في تفكيك الأرثوذكسية
[size=40]05فبراير 2016بقلم عبد الله إدالكوسقسم: الفلسفة والعلوم الإنسانيةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
تجاوز أركون في بحثه عن أصول الأرثوذكسية غيره من الباحثين العرب من حيث الجرأة الفكرية، فقد ذهب إلى أنّ مباني هذه الأرثوذكسية ترجع إلى النص المؤسس، ذلك أنّه يرى أنّ اللحظة التي جمعت فيها آيات القرآن وسوره تحقق الانتقال من الثقافة الشفهية إلى الثقافة الكتابية، منذ تلك اللحظة وجدنا أنفسنا أمام مرجع واحد ووحيد يعود إليه المؤمنون جميعًا، تلك هي حسب أركون لحظة ميلاد الأرثوذكسية الدينية[1]. الدافع إلى هذا الاختيار والضبط للمدونة القرآنية يعود إلى أسباب سياسية أي إلى الدولة الرسمية التي رغبت في جعل هذه المدونة القرآنية مصدر السيادة العليا، والمشروعية المثلى التي لا يصلها معول النقد ولا تمس، "لقد فرضت هذه الوظيفة السياسية للقرآن نفسها منذ أن تم تشكيل المصحف، وهي الآن تفرض نفسها بشكل مباشر أكثر في الأنظمة السياسية المعاصرة، التي هي في حالة بحث عن المشروعية أو الشرعية المفقودة"[2]. لذلك يرى أركون أنّ التحرر من هذه السلط التي فرضتها المدونة الرسمية على العقل العربي والإسلامي، وبالتالي إبداع خطاب إنسي متعدد ومنفتح، لا يتحقق إلا بالقراءة التاريخية للمدونة، أي إعادة كتابة تاريخ تشكل النص القرآني، ونقد الرواية الرسمية والتحرر السيكولوجي من تلك العلاقة التي تربط الناقد بهذا النص، ولن يدرك هذا النقد أهدافه من دون الوعي المعرفي بنواتج إشكاليات من قبيل السلطات الغالبة والجماعات المهمشة والقوى الذهنية: العقل، المخيلة والذاكرة[3]. يعتبر أركون أنّ أكثر عراقيل الأنسنة بروزًا ناتج عن الجدل الحاصل بين السلطة والمعرفة في الثقافة الإسلامية، والذي انتهى إلى ذلك التضامن الأيديولوجي بين الدولة والدين "المستقيم" أو الأرثوذكسي وطبقة علماء الدين المحتكرين لإدارة ذهنية التحريم أو التقديس على حد تعبير ماكس فيبر، وبقدر ما يسود هذا التضامن الإيديولوجي ويقوى بقدر ما تضمحل النزعة الإنسانية ويتهمش الموقف الفلسفي، وتغيب الثقافة النقدية أو تنعدم[4]. كثيرة هي القضايا التي يحتدم حولها النقاش باسم المعرفة والعلم لكنها في الغالب تلبس لبوس السلطة الرمزية التي تتأسس عليها شرعية الدولة أو النظام السياسي، هنا بالضبط تغيب التعددية من حيث هي أبرز تعبير عن الإنسية كما يغيب التسامح، ذلك أنّ النخبة الحاكمة (الدولة) ترفض أي زعزعة لسلطتها، فهي توظف المقدس (والرموز الدينية) وتعمل على تحويله إلى شعارات للاستهلاك، وفي المقابل لا تسمح لأي محاولة جادة لخلخلة هذا التابو أو بالأحرى تعريته، لأنّ في خلخلته خلعًا لمشروعيتها[5]. بناء على ما سبق يقدم أركون خطابًا نقديًّا يدعي أنّه خطاب ينحاز إلى دائرة علوم الإنسان والمجتمع، ويهدف من خلاله إلى إعادة النظر في الخطابات[6]السائدة حول الإسلام، والكشف عن الأسئلة المطموسة فيها.[7] والأطروحة التفسيرية التي يقدمها أركون تستند إلى مفهومي اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، ويهدف من خلالها كما يقول إلى "إغناء تاريخ الفكر عن طريق إضاءة الرهانات المعرفية والثقافية والإيديولوجية للتوترات الموجودة بين مختلف التيارات الفكرية... وإيجاد حركية للفكر الإسلامي المعاصر، وذلك بتركيز الاهتمام على المشاكل التي كانت قد أقصيت والطابوهات (أو المحرمات) التي أقامها والحدود التي رسمها والآفاق التي توقف عن التطلع إليها، وكل ذلك حصل باسم ما كان قد فرض تدريجيًّا بصفة أنّ الحقيقة الوحيدة"[8]. أما بخصوص الطابوهات التي تحدث عنها أركون والتي دخلت ضمن مساحة المستحيل التفكير فيه أو اللامفكر فيه يذكر منها "مسألة تاريخ النص القرآني وتشكله، تاريخ مجموعات الحديث النبوي، ثم الشروط التاريخية والثقافية لتشكل الشريعة، ثم مسألة الوحي، ثم مسألة تحريف الكتابات المقدسة السابقة عن القرآن ثم مسألة القرآن مخلوق هو أم معاد خلقه (أي غير مخلوق) ثم مسألة الانتقال من الرمزانية الدينية إلى سلطة الدولة والقانون القضائي، ثم مسألة مكانة الشخص البشري ثم حقوق المرأة"[9]. والملاحظة الأساسية التي نسجلها في هذا الصدد أنّ هذه القضايا لا تخلو منها المدونة الاستشراقية، بل إنّ أركون لا يخرج في عموم أطروحته عن الخلاصات التي انتهى إليها المستشرقون كما سنبين لاحقًا. يحدد أركون مفهومي "اللامفكر فيه" و"المستحيل التفكير فيه" بالعودة إلى ما يسميه التحقيق السلبي une enquête négative وهو المفهوم الذي استوحاه على ما يبدو من أركيولوجيا ميشال فوكو التي اهتمت كثيرًا بالوثيقة المهملة والمهمشة، ومن فلسفة الهوامش التي تضمنتها تفكيكية جاك دريدا J. Derrida. "لأنّ كلا من اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه يمثل المهمش بالنسبة إلى المفكر فيه لأنّ هذا الأخير هو عينه الخطاب الرسمي السلطوي بمختلف تجلياته السياسية والدينية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها"[10]، فضلاً عن أنّ المفكر فيه Le pensable هو ما يسمح به الجهاز العقلي السائد، ومعنى ذلك أنّ نظام الفكر المهيمن في عصر ما، هو الذي يحدد ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه وذلك بما يتناسب والبنية العقلية المتوفرة[11]. بناءً على ما سبق يستخلص أركون الأسباب التي تفضي إلى هيمنة المفكر فيه ويحددها فيما يلي:
- النظام المعرفي السائد أو العقلانية المسيطرة والسائدة في المجتمع، لم تصل بعد في تطورها إلى تفكير هذا الشيء أو ذاك.
- "الضبط الذاتي" الذي يتشكل بسبب الإكراهات الخارجية سواء كانت سياسية أو إيديولوجية أو دينية، تصبح الذات بموجبها تستبطن في تفكيرها حدودًا لا تتجاوزها.
- بلوغ الفكر درجة من التوتر والإبداعية مما لا يسمح بوصفه، كما هو الحال عند الشعراء والمتصوفة والمبدعين بشكل عام.[12] وهكذا بالنسبة إلى أركون تشكل عملية فتح أبواب اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، واقتحامهما بإعادة طرح الأسئلة المتعلقة بهما، وبيان المساحة الواسعة التي يحتلانها في التراث العربي الإسلامي الشرط الأساسي لأنسنة هذا التراث وعقلنته، والحال نفسه ينطبق على الخطاب الإسلامي المعاصر، وعنده لا يتحقق ذلك إلا عبر مسالك جديدة في نقد هذا العقل، أي ما يسميه بالإسلاميات التطبيقية.