في ما يلي نصّ المحاضرة التي ألقتها الأستاذة رجاء بن سلامة بقصر اليونسكو ببيروت، بدعوة من مؤسسة سعادة للثقافة بتاريخ 9 ماي/أيّار 2015.
نقد الثّوابت هو عنوان أحد كتبي الّتي ضمّت مقالات رأي. ونشر في دار الطّليعة سنة 2005. إلاّ أنّنا لا نستحم في النّهر مرّتين، لا لأنّ النّهر يتغيّر فحسب، بل لأنّ المستحمّ نفسه يتغيّر. تغيّر الواقع، وتغيّرت أنا، ولا يمكن أن أطرق موضوع الثّوابت كما طرقته في سنة 2004، عند تأليف هذا الكتيّب. وترون أننّي هنا أيضا في قلب موضوع الثّوابت، وموضوع الاختلاف، باعتبار أنّه ليس تعدّد المختلفين فحسب، بل اختلاف الواحد عن نفسه. وأضع نفسي هنا في مساحة التّفكيك، وهو مختلف عن النّقد. فالتّفكيك، خلافا للنّقد لا يعتبر نفسه صادرا عن سلطة محاكمة تعمل وفق مخطّط مسبق. بعبارة أوضح، أحاول أنا أيضا تفكيك ثوابتي.
منذ عشر سنوات، لاحظت أنّ مفهوم “الثّوابت” متداول في الخطابات السّياسيّة العربيّة وغير متداول في الخطابات السّياسيّة الغربية، أو على الأقلّ في الفرنسيّة ، بل إنّ مقابله الفرنسيّ لا يستعمل إلاّ في سياق العلوم الصّحيحة. ولاحظت أنّ هذا المفهوم في العربيّة يستعمل في لغة السياسة والقانون، ولاحظت أنّه مشترك بين كلّ التّيّارات السّياسيّة آنذاك، ممّا يعني أنّه ينتمي إلى قاع عميق مشترك للفكر والخيال السّياسيّين. ما هو هذا القاع؟ حملني الفضول وأنا أعدّ هذه المحاضرة إلى البحث في تاريخ هذه الكلمة “الثّوابت”، فتبيّن لي أنّها لم تكن تستعمل في الدّين ولا السّياسة، ولم تكن تستعمل بمعنى عدم التّغيّر وعدم الاختلاف. ففي القرآن تستعمل الكلمة بمعنى الصّحّة : “وقولٌ ثابتٌ: صحيح. وفي التنزيل العزيز: يُثَبِّتُ اللهُ الّذين آمنوا بالقول الثابت؛ وكلُّه من الثَّبات.” (سورة إبراهيم/ 27، لسان العرب). وتستعمل صيغة “الثّوابت” في مجال الفلك للحديث عن الكواكب الثّوابت في مقابل الكواكب السّيارة : “فأقول : الأجرام العالية تنقسم إلى كواكب وإلى أفلاك: أمّا الكواكب فتنقسم إلى سيارات. وإلى ثوابت، والسيّارات سبعة، والثوابت أكثر من أن تحصى. وقد رصد منها ألفا ونيف وعشرون كوكبًا، والطريق إلى معرفة وجود الكواكب هو العيان لا غير. وإلى معرفة سيرها وإثباتها هو الرصد”.
فمن أين جاء الاستعمال الحديث لكلمة “الثّوابت” في سجلّ سياسيّ ودينيّ وقانونيّ؟
ليس لنا إلى حدّ الآن معجم تاريخيّ للّغة العربيّة يبيّن تطوّر الكلمات، لكنّ المعرفة الرّقميّة تسمح لنا بتدارك هذا النّقص إلى حدّ مّا. فقد تبيّن لي، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، أنّ أوّل استعمال لها بالمعنى الجديد وفي سجلّ غير سجلّ الفلك يعود إلى أدبيّات تنظيم الإخوان المسلمين، وإلى حسن البنّا (1904-1949) أساسا، حتّى إنّ أحد تلاميذه اعتبر التّمييز بين “الثّوابت” و“المتغيّرات” أساس “منهاجه” . فـ“الثوابت هي الأمور الّتي ينبغي أن تظلّ دون تغيير أو تبديل على مرّ الزمان واختلاف المكان، وهي بمثابة القواعد الحاكمة على الأفراد، والإطار الضابط لسلوكهم وتصرفهم، والميزان الدقيق الّذي لا يخطئ، والّذي يتميزون به عن غيرهم، لهذا فإنّ الثوابت ليست مجال مساومة ولا مراجعة... أمّا المتغيرات فهي الأمور الّتي يمكن أن يعتريها التبديل والتغيير والتأويل والتطوير، ويعتبر التّغيير فيها أمرًا لا يخرج الأصل عن استمراريته وخصائصه المميزة التي لا تمس أساسياته، فهي أمور مرنة لأنّ تغيير الزّمان والمكان يحتاج مرونة وتكيفًا، وتجاوبًا مع الاحتفاظ بالثوابت، والله عزّ وجلّ أودع في الإسلام من الثوابت ما يضمن به الاستمرار، ومن المتغيرات ما يكفل له بها الصلاحيّة، والملاءمة لكلّ الظروف والأزمان.”
كيف ميّزت الدّعوة الإخوانيّة بين الثّابت والمتغيّر؟ وكيف نميّز بين الثّابت والمتغيّر؟ وإذا تغيّر المتغيّر داخل الثّابت، فكيف يبقى ثابتا مع ذلك؟ إذا فرضنا مثلا وجود جسم مّا، وفرضنا أنّ جزءا من هذا الجسم يتغيّر وجزءا منه لا يتغيّر، فكيف لا يصيب التّغيّر كامل الجسم؟ إذا تغيّرت جزئيّة ولو طفيفة في الجسم، أفلا يكون كامل الجسم قد تغيّر؟ وكيف يمكن علميّا أن يبقى الثّابت ثابتا والحال أنّ الذّوات تراه بعيونها الخاصّة، وفي ظرفيّتها الخاصّة؟ والصّعوبة الأخرى في هذا التّمييز تتمثّل في التّناقض التّالي : إذا كانت الثّوابت ثابتة، فما الّذي أدّى إلى الرّغبة في حفظها وتثبيتها؟ إذا كانت الثّوابت ثابتة محفوظة، وإذا كان الخطاب الدّعويّ الإخوانيّ يقوم على ضرورة التّمسّك بالثّوابت، أفلا يتناقض مع نفسه، بحيث أنّ وصفه لواقع الحال هو في الوقت نفسه برنامجه؟
الثّوابت كما قلت لفظة استعملت قديما، وعلى الأغلب، للكواكب الّتي اعتبرت غير سيّارة. ومعلوم أنّ القدامى اعتقدوا بعدم تغيّر الأجرام العلويّة، سواء كانت سيّارة أم ثوابت. كذّبت الحداثة العلميّة هذا التّصوّر، وبيّنت أنّ الأجرام لها أعمار ومصائر تؤدّي بها إلى الفناء. فالشّمس مثلا وصلت إلى منتصف العمر، وبقيت أمامها أربعة مليارات من السّنين لكي تنطفئ.
فكأنّ فكرة الثّبات الّتي أطردتها الحداثة من السّماء، سقطت على الأرض، والتقفها مؤسّسو التّفكير الأصوليّ حتّى يثبّتوا ما تحت السّماء، فلم تعد الثّوابت في العربيّة كواكب سماويّة، بل أصبحت أفكارا أرضيّة منزّهة عن التّغيّر والكون والفساد.
ونحن نرى أنّ “الثّوابت” هي الكلمة المفتاح الّتي تختزن معاني رفض الواقع، ورفض التّغيّر الاجتماعيّ والسّياسيّ الّذي بدأ يكتسح العالم. بدل أن يغيّر الفكر نفسه ليفهم الواقع الجديد، فإنّه يريد تغيير الواقع. وهذا هو أساس الفكر الطّوباويّ. ولذلك سيأتي سيّد قطب (1906-1966) بعد ذلك ليعلن عن فكرة هذيانيّة هي أنّ المجتمعات الإسلاميّة عادت إلى الجاهليّة وتجب أسلمتها مجدّدا. فتنظيم الإخوان الّذي نشأ بعد بضعة سنوات من إلغاء الخلافة بدأ عن طريق دالّ “الثّوابت” ينظّم معارضة الواقع، ويفضّل فكرته عن الواقع على الواقع نفسه. وما قدّمه من أسس لهذه الفلسفة هي “ثوابت” تمثّل أضدادا للتّغييرات الحاصلة في العالم.
منذ حوالي خمسة قرون، بدأت في العالم الأوروبّي ما سمّاه مرسال قوشيه Gauchet بسيرورة الخروج من الدّين، وهي لا تعني زوال الدّين أو الإيمان، بل تعني أنّ الدّين لم يعد ينظّم كامل الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة، أي لم يعد نظاما شاملا يهيكل المجتمع طبقا لغيريّة قداسيّة يسمّيها قوشيه بـhétéronomie. كانت هناك محطّات كبرى في هذا الخروج من الدّين منها الثّورة الفرنسيّة سنة 1789، وقد كانت ثورة مساواة وانفصال عن الكنيسة، بإلغاء الامتيازات الكنسيّة وتأكيد الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن على حرّيّة الضّمير والمساواة. وتجلّى ذلك أيضا من خلال المعركة العلمانيّة. فقد ظهرت الكلمة المرادفة للعلمانيّة بالفرنسيّة في سنة 1870. وبعد ذلك تسارع نسق التّحوّلات العلمانيّة في فرنسا، مثل إلغاء تهمة الكفر أو ازدراء الأديان في قانون متعلّق بالصّحافة سنة 1881، والفصل بين التّشريفات العسكريّة والحفلات الدّينيّة سنة 1883، وإقرار الطّلاق المدنيّ سنة 1884، وإلغاء الصّلوات العامّة لا سيّما في افتتاح السّنة بالبرلمان، والقبول بالدّفن المدنيّ سنة 1887.
واقتضت الحداثة السّياسيّة انفصال المجتمع عن السّلطة واستقلاله عنها، والإقرار بمسؤوليّة البشر على أفعالهم. فمجال السياسة والقانون هو مجال الممارسات البشريّة الّتي يجب إخضاعها إلى المحاسبة والمراجعة والنّقد، في حين أنّ مجال الدّين قائم على المطلقات. ولذلك لم يعد بإمكان الدّين اليوم أن يؤسّس الشّرعيّة السّياسيّة، بل أصبحت هذه الشّرعيّة مستمدّة من إرادة الشّعب كما تعبّر عنها صناديق الاقتراع. ومن النّاحية القانونيّة اقتضت الحداثة إقرار مبدإ المواطنة الّذي يقتضي أن يكون كلّ المواطنين متساوين أمام القانون وفي القانون، بقطع النّظر عن الجنس واللّون والدّين والمذهب والمعتقد. وكان لا بدّ من الفصل بين الأخلاق والقانون، وبين الفضاء الخاصّ والفضاء العامّ، بحيث أنّ الدّولة لا يمكن أن تتدخّل في الكثير من مظاهر حياة الإنسان الشّخصيّة. واقتضت حرّيّة المعتقد والضمير تحرير العلاقة بالنّص المقدّس، عبر إقامة علاقة به قد تكون مختلفة عن العلاقة الّتي أسّسها التّقليد.
وقد جاءت الفكرة العلمانيّة بعد قرون من الرعب القداسي. فكانت حلّا ضروريًّا للخروج من محاكم التّفتيش الّتي روّعت العلماء والمفكّرين واتّهمتهم بالهرطقة، وحرقت حوالي 50 ألف امرأة متّهمة بالسّحر بين القرنين السادس عشر والسّابع عشر. وكانت هذه الفكرة أيضا حلاّ للخلاص من الحروب الأهليّة بين البروتستان والكاثوليك، وقد تواصلت من سنة 1520 إلى 1787.
واندرج إلغاء الخلافة في هذه الصّيرورة المتعلمنة نفسها، وإن كان إطارها العالم الإسلاميّ.
لكنّ الإسلاميّين لم يدركوا كنه هذه الصّيرورة الّتي اكتسحت العالم الغربيّ، بل حدسوا لاشعوريّا بأنّها تغيّر منزلة الدّين في المجموعة والمجتمع. وربّما لم يساعد وضع الاستعمار على ذلك، وربّما ترك إلغاء أعلى مؤسّسة إسلاميّة رمزيّة جرحا فاغرا في نفوسهم. فبنوا أسطورة سرديّة قائمة على حصول كارثة تتطلّب إنقاذا. وهذه الكارثة هي الغزو والتّلوّث، وهذا الإنقاذ هو التّمسّك بالثّوابت. يقول مؤلف كتاب “منهج الإمام” : “فبالتّمسك بالثّوابت ينجح المسلمون اليوم في مواجهة أخطر غزو لهم، وأكبر تحدّ أمامهم وهو التّلوث الفكري العالمي من اليهوديّة الغاشمة والصليبيّة الحاقدة، والعلمانيّة المارقة، فهل بغير التّمسك بالثّوابت نستطيع أن نواجه هذه الهجمة الشرسة؟”
أمام التّغيّر طرح الإسلاميّون الثّوابت، ودعّموا الثّوابت بفكرة خلود الشّريعة، الّتي أصبحت صالحة لكلّ زمان ومكان، وقد جاء هذا الشّعار ربّما لأول مرّة في تفسير المنار كما أشرف عليه وأخرجه رشيد رضا : “هذا هو التّفسير الوحيد الّذي فسّر به القرآن على أنّه هداية عامّة للبشر ورحمة للعالمين، وأنّه جامع لأصول العمران وسنن الاجتماع، وموافق لمصلحة النّاس في كلّ زمان ومكان بانطباق عقائده على العقل، وآدابه على الفطرة، وأحكامه على درء المفاسد وحفظ المصالح. وهذه هي الطّريقة الّتي جرى عليها في دروسه في الأزهر حكيم الإسلام وعلم الأعلام الأستاذ الإمام...”
وأمام تزحزح الدّين عن الحياة العامّة والسّياسة والقانون إلى الحياة الشّخصيّة، وضعوا صخرة شموليّة الدّين. فأوّل مبدإ من مبادئ “رسالة التّعاليم” ينصّ على ما يلي : “الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمّة، وهو خلق وقوّة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادّة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.”
وأمام انفصال العلم عن الدّين، وضعوا لبنة “الإعجاز العلميّ للقرآن”. فشاع منذ محمّد عبده إلى الكواكبيّ، مرورا برشيد رضا تأويل سورة الفيل على أنّ “الحجارة من سجّيل” هي الجراثيم، وبعضهم ذهب إلى أنّ “الطّير” هي نوع من الذّباب أو الحشرات الّتي تحمل بكتيريا.
والرّأي عندي أنّ الأمر لا يتعلّق فحسب بأبنية معرفيّة تدرس تحت يافطة نقد “العقل العربيّ” أو “العقل الإسلاميّ”، بل هي وضعيّة لذات جماعيّة تتّسم بغلبة آليّات الدّفاع عليها غلبة ساحقة تمنعها من الإبداع. إنّ آليّات الدّفاع تجعل الذّات تستثمر الشّيء المرفوض-الواقع-استثمارا سلبيّا، وتسخّر كلّ طاقتها الّتي تصبح سلبيّة في هذا الاستثمار. ويمكن لي أن أصف آليّـات الدّفاع كالتّالي :
- إنكار الواقع. ونجد هذا الإنكار في اللّحظة الّتي يؤرّخ بها الباحثون بداية الحداثة في العالم العربيّ، مع حملة نابليون بونابارت على مصر. أسوق هنا واقعة تتعلّق بهذه الحملة أوردها المؤرّخ هنري لورنس Henri Laurens : “سبقت العشاء وعقبته أحاديث. وقال الجنرال بونابارت للشّيوخ إنّ العرب برعوا في الصّناعات والعلوم في عهد الخلفاء، لكنّهم الآن أصبحوا في جهالة مطبقة ولم يبق لهم شيء من معارف أجدادهم. فردّ الشّيخ السّادات أن بقي لهم القرآن الّذي يحوي كلّ المعارف. فسأل الجنرال عمّا إذا كان القرآن يعلّمهم كيف ينحتون مدفعا. فأجاب كلّ الشّيوخ الحاضرين بوقاحة : نعم.”
وتكرّر الإنكار بعد ذلك بحيث تحوّلت كلّ الهزائم إلى نكسات أو انتصارات. كما هو معلوم.
- ابتلاع العالم داخل الذّات: فلسان حال هذه الذّات الّتي تنكر الواقع هو: كلّ شيء عندنا، عندنا نصّ شامل، فيه العلوم الصّحيحة وفيه الدّيمقراطيّة، بل فيه ما هو أفضل منها، أي الشورى. ولا بأس من تخيّل وجود كلّ الاكتشافات العلميّة في القرآن، كما يتخيّل النّاسك العالم في فولة، ولا بأس من اقتلاع كلّ المفاهيم والدّوالّ من نسيجها المفهوميّ والسياقيّ لإنتاج كلّ أنواع الخلط التّاريخيّ.
ويمكن أن نجمل القول في آليّة الدّفاع هذه كما يلي: الدّين لم يعد نظاما شاملا للمجتمع، فأصبح النّصّ شاملا لكلّ العالم.
وقد بيّنت في بحث سابق أنّ لهذه البنية ملامح ماليخوليّة أساسها عدم إقامة الحداد على الماضي، واستثماره وكأنّه حاضر أبديّ، مع استثمار مضادّ للواقع. إنّه التّعلّق الماليخوليّ للوهم باعتباره موضوعا تامّا غير مثلوم.
لكنّ فكر الثّوابت لا ينكر تحوّل الواقع فحسب، بل يريد إيقاف الفكر أيضا.
سأسوق أوّلا نادرة فلسفيّة، تتمثّل في أنّ أحدهم سأل أستاذه عن عدد أسنان البقرة. فعاد الأستاذ إلى كتاب أرسطو، وجاء بجواب منه. لكنّ التّلميذ لم يقنع بالإجابة، فذهب إلى بقرة، وفتح فاها ليحصي عدد أسنانها. وعاد إلى أستاذه بجواب مختلف، فنهره الأستاذ. فموضوع الفكر هو الواقع، وهناك من يحاول أن يرى الواقع باستعمال سند غير عقله وإدراكه. والثّوابت كما بيّنت حجاب يحول دون رؤية الواقع. ولكنّها أيضا حجّة سلطة. يمكن أن نقول: يوجد فكر للثّوابت، لا يريد أن يرى أسنان البقرة كما هي، بل يراها عبر السّلف، ويوجد فكر يريد أن يرى. وربّما يريد أن يرى أسنان البقرة بعد أن هرمت، وتغيّرت. الفكر الّذي لا يريد أن يرى، يتوهّم بأنّ الزّمن واقف، ثابت، فيصادر على وجود الثّوابت، وهذا الفكر نفسه، ينتصب جهازا سلطويّا يتّهم ويكفّر. فأرسطو في النّادرة الفلسفيّة تعوّضه في واقع المسلمين سلطة أكثر قداسة هي “المعلوم من الدّين بالضّرورة”. وقد أكّد مطلق شعار الثّوابت سلطة الحديث، وتواصل مع الوهّابيّين، وقدّس السّلف.
وكلّ هذه القرارات تمثّل برنامجا مضادّا للتنوير، إذا ما اعتبرنا التّنوير تعويلا على العقل، وخروجا من حالة القصور، حسب مقال كانط المنشور في مجلّة برلين الشّهريّة سنة 1784، وقد كتبه ردّا على راهب بروتستانتيّ كتب في المجلّة نفسها مقالا ينتقد فيه الزّواج المدنيّ ويدافع عن عقد الزّواج الّذي تشرف عليه الكنيسة. يقول كانط جوابا عن سؤال “ما التنوير؟” :
“ما التنوير؟ هو خروج الإنسان من حالة القصور الّتي هو نفسه مسؤول عنها. قصور، أي عجز عن استخدام [ملكة] الفهم (القدرة على التّفكير) دون وصاية الآخرين، قصور هو نفسه مسؤول عنه بما أنّ سببه لا يعود إلى عيب في ملكة الفهم، بل إلى نقص في اتّخاذ القرار وفي الشّجاعة الّتي تجعله يستعملها دون وصاية الآخرين. تجرّأ على التّفكير لتكن لك الشّجاعة في استخدام ملكة فهمك الخاصّة. هذه هي عملة التّنوير.”
ولكنّ اللاّفت للانتباه هو أنّ شعار الثّوابت وإن نشأ في حاضنة الفكر الدّينيّ الأصوليّ فإنّه استعمل فيما بعد في خطابات مختلفة منها الخطابات الرّسميّة الّتي تبرّر تحفّظات الدّول العربيّة على اتّفاقيّة مناهضة جميع أشكال التّمييز ضدّ النّساء خاصّة. فالرّفض الأصوليّ للواقع مبثوث، وهو ليس حكرا على الجماعات الإسلاميّة، لأنّه يمكّن من الحفاظ على أبنية الهيمنة، ويحقّق منافع للفئة الحريصة على الثّوابت، وهي فئة الذّكور الأقوياء الأسوياء بيض البشرة. وفئة من سمّاهم كانط بالأوصياء، لاسيّما الأوصياء على المقدّس. ولذلك كتبت في تقديم كتاب نقد الثّوابت : “الثّابت في”الثّوابت“العربيّة والإسلاميّة هي الوظيفة الأساسيّة الّتي تضطلع بها : إنّها تسمية اللاّحرّيّة واللاّمساواة بأسماء بديهيّة لا تحتاج إلى النّقاش، أو تعرّض من يناقشها إلى تهمة الخيانة أو الفكر والمروق. الثّوابت في الغرب الدّيمقراطيّ هي المساواة والحرّيّة، أمّا الثّوابت عندنا فهي ما يبرّر اللاّمساواة واللاّحرّيّة، بل وما يبرّر الإرهاب والعنف.”
ويمكن أن أقول إجمالا :
إنّ حجّة الثّوابت، والفكر الهوويّ وغير الواقعيّ الّذي يكرّسها قام أو حاول القيام بوظيفتين :
- وظيفة إيقاف تطوّر المجتمعات، بل تنظيم إيقاف تطوّر المجتمعات، ووظيفة تنظيم الرّقابة على الفكر الواقعيّ : قف للفكر: حجّة سلطة.
- وظيفة إنتاج رقابة على الفكر الّذي يرى الواقع، ومحاصرة المفكّرين وفرض ممنوع اللّمس على الفكر. فضحايا الثّوابت أجيال مختلفة ممّن صودروا ولوحقوا وقطعت أرزاقهم وربّما قتلوا بسبب خروجهم على الثّوابت. ولم نكتب بعد تاريخ مؤسّسات وأجهزة الرّقابة على الفكر في العالم العربيّ.
والنّقلة ليست نوعيّة بين فكر الثّوابت والإرهاب المعولم الّذي نعانيه اليوم. فالفكر الأصوليّ كما ذكرت لا يطوّر نفسه بل يريد التّحكّم في الواقع لجعله مطابقا للأصل، والإرهاب أيضا لا يقبل الواقع، ولكنّه لا ينتظر أسلمة المجتمع الّذي عاد إلى الجاهليّة، بل يحاربه محاولا الفعل في الواقع بتكرار البدايات. ما نعيشه اليوم هو بلوغ الهذيان الأصوليّ ذروته الّتي يلغي بها نفسه.
وقد تبدو لنا الثّقافة المضادّة للتّنوير في العالم العربيّ أهمّ وأقوى من الثّقافة المضادّة للتّنوير في أوروبا. ففي العالم العربيّ لا يتعلق الأمر، على الأقلّ منذ هزيمة 67 إلى اليوم، بمحافظة أخلاقيّة ودينيّة تنتج رقابة على الفكر، بل بثقافة بأكملها تحلّ محلّ الثّقافة النّقديّة وتبصمها بالهامشيّة. رصدت لثقافة الثّوابت أموال طائلة، وأنشئت لتثبيتها مؤسّسات لا حصر لها. فأصبح للهذيان الرّافض للتّاريخ سلطة، وأجهزة رقابة، تعاقب وتجازي. وربّما يكون كلّ هذا صادما لأنّه يقع في وضح القرنين العشرين والحادي والعشرين.
ومع ذلك فيجب أن ننظر إلى المدى التّاريخيّ الطّويل. فلم يكن مسار تغيّر العلاقة بالدّين سهلا في أوروبا. ولم يكن الكهنة الّذين يبحثون عن ساق ضفدع في أبيض عين المرأة ليحكموا عليها بأنّها ساحرة، بأقلّ هذيانا ممّن يرى اليوم أنّه ينصر الإسلام إذا فجّر مقهى أو مرقصا أو متحفا.
وعلى المدى الطّويل، لا يمكن إيقاف تغيّر المجتمعات، ولا يمكن إيقاف تغيّرها في الاتّجاه الّذي اقتضته صيرورة الخروج من الدّين، وقد سارعت العولمة في نسقها. لم توقف أفكار المعارضين لتحرّر المرأة سير التّاريخ، فخرجت المرأة إلى الفضاء العامّ، لأنّ التّاريخ لا يسير بالفتاوى. ورغم كلّ مظاهر العنف الأصوليّ فإنّ الأبحاث السّوسيولوجيّة الجادّة تبيّن وجود مسار دخلنة للدّين، ووجود علاقة به تخضع إلى النّمط الحديث. وقد فتح أفق المساواة والحرّيّة، فلا يمكن أن نواصل التّحديق في هوّة الأصل. صخور الثّوابت لا توقف تدفّق النّهر، ولا تغلق الأفق.