روح الرقيب
نشرت بواسطة:
روبرت دارنتون 2014/11/30
ما الرقابة؟
لو أن مفهوم الرقابة امتد إلى كل شيء، سيعني لا شيء. لا يجب أن يتم تهميشه. على الرغم من أنني سأوافق على أن القوة تُبذل بعدة طرق، أعتقد أن من الحاسم التفريق بين نوعية القوة الموجهة بوساطة الدولة (أو أي سلطات مؤسسية مثل التنظيمات الدينية في بعض الحالات)، والقوة الموجودة بأي مكان آخر في المجتمع. الرقابة كما أفهمها بالضرورة سياسية؛ تمارس من قبل الدولة.
لا تخلق جميع الدول العقوبات على نفس النحو. أفعالهم ربما تكون تعسفية، لكنهم يلبسونها إجراءات ذات صبغة من شرعية. أحد الجوانب اللافتة في ملفات الباستيل كان الجهد المبذول من البوليس لكشف أدلة، وإثبات إدانة، عبر التحقيقات الصارمة، حتى وإن كان المساجين بلا دفاع شرعي. تحت ضغط الظروف، عادت الأحكام في الحكم البريطاني إلى الإدانات المعتادة. كانت إدانة والتر جانكا في برلين، بسبب نشره لكاتب سقط خارج الحظوة (لوكاتش)؛ تشكل مراسم من نوع مختلف: محكمة صورية تم تدبيرها في أزياء ستالينية لإطلاق موجة تطهيرية وكعلامة على تغيير في خط الحزب. الخط الذي حدد شرعية داخل نظام لا مكان فيه للحقوق المدنية.
القراءة كانت جانباً أساسياً من الرقابة، ليس فقط في فعل تدقيق النصوص، الذي يقود أحياناً إلى تأويلات متنافسة، لكن أيضاً كجانب من العمل الداخلي في الدولة، لأن التأويلات المتنازع عليها يمكن أن تقود إلى صراعات قوى، التي تقود أحياناً إلى فضائح عامة. لم يكتف الرقباء بوضع اعتبار للفروق الدقيقة في المعنى المبطن، لكنهم أيضاً فهموا الطريقة التي تتردد بها أصداء النصوص المنشورة بين العوام. في حالة الـ”جي دي آر” (ألمانيا الشرقية؛ المترجم)، لا يجب أن يكون الرقي الخاص بهم مفاجئاً، لأنهم يشتملون على مؤلفين، باحثين، ونقاد. خدم الكتاب البارزون أيضاً كرقباء في فرنسا القرن الثامن عشر، ومراقبة الآداب العامة في الهند أوكلت إلى أمناء المكتبات المتعلمين مثلما لضباط الأقاليم ذوي النظرة المراعية لفلكلور “الأصليين”.
أن نقصي الرقابة باعتبارها قمعاً خام من قبل بيروقراطيين جهلة هو أن نفهمها بطريقة خاطئة. على الرغم من كونها تنوعت بشكل هائل، لكنها ظلت، عادة، عملية معقدة تتطلب موهبة وتدريباً يمتدان عميقاً في النظام الاجتماعي.
من الممكن أيضاً أن تكون إيجابية. والاستحسان من الرقباء الفرنسيين يشهد لتميز الكتب التي اعتبرت جديرة بامتياز ملكي. أحياناً تشبه النصوص الترويجية على ظهر الغلاف الخارجي للكتب اليوم. العمود 16 في “الكتالوج” السري للخدمة المدنية الهندية يمكن قراءته أحياناً كعروض للكتب الحديثة، وأحياناً يشيدون بالكتب التي يبقونها تحت المراقبة. إبان عملهم كرقباء، عمل المحررون، في ألمانيا الشرقية، بشدة على تطوير نوعية النصوص التي يفحصون. بغض النظر عن الوظيفة الأيديولوجية، إعادة العمل على النصوص كانت تشبه التحرير الذي يقوم به محترفون في المجتمعات المفتوحة. من البداية إلى النهاية، تحمل روايات الـ “جي دي آر” علامات التدخل الرقابي. بعض الرقباء اشتكوا من كونهم قاموا بأداء معظم العمل.
حدثت المفاوضات في كل المستويات، وعلى الخصوص في المراحل المبكرة، عندما يبدأ النص في اتخاذ شكل. هذا لم يحدث في الحكم البريطاني (الراج)، حيث تقيدت الرقابة بقمع ما بعد النشر، ولم يصب أيضاً الأدب الذي تم تداوله خارج النظام في فرنسا القرن الثامن عشر. لكن حتى فولتير، عندما نشر أعماله الشرعية أو شبه الشرعية، تفاوض مع رقباء، رؤسائهم، وسطاء مؤثرين، ومع البوليس. عرف كيف يتعامل مع كل تروس وأذرع أجهزة السلطة، وكان خبيراً في استخدامها لمصلحته. بالنسبة لمؤلفين من ألمانيا الشرقية، مثل آيريش لويست وفولكر براون، كان التفاوض شديد الأهمية بحيث يصعب فصله عن عملية النشر. قضوا في بعض الأحيان وقتاً، في المساومات على مقاطع، يفوق ذلك الذي يقضونه في كتابتها. الطرفان فهما طبيعة الـ “خذ – و- هات”، تقاسما حساً من الانخراط في نفس اللعبة، قابليْن لقواعدها، ومحترميْن لأرقامهما المتعاكسة.
انظر تقييم ألكسندر سولجنستين لخبرته في “العجل والسنديان”، المنشورة عام 1975، عقب عام من نفيه من الاتحاد السوفيتي. عندما تفتحه، تتوقع مواجهة صوت نبي، يبكي في البرية؛ ولن يخيب أملك، لأن سولجنستين يعتبر نفسه أرميا. عليه، يقدم معظم قصته في سجل مدهش: داهية، دقيق وساخر، وثري بالملاحظات السيسيولوجية حول كيفية عمل الأدب كنظام قوة في المجتمع الستاليني. نقابله بدايةً في الجولاج، خلال ثمانية أعوام من العمل في معسكرات السجن، كتب عن البؤس حوله، واستمر بالكتابة عقب إطلاق سراحه، بينما يحيا ببؤس كمدرس. كتب في عزلة وبحرية تامة، لأنه كان يعلم عجزه عن نشر أي شيء. لن تقرأ كلماته إلا بعد أعوام من موته، لكن عليه الحفاظ على سريتها. كان يحفظها، يكتبها، بغضون دقيقة، على شرائح رقيقة من الورق، ثم يقوم بلف الورق كأسطوانات، يقوم بضغطها داخل زجاجة ويدفنها في الأرض. بينما يتبع المخطوطُ المخطوطَ، استمر في تخبئتها بالأماكن الأكثر أماناً والأبعد عن التوقع. بعدها، لدهشته، أدان خروتشوف تجاوزات ستالين في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب، في 1961، وقام ألكسندر تفارودوفسكي، محرر النوفي مير، أكثر الدوريات أهمية في الاتحاد السوفيتي، بإعلان الاستعداد لنشر نصوص أكثر جرأة. قرر سولجنستين قبول المخاطرة. بصيغة أكثر اعتدالاً، قام بإعادة كتابة العمل الذي سيخترق في الأخير جدار الصمت حول فظائع الجولاج، تحت عنوان “يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش”؛ وقام بتسليمه للنوفي مير.
لدى هذه النقطة، تحول راوي سولجنستين إلى نوع من السيسيولوجيا. قام بوصف كل المحررين في الإصدارة، خصوماتهم، مناوراتهم للحماية الذاتية، والنضالات لخنق القنبلة التي زرعها وسطهم، ألكساندر ديمينتيف، الذكي، والعميل المزدوج للجنة المركزية للحزب الشيوعي، يضع الفخاخ وينصب الحواجز خلال المؤتمرات التحريرية، لكن تفارودوفسكي قد انشق. ككاتب أصيل ذي جذور فلاحية، “ولاؤه الأول كان للأدب الروسي، مع إيمانه العقدي في الواجب الأخلاقي للكاتب.” كان يشعر أيضاً بأنه مكره عبر “حقيقة الحزب”. في النهاية، قام ببسط شكوكه الخاصة تلك، للمتشككين من الموظفين، ومضى عبر المسودة سطراً سطراً مع سولجنستين، مناقشاً التغييرات. سولجنستين كان راغباً في إجرائها، إلى نقطة معينة، لأنه أدرك أن النص يجب أن يكون منسقاً كفاية ليعبر خلال المسار المعيق الذي يشكل الواقع الأدبي.
المسار نفسه كان مشروحاً – نسخ مسربة، نقاشات جماعية في أروقة السلطة، قراءة من قبل خروتشوف في بيته الريفي، والموافقة من الهيئة الرئاسية (المكتب السياسي). الرقباء الرسميون، موضوعين في الظلمة، أرعبوا عندما أبصروا البراهين. لكنهم امتدحوا الكتاب عندما مضى للطباعة، إذ تم إخبارهم في الدقيقة الأخيرة بحصوله على الموافقة من قبل اللجنة المركزية. خلق العمل ضجة، وكان يمكن أن يتبع بكتب أخرى قام سولجنستين بتجهيزها؛ لكنه قام بالاحتفاظ بها، غير راغب في إجراء التعديلات الضرورية- خطأ استراتيجي، كما سيبصر لاحقاً، لأن نافذة التوقعات ستغلق عندما ينتصر بيرجنيف على خروتشوف في 1964، وتغلق موجة جديدة من الستالينية الأدب الأصيل، قائدة سولجنستين، سيئ السمعة الآن، إلى المنفى. لأجل كل تفاصيلها الحية، المدعومة بقدر عظيم من التوثيق، لم تؤخذ القصة كفضيحة صحفية، ولا عكست الرؤية الغربية لحرية التعبير. في التعبير الروسي الدقيق، قامت بإعلان رؤية نبوية للأدب كآلة للحقيقة.
ميلان كونديرا يكتب بطريقة مختلفة، بمجازات ساخرة ومتطورة، غارقة في الوعي الذاتي بقرون من الأدب الأوروبي. هو، أيضاً، واجه الرقابة في لحظة ما، عندما انفتحت الستالينية فترة كافية لفضح خطوط أخطائها، ثم انغلقت مرة أخرى، في نهاية المطاف، مما دفعه إلى المنفى. تم إحياء الأدب والفنون الأخرى، لاسيما السينما، في تشيكوسلوفاكيا خلال الستينيات من القرن العشرين، بالرغم من يد الطغيان الثقيلة للنظام الشيوعي. استسلم الحزب نفسه للإصلاحيين مصمماً على تثبيت “اشتراكية ذات وجه إنساني”، في يناير من العام 1968، عندما أصبح ألكسندر دوبتشيك أول سكرتير له. ألغيت الرقابة خلال موجة من الإصلاحات المعروفة باسم ربيع براغ، وتمت إعادة تنشيطها بعد وقت قصير من الغزو السوفيتي في أغسطس. وقبل ذلك بعام، في يونيو1967، عقد اتحاد الكتاب مؤتمراً، بدا في وقت لاحق وكأنه مقدمة لربيع براغ. استخدمه كونديرا وغيره من الكتاب كمنتدى للمطالبة بمزيد من الحرية. في كلمته أمام المؤتمر، استشهد كونديرا بالأدب كقوة حيوية وراء “الوجود الفعلي للأمة”، “الجواب على سؤال وجود الأمة”، وندد بالرقابة، بعد اقتباس عن فولتير، بلغة الحقوق الطبيعية:
لأن الحقيقة يمكن بلوغها فقط عبر حوار لآراء حرة، تتمتع بحقوق متساوية. أي تدخل يعوق حرية الفكر والكلمة، مهما تكن رصانة آلات ومصطلحات رقابة كهذه، هو فضيحة في هذا القرن، سلسلة تشتبك في مفاصل أدبنا القومي بينما يحاول التضافر للأمام.
هل يمكن أن يظهر مثل هذا التصريح منشوراً؟ ليترارني نوفيني، المعادل الشيكي للنوفي مير، قررت نشره مع وقائع المؤتمر، متضمنة قراراً بإلغاء الرقابة. كان هذا كثيراً جداً على الرقباء في “هيئة النشر المركزي”، التي تماثل الـ “إتش في” في ألمانيا الشرقية.
لقد رفضوا السماح بذهاب الموضوع للصحافة، واستدعوا محرر الليترارني نوفيني، دوسان هامسيك، جنباً لجنب مع أعضاء هيئة تحريرها، للاجتماع بهم وبفانتسيك هافليك، رئيس قسم الأيديولوجيا باللجنة المركزية، المعادل التشيكي للقسم الثقافي باللجنة المركزية للـ”جي دي آر”. حسب تقدير هامسيك، تحول الاجتماع إلى صراع صعب يكابَد حول كل مقالة في الموضوع، وفوق كل شيء نص خطبة كونديرا. كونديرا نفسه كان موجوداً، وتجادل مع هافليسيك، سطراً بسطر، مصارعاً حول كل جملة وفاصلة. لم يستطع ببساطة رفض التفاوض، لأن الكتاب رغبوا في نشر المانيفيستو خاصتهم لتدعيم المقاومة العامة للستالينية. كسب بعض النقاط وخسر نقاطاً أخرى، مصراً طيلة الوقت على “عبثية رقابة نص يعترض على أي رقابة”، في النهاية، تدبر الحفاظ على كل شيء كتبه تقريباً. لكنه لما غادر الاجتماع، كان بائساً. “لماذا رضخت؟” اشتكى لهامسيك. “سمحت لهم بجعلي أبله كاملاً.. كل تسوية هي تسوية رديئة.” بعدها بفترة بسيطة، اتصلت اللجنة المركزية للحزب لتقول إنها لا تستطيع قبول المساومة بعد كل شيء. الوقائع لم تنشر قط. وشعر كونديرا بارتياح عظيم.
في وصف هامسيك لهذا المسلسل، ظهر كونديرا كـ”زبون صعب”، كاتب بهذا القدر من الالتزام الراسخ نحو فنه بحيث أحس بالقرف من أي درجة تسوية مع السلطات السياسية. عندما أتت الكارثة، مهما يكن، كان على استعداد، مثل سولجنستين، لتقليم نثره بغرض كف قبضة الحزب عن الأدب. هو، أيضاً، فهم الأدب كقوة زيفت الهوية القومية، على الرغم من ربطه له بشكل واسع مع ازدهار الحضارة الأوربية، كان يشكل هذا النوع من الأهمية المتعالية بالنسبة له، في الحقيقة، بحيث لم يستطع هضم المفاوضات والتسوية التي تحدد الحياة الأدبية في كل الأنظمة الستالينية. بجعله متواطئاً في طغيانه، حتى عندما قاوم، انتهك الأمر إحساسه بنفسه.
الإحساس الداخلي بالنزاهة المجروحة حدث أيضاً في تقييم نورمان مانيا لتعامله مع الرقباء في رومانيا الشيوعية خلال الثمانينيات، عندما أسس نيقولاي شاوسيسكو نظاماً شمولياً خارج أجواء الاتحاد السوفيتي. مانيا أصر على “الواقع الإنساني” في جانبي انقسام القوى – الضباط الدهاة والفاسدون يرعون مصالحهم الخاصة عبر الدولة، والكتاب الطموحون يحاولون تطوير مهنهم في نظام مهيمَن عليه كلية بوساطة الحزب. كواحد من المؤلفين، مانيا تمنى إحداث اختراق بوساطة روايته “المظروف الأسود”، التي احتوت بعض الانتقادات الذكية الملتفة بعناية للشمولية حوله. بخصوص الرواية، التي رفضتها الرقابة، لم يتلق تقرير الرقيب حول كتابه، فقط نسخة من النص الذي فحصه الرقيب، حوالي ثمانين في المائة منها كانت مؤشرة للحذف أو المراجعة، دون أي توضيحات مصاحبة. كافح مانيا لمعالجة الاعتراضات وإعادة كتابة النص على نطاق واسع، وبعدها تسليمه عبر ناشره، كما من قبل. تم رفض الطبعة المعاد كتابتها، مرة أخرى، بدون توضيح.
بدا ألا مخرج من هذا المأزق، إلى أن استغل الناشر فرصة. أرسل النص إلى “قارئ” خارجي، من المحاربين القدامى المتقاعدين في نظام الرقابة، الذي يعرف عبر اتصالاته في الشبكة البشرية، تلك التي تجعل الأشياء تحدث خلف واجهة المؤسسات الرسمية. آتياً من “لا – رقيب”، كان بإمكان تقرير الرقيب هذا أن يتاح لمانيا. منحه استبصاراً وقراءة ذكية للكتاب واقترح تعديلات جوهرية. بقدر ما كانت مؤلمة، تبنى مانيا التوصيات الخاصة بـ”مدرس الرقابة الداهية”، لأنها كانت تعكس أمله الوحيد في الاستمرار بالوجود في عالم الأدب.
عملت الإستراتيجية، ونفدت الطبعة، وفي فورة نجاحه أجبر مانيا على النفي. في عام 1988، هاجر إلى أمريكا، حيث اكتشف “الحرية”؛ ليس نظاماً خالياً من القيود، ولكن نظام معقد يطلب تنازلات من تلقاء نفسها، متضمنة بعض التنازلات التي تفرضها “القوانين القاسية للسوق”. بينما يعترف بالواقع الصعب لممارسة الحرية في النظام الديمقراطي، ألح مانيا على الفروقات التي تجعلها مختلفة بشكل أساسي عما اختبره في رومانيا.
عندما نظر للوراء، إلى الحذوفات التي قبلها في المظروف الأسود، لم يأسف على ختان الممرات النقدية بقدر ما أسف على مجمل عملية المساومة والتسوية، والخسارة التي كلفته إياها. في النهاية، استخلص: “مكتب الرقيب قد فاز”.
دانيلو كيس مر بتجربة مشابهة في يوغسلافيا الشيوعية، بالرغم من أن الستالينية هناك أخذت شكلاً مخففاً. عندما ارتد إلى محاولاته للتعامل مع الرقيب، شدد على شخصيته غير المنظورة – الضغط غير الرسمي والمبذول بوساطة الناشرين والمحررين، الذين يعملون كرقباء بينما يمارسون وظائفهم الاحترافية، وفوق كل شيء، القوة الضاغطة للرقابة الذاتية. الرقيب الداخلي، والموظف-ذاتياً، كتب، هو ازدواج الكاتب، “الازدواج الذي يميل خلف كتفه ويتداخل مع النص في حالته العملية؛ مانعاً إياه من صنع زلات أيديولوجية. من المستحيل النجاح ضد هذا الرقيب-الازدواج؛ إنه مثل رب، يعرف الجميع ويرى الجميع، لأنه أتى من عقلك الخاص، من مخاوفك الخاصة، من كوابيسك الخاصة”.
عندما يحتج المنفيون من النظام السوفيتي بـ”الحرية” و”الحقيقة”، لم يكونوا ينشدون حماية التعديل الدستوري الأول ولا الكلام مثل الفلاسفة. كانوا يستخدمون الكلمات لشرح خبرتهم مع الرقابة كقوة تعمل في ظروف بعينها، قوة تحدد طبيعة الأدب في نظام سياسي قمعي.
“حرية التعبير” تعمل كمعيار لقياس القمع. لم تكن تضع القيود من كل الأنواع، بالرغم من أن بعض الأنواع أثرت على حيوات الكتاب. الحرية بالنسبة إليهم كانت مبدأ شديد المغزى، بناء على تجريبهم انتهاكه. التجارب تختلف، بالتأكيد، والاختلافات تجعل البحث عن اقتراحات عامة، من شأنها أن تشمل كل النماذج، أمراً ميئوساً منه؛ بما فيه بعض الحالات التي تمت دراستها عن قرب، مثل الرقابة في ظل الأبارتيد بجنوب أفريقيا. فهموا أيضاً أن الأدب في ما يسميه الغربيون “العالم الحر” يعاني من التقييدات. هل تحاجج تجاربهم بالطابع النسبي للحرية؟
أن نأخذ مأخذ الجد شهادة الكتاب الذين تم إسكاتهم، أو أسكتوا أنفسهم، تحت ظل الأنظمة الستالينية، لا يعني، مهما يكن، أن نساوي بين تجاربهم وتجربة أي شخص وجد تعسراً في طباعة كتاب، ولا هي تعني الخلط بين وسائط القرن العشرين في الإسكات مع طرق إخماد الأصوات في أزمان وأماكن أخرى. لم يتم تجهيز المؤرخين للعمل على إدراج درجات بعينها من الظلم في فترات مختلفة من الماضي. لكننا لا نستطيع تجنب صنع أحكام قيمة، وعلينا أن نكون قابلين لملاحظة الطرق التي تظلل بها قيمنا فهمنا، تماماً كما نعترف بالإطار المفاهيمي الذي يشكلها. عوضاً عن مواجهة البديلين إما/أو، أفضل أنا تحويل أرض الجدال.
وجهة النظر الإثنوغرافية للرقابة تعاملها بشكل كلي، كنظام من التحكم، الذي يسود المؤسسات، ويلون العلاقات الإنسانية، ويبلغ العمل الخفي للروح. في دراسة عملياتها، تعلمت أن أكن احتراماً أعظم للقواعد التي أشاركها مع مواطنين آخرين في جانبنا الغريب من العالم ولحظتنا من التاريخ. فهمت أن التعديل الأول لا يوجد خلف الحدود القضائية لدستور الولايات المتحدة، ولكنني أؤمن بالحق في حرية التعبير عن الرأي بكل حماسة إخوتي المواطنين، بغض النظر عن ازدراء المخضرمين الذين يسخرون من “تقوى التعديل الأول”.
بينما يحاول الفهم؛ على المرء أن يأخذ موقفاً، خاصة اليوم، بينما تراقب الدولة ربما كل خطوة نخطوها.
ــــــــــ
من خاتمة كتاب روبرت دارنتون: (الرقابة تعمل: كيف تُشكل الدولة الأدب).
*ترجمة: مازن مصطفى – روائي ومترجم من السو