات للواقع انبثقت على التوالي وتناضدت بعضها فوق بعض منذ الـ Big Bang حتى ظهور الإنسان الحديث: المستوى الكوانتي، المستوى الفيزيائي الكلاسي، المستوى البيولوجي، المستويات النفسية، وغيرها.[/rtl][rtl]بحسب النظرية، لم يكن الكون، في بداياته، منذ 15 مليار سنة، مكوَّناً من كوانتونات quantons، من قسيمات وقسيمات مضادة (كواركات، بروتونات، نوترونات، فوتونات، إلخ). ولما كانت القسيمات أوفر عدداً بقليل من القسيمات المضادة، فإنها وحدها بقيت. هذا المستوى الكوانتي والقوانين التي تحكمه هي في الأساس من الكون: عليه تقوم مستويات الواقع الأخرى جميعاً وعليه تتوقف التكنولوجيات المتقدمة التي هي في قاعدة مدنيَّتنا.[/rtl][rtl]بعد هذا الطور القصير الكوانتي المحض، انتظم الكون في كيانات كوسمية – نجوم، مجرات، إلخ – وانبثق المستوى الفيزيائي الكلاسي، ذلك الذي يمتثل لقوانين نيوتن. وحتى الثورة الكوانتية، لم تكن الفيزياء قد استكشفت وأوَّلت غير مستوى الواقع هذا وحده فقط.[/rtl][rtl]انبثق مستوى الواقع البيولوجي، الذي لم يُكتشَف حتى الآن إلا على الأرض، منذ حوالى 8‚3 مليار سنة. وهو مكوَّن من مجموع كل الكيانات الحية، من البكتيريا إلى الإنسان. ومع أن أساسه هو مستويا الواقع السابقين الاثنين وقوانينهما، فإنه يمتثل لقوانين نوعية يختص بها. وقد تطور مع الزمن. فإلى وحيدات الخلية أُضيفت حيوانات ونباتات عديدات الخلايا. وعند الكائنات الحية عديمة الجهاز العصبي، فإن العلاقة مع البيئة تتم بواسطة لاقطات حساسة للإشارات الجزيئية، للحرارة، للضوء، إلخ.[/rtl][rtl]عندما ظهرت أعضاء حواس لدى حيوانات عديدات الخلايا مزوَّدة بجهاز عصبي، فإن العلاقة مع البيئة تعدَّلت تعديلاً عميقاً. لقد انبثق مستوى واقع جديد، هو مستوى واقع النفسية الإدراكية psychisme perceptif. وبالفعل، ليست أعضاء الحواس مجرد لواقط، وإنما محوِّلات transducteurs تختص بتحويل أشكال مختلفة من الطاقة (ضوئية، صوتية، حرارية، إلخ) إلى رسائل عصبونية إلكترونية، يترجمها المخ بدوره إلى صور واعية بصرية، سمعية، أو غيرها. إن مجموع هذه التمثيلات يؤلف مستوى واقع نوعي، لأنها كيانات جديدة، إبداعات من الذهن–المخ. بذلك فإن الحيوانات المزوَّدة بأعضاء حواسية توجِد لنفسها رؤيةً للعالم تتنوع من نوع حيواني لآخر. فالألوان، على سبيل المثال، لا توجد في الطبيعة؛ ليس هناك إلا إشعاعات كهرطيسية ذات أمواج متغيِّرة الطول، تمتصها الأغراض أو تعكسها. الحيوان الموهوب البصر يخلق اللون. والأمر نفسه يصح على الأصوات، على الروائح...[/rtl][rtl]اعتباراً من شوط تطوري معين، ظهرت انفعالات تتراوح بين الألم أو الكرب الشديد وبين اللذة القصوى، مشاركةً لهذا الواقع الجديد للصور الذهنية المولودة من الإدراك.[/rtl][rtl]بذلك تعقَّد الجهاز العصبي المركزي، وبالتالي النفسية، إبان التطور، وبخاصة عند الفقاريات. وتلت الإجاباتِ الآلية البسيطة سيروراتٌ أعقد لحل المشكلات، قائمة على الحاجات، على الانفعالات، على الذكريات، وعلى إدراك البيئة. وأخيراً، انبثق مستوى أخير للواقع النفسي، مستوى الفكر الانعكاسي la pensée réflexive، لدى الإنسان العاقل Homo sapiens مع توطيد لغة منطوقة مرتين. فبفضل هذه اللغة وبفضل التفكير، صار الإنسان منذئذٍ قادراً على خلق وقائع ثقافية واجتماعية حلَّ تطورُها محل التطور البيولوجي. ومن الممكن أن تكون مستويات واقع أخرى قابلة ربما للتطلُّع إليها مثل، على سبيل المثال، المستوى الذي تحكمه التفاعلات فيما بين الكائنات الحية وفيما بينها وبين بيئتها الفيزيائية.[/rtl][rtl]خارج مفهوم "مستوى الواقع"، استُعمِلت وتُستعمَل مفاهيم أخرى ذات مدى عبرمناهجي، من نحو مفهومي "نطاق" sphère و"منظومة" système. بذلك أبرز تِيَّار دُهْ شاردان (1955)، ضمن منظور تطوري، مفهومي النطاق الحيوي biosphère والنطاق العقلي noosphère، بينما بسط ل. فون برتالانفي النظرية العامة للمنظومات (1968). ومؤخراً، تطلع ك. ألِّيغر إلى منظومة الأرض وسطحِها بوصفها تراكُب وتناضُد نطاقات متميِّزة في تفاعل موصول: النطاق الجوي atmosphère، النطاق المائي hydrosphère، النطاق الحجري lithosphère، والنطاق الحيوي، التي هي "خزانات" تتبادل المادة والطاقة وتشكل نطاقاً إيكولوجياً écosphère فريداً، يقوم النطاق العقلي في الوقت الراهن بقلقلته.[/rtl][rtl]من أجل الحكم على أهمية مفهوم مستوى الواقع في حقل العبرمناهجية، من الضروري تناول مشكلتين: مشكلة الانتقال من مستوى لآخر، ومشكلة العلاقات بين المستويات.[/rtl]الانتقال من مستوى لآخر
[rtl]إذا كان الانتقال من مستوى لآخر، في حالة مستويات التعضِّي، غير واضح، فإنه في حالة مستويات الواقع أبعد ما تكون عن التفسير لأنه متَّصل continue ومنقطع discontinue في آنٍ معاً.[/rtl][rtl]إن الانتقال الميكروفيزيائي يدعو للاضطراب بصفة خاصة، لأن القوانين والخصائص التي تميِّز المستوى الكوانتي تبدو وكأنها غير قابلة للمصالحة مع قوانين المستوى الفيزيائي الكلاسي وخصائصه، بما أنها تخرق كل المبادئ التي تحكم الفكر الكلاسي، ألا وهي مبادئ المعقولية intelligibilité، والهوية identité، المحلية localité، السببية causalité، والانفصاليةséparabilité. وعديدون هم الفيزيائيون الذين يحاولون مَفْصَلَة مستويي الواقع هذين، الأكثر تضاداً بين مستويات الواقع التي يمكن أن نجدها في الطبيعة؛ لكنْ ما من نظرية صارمة قُدِّمتْ حتى الآن بهذا الصدد.[/rtl][rtl]على النحو نفسه، يُمثَّل للانتقال بين المستوى الفيزيائي والمستوى البيولوجي بالمثل بهوَّة لا يبدو ردمها قريب الحصول، من حيث إنه، على الرغم من بعض التقدم، ليس بين الباحثين إجماع على كيفيَّات هذا الانتقال وأشواطه. ينبغي الإقرار بالفعل بأن بين الجزيئات الأكثر تعقيداً المصادَفة في الطبيعة والكائنَ الوحيد الخلية الأبسط، وليكن بكتيريا، مسافة تكاد تكون لانهائية. ولا يكفي هنا التعرُّف إلى بُنى البكتيريا ووظائفها من أجل معرفة كيف استطاعت الظهور، مزوَّدة بخواص معينة جذرية الجِدَّة سيبقى مجموعُ العالم الحي مشتركاً فيها.[/rtl][rtl]أما الانتقال من نشاط عصبوني ذي طبيعة كهركيميائية إلى نشاط نفسي واعٍ مؤلف من صور (تمثيلات) وانفعالات، فيبقى لغزاً. وبالفعل، لا تشكل هذه الصور وتينك الانفعالات مستوى واقع مختلف عن المستويات السابقة وحسب، لكنها، بالإضافة إلى ذلك، تقتضي أن تدركها "ذات" وتكابدها. وأخيراً ماتزال اللغة والفكر الانعكاسي، اللذان يمثلان واقعاً نفسياً مختلفاً عن واقع الإدراك، أبعد ما يكونان عن الإفصاح عن كيفيات وأشواط ظهورهما، في حين أنها في الأصل تقلُّبات عميقة في النطاق الحيوي وفي المنظومة الأرضية إجمالاً.[/rtl][rtl]عند إجراء تعداد بسيط لمستويات الواقع لا مندوحة من التبيُّن أن لكل منها قوانينه وخواصه النوعية، على كونها متَّكلة على قوانين وخواص المستويات التحتية. وبما أنه يمكن التعريف بهذه القوانين والخواص – وليس تفسيرها – بدون أخذ المستويات التحتية بالحسبان، فإن كل مستوى يعطي الانطباع بأنه يتجاوز المستويات التي يتَّكل عليها. بذلك، فإن علم النفس قادر، ضمن حدود معينة، على الانبساط كمنهج مستقل بدون أن يضطر إلى معرفة البيولوجيا العصبية، حتى اليوم الذي تسمح فيه معرفة هذه وحدها تفسير ظواهر معينة.[/rtl][rtl]لو كنَّا نعرف كيف يتحقق الانتقال من مستوى واقع إلى آخر ولو كنَّا نعرف كيفية تَمَفْصُل مختلف مستويات التعضِّي، لصرنا قادرين على إدراج المحلي في الشامل، ولاكتمل العلم عندئذٍ. لكن نهاية العلم لا تقل وهماً عن نهاية التاريخ.[/rtl]خلاصة
[rtl]لقد وجَّه ديكارت البحث العلمي نحو التبعيض parcellisation ("تقسيم كلٍّ من المصاعب [...] إلىعدد مساوٍ من الأبعاض") ونحو المردودية efficacité ("جعلنا سادة للطبيعة ومالكين لها"). وفي هذا المشروع، فُصِلت الذات والموضوع، الإنسان والطبيعة، فصلاً باتاً، مثلما فُصِل الجسم والنفْس. لكن هذا المشروع، منذ ما يقرب ما ينوف على أربعة قرون، يتبيَّن أنه خصب للغاية، كما تبرهن على ذلك الإنجازات التقنية والعلمية لمدنيَّتنا المعاصرة. بيد أن هذا النجاح الباهر أوجد شقة في الثقافة وفي كل فرد. العلم والتقنيات انفصلت تدريجياً عن بقية مجالات الثقافة – الفنون، الآداب، الفلسفة... – لأنها وحدها، من جراء مردوديَّتها المتنامية، باتت قادرة على قلب المدنية.[/rtl][rtl]أما الفرد، الضائع أمام معرفة هائلة ومجزَّأة، تجرُّه جراً عبادة المردوديَّة بأي ثمن، فقد وجد نفسه متحوِّلاً عن حياته الداخلية. فعنده أن الحياة لم يعد لها من معنى آخر سوى التنعُّم بتسهيلات مجتمع الاستهلاك، وأمسى العالم عالماً محروماً من المعنى، يبدو تطوره منذوراً لقيود المصادفة والضرورة.[/rtl][rtl]تقف بالمرصاد لهذه الرؤية للعالم وللثقافة تيارات فكرية مختلفة منها تيار العبرمناهجية أو التيار الذي يحرِّك الموسوعة الفلسفية الشاملة الحالية، التي يتمثل أحد رهاناتها في ترميم "جملة الشبكات التصورية سواء الخاصة بمختلف المناهج العلمية أو الخاصة بالجماليات، والسياسة، والأخلاق، أو المنقول الفلسفي المحض" (س. أورو، 1990، 2317). فلئن وضعت الحركة العبرمناهجية، في مستهلِّها، نصب عينيها توحيد المعارف العلمية في "منظومة كلِّية بدون حدود مستقرة بين المناهج" (بياجيه)، ترمي اليوم أن تصبح إنسانويَّة جديدة، أن تعطي من جديد معنى للحياة الإنسانية، في منظور مركزي إنساني anthropocentrique وشمولي، سواء تعلق الأمر بالعلم، بالمجتمع، أم بالتربية، في جملة أمور أخرى.[/rtl][rtl]فيما يتعلق بالعلم، لا توجد العبرمناهجية إلا بفضل المناهج. ولقد احتيج أن تبلغ المعرفة العلمية درجة كافية من التنمية وأن تراكِم المناهج كلها ما يكفي من النتائج ذات المغزى حتى تصير عبرمناهجية حقيقية، سبقتها حتماً محاولات كلانيَّة، أمراً ممكناً. المناهجية والعبرمناهجية متكاملتان مادام بالإمكان إجراء تقاطعات وقيام روابط بين كل مجالات المعرفة، كل مكوِّنات الكون، الذي يشكل الإنسان جزءاً لا يتجزأ منه، إذ هو في تفاعل دائم. بيد أنه من قبيل الوهم أن نفكر أن يصير بالإمكان يوماً صياغة "نظرية الكل" هذه التي يحلم بها بعضهم. فمنذ أن أعطانا غودل برهاناً حاذقاً وصعباً لنظريته في عدم التمام incomplétude، عزفنا عن النظريات التامَّة والمغلقة لصالح رؤية للعالم مفتوحة وتطورية، تتمفصل فيها مستويات الواقع بدلاً من أن يستبعد بعضها بعضاً. العبرمناهجية تعترف بتماسك مجموع مستويات الواقع، لكنها لا تنسى أن من المتعذَّر رصدها جميعاً في وقت واحد، وأن مسالة الانتقال من مستوى إلى آخر تبقى مفتوحة، شأنها شأن التمفصل بين مستويات التعضِّي. يتحلَّى الإنسان بحدس وحدة هذا الكل، لكنْ، بما أنه جزء منه، فإنه لا يستطيع الكلام عليها، وأقل من ذلك تفسيرها.[/rtl][rtl]أخيراً، إذا كشف كل منهج، متعمِّقاً، المزيد دوماً من تعقيد البنى والسيرورات، فإن العبرمناهجية، من جهتها، تكشف عن مظهر آخر للتعقيد، مظهر المبادلات والتفاعلات بين مكوِّنات الكون والأرض والإنسان.[/rtl][rtl]بعد أن كان محدوداً أولاً بالمنظور الإبستمولوجي لفلسفة المعرفة، ينحو تيار الفكر العبرمناهجي إلى التوسُّع حتى أبعاد فلسفة للطبيعة وإنسانويِّة. فمن الصحيح أنه منذ الثورة الفكرية التي أدخلتها نظرية النسبية والفيزياء الكوانتية، لايني عالم العلم، وبخاصة عالم الفيزيائيين، يدنو من عالم الفلسفة، وبصورة أدق من الميتافيزياء، يشهد بذلك هذا التصريح لـ ر. أومنِس (1994): "هكذا، أطرح فكرة أن العلم في الوقت الحاضر من النضج بما يكفي لكي تولد الميتافيزياء من جديد" (ص 330). ها نحن أبعد ما نكون عن العلموية العَقَدية التي كثيراً جداً ماذا تسود على بعض المناهج![/rtl][rtl]بتحريض من ب. نيكولسكو (1996)، تتولَّى العبرمناهجية نفسها اليوم، فيما يتعدى المناهج، تعميق فهم العالم الراهن والتفكُّر في موضع الإنسان في الطبيعة. وأمام التنمية المتسارعة والمكتسحة للعلوم التقنية، تجد في تطبيق الروح العبرمناهجية على كل أبعاد الحياة الإنسانية وسيلة لتغيير توجُّه حضارتنا. يتلخص الأمر في قلب المشروع الديكارتي بتوحيد المعرفة المبعَّضة واستبدال السعي إلى تنمية الإنسان بالمردوديَّة والمهارة التقنية.[/rtl]