حاتم تنحيرت الزيارات: 3787
inPartaتقديم :
إن العنف يحيل دائما إلى ذلك العدوان الموجه من الإنسان نحو الإنسان -أو تجاه الأشياء أو الطبيعة– و الذي يمكن حصره في مقياس من درجة الصفر ينطلق من مستوى العنف الرمزي و اللفظي ثم يبلغ درجته القصوى كما يبدو جليا في العنف الجسدي، وحالات الحرب و الدمار الشامل بين الأمم و الشعوب ، وقد ارتبط تاريخ الإنسانية بحالة العنف . إلا أنه لا يوجد عنف خالص ، أعني أنه عاجز عن تبرير نفسه فهو دائما يرفق بتعليلات تضفي عليه طابع – الشرعية- و تؤسس نفسيا و اجتماعيا لاستبطانه وجدانيا و ثقافيا . و لما كان تاريخ الإنسانية هو تاريخ إيمان بالماوراء كذلك و الاعتقاد في أنه لا يوجد خواء خلف الكون بقدر ما يمتلك هذا الكون في قبضة كائن أسمى يعد غاية قصوى للإنسان . فإن العبور إلى الذات المطلقة تحمله الصلوات لكن ترويه الدماء في أحيان أخرى حسب نماذج من تاريخ الإنسانية .
و ليست الغاية هنا تقديم رسالة في التسامح أو إصدار أحكام قيمة بقدر ما هي محاولة للفهم ، فهم علاقة الديني بالعنف و مستويات الالتقاء بينهما، و تفسيرات ذلك اللقاء و فهم تلك التفسيرات الخارجية الذي تربط العنف المؤسس على الدين بعوامل متعددة لكن دون أي أمل في الإمساك بفهمه من الداخل .
كما لا يهم الموضوع الإشارة لهذه الجماعة أو تلك ثم تصويرها كاتجاه عنيف، إذ أن ذلك خارج عن الأغراض البحثية الصرفة، بقدر ما نهتم ببحث و إثارة التفكير حول العنف الذي يجد مبرراته و يستمدها من الديني .
إن العنف باسم الدين ليس على شكل واحد بل يتخذ تنويعات عدة ، فنجد عنف الجماعات الدينية و العقائدية فيما بينها ، سواء كانت من أديان مختلفة ، مثل العنف الديني بين مسلمين و هندوس أو بين مذاهب من نفس الديانة كما هي صراعات الكاثوليك مع البروتستانت ، و أيضا يظهر العنف المرتبط بالدين كتعبير عن حالة قصوى من العدوان الحامل لمبررات دفاعية ، كما هو حال المجموعات العنيفة عبر العالم ، و التي لا تستطيع عمليا خوض حروب تقليدية فتتخذ أسلوب العمل العنيف الذي يجعل من الجسد و الروح فداء لمصفوفة من التصورات العقائدية .
فهل يمكن أن نقول أن الحقائق لا تنفصل عن إرادة القوة حسب نيتشه ، و الصراع من أجلها بتحويل الروح و الجسد إلى قربان للموقف و الرؤية و الاعتقاد ؟ أليس العنف هو آخر الحقيقة و ليس الخطأ كما يقول اريك فايل ، ألا تغرف الحقيقة بما هي وثوقية مطلقة الصدق من الديني أو الدنيوي ، السماوي أو الأرضي ؟
هذه تساؤلات مفتوحة على أفق التأمل غير أن محاولتنا هنا ستكتفي ببحث علاقة العنف بالدين ساعين جهدنا لإجابة عن الإشكالات التالية:
هل العنف في صيغته الدينية تابع للاقتصادي- السياسي و يغترف منه مشروعيته، و هل هو تعبير عن حالة يأس ؟
هل مقاربات التفسير المتعددة أنضجت فهمنا للظاهرة العنيفة المؤسسة على الدين؟
إلى أي حد نجحت المقاربات السيكولوجية في فهم العنف المؤسس على الدين ؟
هل الدين من حيث جوهره يشرع للعنف و يحمله في بنيته أم أن تأويل جوهر الدين هو من قد يوجهه نحو المسار العنيف ؟
محاور الموضوع :
1 - مفهوم العنف – مفهوم الدين
2- العنف المؤسس على الدين كموقف سياسي
أ - السياق السياسي العالمي و تهديد الإسلام
ب - الدولة الإسلامية كمثال للخير
3- تفسيرات العنف المؤسس على الدين : من الفقر إلى الأزمة الجنسية و حب الموت
- الأزمة الجنسية و العنف المرتبط بالدين
4-الدين: عنف جوهري أم عنف الفهم و التأويل؟
مفهوم العنف :
يمكن تعريف العنف كفعل عدواني يتخذ عدة أشكال لفظية و رمزية و جسدية و نفسية و اجتماعية ...و قد يكون من طرف أقوى على آخر أضعف منه كما قد يمارس في مواجهة بين أطراف متنازعة ، و الأهم من هذا كله – إذ لا يمكن تحصيل تعريف جامع مانع – أن العنف في حاجة دائمة إلى تبرير و مسوغ يستند عادة إلى مصفوفة من المبادئ الفلسفية أو الأخلاقية أو الدينية أو الأسطورية .و هذا البعد الأخير هو ما يمنح العنف طابعا من نوع غامض و يضفي عليه هاله تحوله من مجرد "عدوان" إلى "قيمة" و تجعل منه وسيلة من أجل غاية إيديولوجية ما.
مفهوم الدين :
يعرفه عالم الاجتماع إميل دوركايم قائلا: "الدين هو منظومة متلاحمة من الاعتقادات والممارسات المرتبطة مع أشياء مقدسة، بمعنى مفصولة، ممنوعة، معتقدات وممارسات تجمع في جماعة أخلاقية واحدة، تسمى الكنيسة، كل أولئك الذين ينخرطون فيها."[1] نلاحظ أن المعنى الدروكايمي للدين هنا يربط المبادئ الأخلاقية و منظومة الاعتقادات بالوحدة الأخلاقية للجماعة، و هذا ينسجم مع مساره الوظيفي عندما يضفي على الدين دور تعزيز اللحمة الاجتماعية ، غير أن كثافة الروح الدينية تصل إلى ذروتها عندما تؤسس للعنف بوصفه فعل مقدس أو تمنحه أبعاد عقائدية غيبية .
2-العنف المؤسس على الدين
أ - السياق السياسي العالمي و تهديد الإسلام
إن مقاربة العنف الذي يتخذ من المرجعيات الدينية أساسا له لا يمكن أن تتجاهل الإبعاد السياسية و النزاعات العالمية و وجود العالم الإسلامي ضمن نطاق نزاعات اقتصادية و سياسية ، و هنا يصبح العنف أشبه برد الفعل الموجه نحو "الآخر" دفاعا عن الهوية و الخصوصية و ضدا على كل أشكال التذويب و التبعية للغرب ، انه بهذا المعنى أداة احتجاج و تعبير عن عنف في وجه عنف آخر ، و بهذا أيضا تكون بؤر النزاعات أمكنة لهجرة العنف الأصولي بما هو استحضار لخطاب يغترف من المورث الإسلامي للدفاع عن أرض الإسلام في وجه العدو الكافر ، و هنا أيضا يتناسب العنف المؤسس على الدين مع مكانة القوى الدولية و يشتد باشتدادها، و بالتالي لا يمكن تجاوز السياق العالمي في فهم شدة العنف و العنف المؤسس على الدين، و بشكل خاص عندما تساق مسألة تهديد الهوية كأرضية لتأجيج النزاعات .
غير أن استثمار السياق السياسي العالمي ، لا يجد معناه دونما استحضار مستمر لنموذج السياسة المثالية من منظور الاتجاه العنيف بحيث تشكل مواجهة الآخر مبررا دائما لاستحضارها .
ب - الدولة الإسلامية كمثال للخير
يظهر العنف المؤسس على الدين أيضا كحالة للوعي الجمعي المتمحور حول استعادة دائما لحدث التأسيس ، تأسيس المجتمع الإسلامي الأول بوصفه مثال الخير الذي تجسد فيه تماهي الديني مع الدنيوي ، حيث تتأس الدنيا بتعاليم الدين و مبادئه ، و العالم الإسلامي يبدو دائم الاستعادة للحظة السقيفة ، سقيفة بني ساعدة حيث حدث سجال الخلافة ، بل إليه يرجع الانفصال المذهبي الأكبر في تاريخ الإسلام بين السنة و الشيعة ، و هو النزاع الذي يبدو و كأنه حدث بالأمس فقط بالنظر إلى الحجم العنف بين الطائفتين في مناطق "التماس" بينهما ، و مازالت دول و مجتمعات تعيش على إيقاعاته اليومية ، في حالات العراق و لبنان و سوريا و الأقليات الشيعية في المناطق السنية و الأقلية السنية في دولة إيران باعتبارها دولة تتبنى المذهب الشيعي رسميا ، و أيضا به تستعاد النزعات العنيفة التي توظف الاختلاف كآلية عنف، فيما تحكم رمزية الحدث و ترسباته الدينية/السياسية مفهوم الجماعات الدينية بتلويناتها المتباينة شكل العقد الاجتماعي الذي يجب أن يسود علاقات السلطة و نظام الدولة و المجتمع . أما الاتجاهات العنيفة فهي متشبعة بفكرة استعادة الدولة الإسلامية الأولى، و التي تختزل في نظام الشريعة عادة. إذ" لم يعين النبي خليفة له، بل أسس و شكل أمة. لذلك استحدث من باب الضرورة مؤسسة الخلافة كي تتمكن الأمة من الاستمرار. و اختلفت للفرق و الأحزاب و القبائل حول الخليفة الوارث للمشروع النبوي ، و حول شروطه."[2]
هنا يبدو أن التاريخ الإسلامي و عقله السياسي بالخصوص دائم الاستعادة لحدث السقيفة و مشدود إليها ،و هذا التوتر الدائم يجد استثماره في استثارة عواطف الجماهير دفاعا عن مثال الخير المفقود أي الدولة الإسلامية الأولى و النقية ، و محاولة تشريع العنف المؤسس على الدين بهذه الكيفية ، و هو أمر يذكر بالحملات الصليبية عندما أخذ السلاجقة القدس فدعى البابا أريان جموع الأوربيين ل"استعادتها" و في مقابل ذلك وُعِدوا بالغفران في الحياة الأخرى " و تردد النداء المعركة في كل قرية و ساحة و مدينة : " بمشيئة الرب " "[3]. وربما من المفيد تذكر أن العنف المؤسس على الدين هنا يسعى إلى جعل الذات الإنسانية تتوارى و تختفي خلف خطابه، و في المقابل يتم وضع الذات الإلهية في المركز ، فيقدم الإنساني كمجرد خادم للإلهي و منفذ لإرادته القدسية.
علينا أيضا أن نشير إلى أن نوعا من العنف المؤسس على الدين ينطوي على عدوان هو دفاعي في جوهره " حيث يقنع القادة الدينيون و السياسيون أنصارهم بأنهم مهددون من قبل عدو ما ليطلقوا بذلك استجابة ذاتية لعدوانية ارتكاسية "[4] ، هنا يصبح الدفاع عن الذات الدينية و الجماعية مسألة بالغة المشروعية و تضمحل لها قيمة الفرد أمام خطر تهديد المعتقد ، و هذه القناعة التي تقود إلى العنف و العدوان بغرض دفاعي في جوهره هي شبيهة بأوهام الاضطهاد الإرتيابية ، لكن على مستوى الجماعات إذ " نجد نفس الآلية و لكن ليس على أساس فردي وفي كلتا الحالتين يشعر الشخص ذاتيا بالخطر و يرد بعدوانية "[5] . أما رد الفعل الموالي سيتجلى في عنف انتقامي يحاول استرجاع كرامة دينية تم انتهاكها أو تدنيسها و هي الحالة التي يجعلها اريش فروم أقوى من السابقة - أي العنف الإرتكاسي - و أكثر منها مرضية حيث " يتناسب دافع الانتقام عكسيا مع قوة و إنتاجية مجموعة ما أو فرد ما . إذ ليس للعاجز و الكسيح سوى مصدر واحد لاسترداد تقديره لذاته الذي بدده الأذى الذي لحق به : الانتقام وفقا لقانون " العين بالعين و السن بالسن "[6] . هل يمكن فهم العنف المؤسس على الدين بواسطة هذه القراءة ؟ يبقى ذلك مفتوحا على أفق البحث .
إن العنف في التصور الشهير لعالم الاجتماع ماكس فيبر يظهر كممارسة تحتكرها الدولة بما هي احتكار لممارسة العنف الشرعي ، إلا أن العنف نزاع الشرعية – إن صح التعبير – الذي تخلقه تنظيمات داخل نفس الدولة أو ضمن دولة مفككة أو ذات شرعية استبدادية ، و يعزز صراع الشرعية هذا تأويل ديني لمعنى الشرعية ، كما تختزلها عبارة "شرعية الخروج على الحاكم الذي لا يحكم بما انزل الله " . لكن معنى الخروج هنا ليس مرادفا لمعنى الخروج اليهودي أو اعتزالية المتصوفة، بل انه المواجهة القصوى و العنيفة رمزيا أو فعليا مع السُلط المناقضة لهذه المرجعيات أو التي تنازعها الشرعية.
3- تفسيرات العنف المؤسس على الدين : من الفقر إلى الأزمة الجنسية و حب الموت
لقد دأبت الأعمال البحثية و الدراسات النفسية و السوسيولوجية بخاصة على مقاربة علاقة العنف بالدين على استدعاء تفسيرات لظاهرة العنف المرتبط بالدين من خلال عوامل و محددات أخرى ليست بالضرورة متعلقة بجوهر الاتجاه العنيف ، أعني الانطلاق من مسلمة ضمنية لا تتم مسائلتها عادة ، و هي التي تقول أن العنف الذي يتخذ من الدين مرجعية له ناتج بالأساس عن أزمة بعيدة عن الدين نفسه .
لنكتفي هنا بالفهم الماركسي للظاهرة الدينية بشكل عام كأيديولوجينا تفسر بعوامل خارجة عنها ، و كذلك المقاربات السيكولوجية التي تختزل الأزمة العنيفة في الأزمة الجنسية ،في هذا السياق يشكل الدين بالنسبة لماركس تمثل مزيف ل"حقيقة" العلاقات الاقتصادية القائمة على هيمنة الرأسمالية ، هنا يصبح الدين بوصفه "زفرة المضطهدين" و انعكاس لتعويض جمعي عن حالة القهر المادي و النظام الجائر ، و يصبح الدين – بصيغة الجمع دائما و ليس فقط بعده العنيف – أداة للسيطرة على الجماهير أو بتعبير ماركس الشهير "أفيون الشعوب ".
في هذه النقطة يصبح جليا أن التفسير المقبول سوسيولوجيا هو ذاك الذي يفسر الظاهرة بغيرها – في هذه النقطة ربما نكون قد انفتحنا على مسألة ابستمولوجية بالأساس، و التي لا تدخل في جوهر موضوعنا - أي تفسير العنف المؤسس على الدين من خلال عوامل الفقر مثلا أو المستوى الدراسي و المعرفي و في مستوى آخر النزعات السيكولوجية و الأعطاب النفسية و الأزمات الروحية لشخوص و جماعات العنف الديني .
من بين جميع العوامل حضي الفقر بدور الصدارة ، فتفسير العنف المؤسس على الدين بدور الفقر يبدو مغريا ، كما أنه نوع من السوسيولوجيا العفوية، أي نوع من الفهم الذي يضفيه الناس العاديين حول الظواهر الاجتماعية ، و هي ليست خاطئة بالضرورة بقدر ما هي غير مؤسسة على أبحاث دقيقة و "متيقظة" سوسيولوجيا .
لقد جعل اريش فروم شدة العنف النابع من أحاسيس انتقامية مرتبطا مع الفقر الثقافي و الاقتصادي و إن كان قد ربط ذلك بالدول الصناعية[7] ، فإن قراءة العنف الديني من خلال الفقر تبقى ذات قيمة في سياق مجتمعات و ظروف مغايرة أيضا.
لا يمكن استبعاد الفقر من عوامل تغذية العنف لكن أيضا لا يمكن الاقتصار عليه كتفسير سحري لظاهرة معقدة كحال الظواهر الإنسانية.
لقد تم تفسير العنف المؤسس على الاعتقاد الديني أيضا بعامل العطب و الأزمة الجنسية ، حيث يقترح وجود "الترابط بين الشخصية الأصولية المتشدد و الحرمان الجنسي " و هو الذي " يكمن في الترابط الذي أقامه رايخ (w.Reich) ، انطلاقا من تجربته الإكلينيكية ، بين الزهد في الحياة و التصوف من جهة و بين اضطراب التجربة الجنسية من جهة ثانية. و هذا ما قاده إلى اعتبار النزعة الصوفية حنينا و تطلعا لاشعوريا إلى لحظة الذروة الجنسية . و كلما اضطربت التجربة الجنسية تم البحث عن الإتحاد بالله "[8] هنا يصبح القلق الجنسي غير معزول عن التحول السيكولوجي إلى النزعة العنيفة كما يتحدث عالم الاجتماع الألماني هيلموت رايش (H.Reich). و الذي أضاف أن "الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة تؤدي إلى ظهور أخلاق جنسية متشددة و محافظة"[9].
يصبح العنف المؤسس على الدين في هذا التصور نزعة حرمانية تعويضية و تعبير عن عطب جنسي، يعبر عن نفسه من خلال المسلكيات العنيفة ذات البعد الديني كنوع من التفريغ ، و هنا أيضا يغدو التفسير متواريا خلف أسباب لكنها أسباب أكثر عمقا و خفاء في ثنايا الذات الإنسانية و تتخذ من هذه الأيديولوجيا أو تلك مبررا لتطفو على السطح .
كما أنه يمكن التعريج على فكرة العنف المتأصل في الذات الإنسانية إذ "ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذي القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون أنه لا يُدافع عن نفسه إلا إذا هوجم ، وإنما هو على العكس من ذلك كائن تنطوي مكوناته الغريزية على قدر لا يُستهان به من العدوانية. وعليه، ليس القريب، بالنسبة إليه مجرد مساعد مُمكن أو موضوع جنسي ممكن، بل هو أيضا موضوع إغراء وإغواء. و بالفعل فإن الإنسان نزّاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، وإلى استغلال عمله بلا تعويض، وإلى استعماله جنسيا بدون مشيئته.. وإلى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله. الإنسان ذئب للإنسان."[10].
لا يمكن إهمال نقطة ذات ارتباط مركزي بالعنف ، بل تشكل احد أهم نهاياته الدراماتيكية قاطبة ، و هي سفك دم الخصم و إنزال أقصى درجات التنكيل به ، فيظهر العنف هنا كتعبير عن ما سماه اريش فروم ب" التعطش البدائي للدم " الذي يسم فعل العنف و يتوج هالته المقدسة " و يغدو سفك الدماء مرادفا للإحساس بالحيوية و القوة و الفرادة و التفوق على الآخرين . و يغدو القتل هو التطهر الأعظم "[11].
الموت في هذه النقطة يجسد أقصى نهايات العنف ، و قريب من الانحراف الجنسي في هذا الصدد نجد النزعة النكروفيلية – و التي تعني حرفيا حب الموت – و يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الرغبة في امتلاك جسد ميت )لامرأة( بهدف الممارسة الجنسية أو الرغبة القاتلة في التواجد مع جسد ميت، وهو ميل وان كان انحرافا جنسيا فإنه يمكن ملاحظته عن العديد من الناس بدون أي شائبة جنسية ، بل يصبح كرها للحياة وحبا للموت ، وكمثال على ذلك فإن تقريرا من الحرب العالمية الأولى لم يتم إثباته يذكر أن جنديا شاهد "هتلر" واقفا في حالة نشوة، محدقا في جثة متعفنة و غير راغب بالابتعاد عنها .[12]
هذه حالات قد تبدو متطرفة و تعميمها – بالمعنى "العلمي" لكلمة تعميم – يطرح عدة عقبات، لكن هذه الحالات بالتحديد بفعل شدتها تبين لنا حالات ذات صلة تبقى خفية عنا لتواريها خلف الحجب النفسية الأكثر عمقا.
غير بعيد عن النكروفيليا كنزعة حب للموت يؤكد اريش فروم أن أحلام الشخصية النكروفيلية لا يغيب عنها انحراف النكروفاجيا أي الرغبة في أكل جثة[13] . تلك هي الدرجة القصوى للعنف الذي يتوارى خلف أستار لاشعورية، و قد يتوجه إلى العدو مباشرة أو قد يجعل من الجسد وسيلة لتلك الغاية التي تضفى عليها صفات القداسة
إن المعادلة هنا هي أن عنف والفقر و الحرمان و العطب الجنسي و نزعات التدمير و حب الموت يعاد تدويره اجتماعيا حتى تعبر عن نفسها من خلال العنف المؤسس على الدين في درجاته القصوى، لكن يبقى سؤال لماذا الدين و ليس شيء آخر ؟ هل العنف مستبطن داخل جوهر الدين نفسه أم أنه عنف التأويل للمتن الديني ؟
الدين : عنف جوهري أم عنف الفهم و التأويل ؟
يمكن أن نلاحظ بداية تمييزا أساسيا بين الدين النصي و الدين التاريخي[14] ،الأول قدسي و إلهي و الثاني لا ينفصل عن التاريخ و صراعاته ، و " يحضر خطاب العنف بشكليه الأضحوي القرباني و الأضحوي الآدمي . يتخذ الأول صيغة حضور للأضحية القربانية بشكل مؤسس . و مؤسس مع إبراهيم أب الإسلام. أما الثاني فيتخذ صيغة تذكير بالأضحية الآدمية التي حصلت و يجب ألا تحصل مرة ثانية )قتل قابيل لهابيل(. "[15]
هكذا تقدم التوراة علاقة هابيل بقابيل – أو قايين في المتن التوراتي - الذي لم يجد لحسده أي مخرج بديل عندما فشل قربانه –الزراعي- في نيل رضى الرب و ناله قربان أخيه – الحيواني- ، يقدم العهد القديم القصة كالتالي :" وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه ".[16]كما نجد التأويل الإبراهيمي لرؤيا ذبح ابنه إسحاق- في المتن التوراتي أو إسماعيل في المتن القرآني - لتنفرج الأزمة العنفية من خلال الحل المتجسد في الذبيحة الحيوانية- هذا التفسير أصبح معروفا و تقدمه الكثير من الكتابات الأكاديمية – و في هذا الصدد يتشكل عنف ينبغي تجنبه ، لكن مع ذلك يمكن إضافة استثمار النصوص الدينية أو مقاطعها التي تذكر العنف أو يقدم ظاهرها فكرة العنف كفكرة مستساغة أو شرعية ، إن كانت في حق المخالفين من أديان أخرى أو المتمردين من نفس الدين أو المتهاونين في ممارسة الشعائر الدينية ، هنا يقدم العنف كجزء من نسيج الدين و جوهره و يعاد توظيف تلك النصوص كل مرة تكون حاجة مجموعة أو شخص ما لدعم تصوره حول مشروعية العنف و إضفاء صبغة إلهية عليه . لكن في هذا الصدد أيضا يمكن تقديم ملاحظتين ، فمن جهة لا يمكن اقتطاع الخطاب العنيف من النص الديني، ذلك انه مثبت فيه و جزء من نسيجه ، لكن من جهة ثانية فان استثمار سياق تاريخي محدد و معزول بغرض إعادة إحيائه لتوظيفه كأداة تغذية للعنف هو أقرب إلى العنف في التأويل و الفهم ، إذ يستحيل تجاوز البعد التاريخي لسياق تلك النصوص كما يستحيل تجاوز صيرورات التقدم التي تطال المجتمعات و تاريخها ، لكن التأويل العنيف للمتن الديني عندما يسود و يهيمن على مساحة الخطاب يحتكر لنفسه إمكانية التأويل و بالتالي نصبح أمام عنف لا يقل خطورة عن العنف المؤسس على الدين ، ذلك أنه جوهري في حشد الحشود لتقتتل باسم الإله .
خاتمة :
إن العنف المؤسس على الدين مركز تقاطعات لخيوط تفسيرية متعددة بين التاريخي و الاقتصادي و السياسي ... كما يستلهم النص الديني ليعيد تأويله حسب سياق الحاجة إليه ، و لإن كان ذلك العنف يسعى دائما لإخفاء ذاته البشرية خلف الذات الإلهية، و يعرض نفسه كأداة لمشيئة فوق طبيعية فأنه من جهة أخرى يُؤل النص الديني بإرادة العنف ، غير أن تفسير العنف المؤسس على الدين من خلال العوامل السياسية – الاقتصادية التي تغذيها النزاعات العالمية يبدو غير كاف في محاولة فهم ظاهرة العنف باسم الدين، و إن كان ضروريا في عملية الفهم ، إذ يتبلور و يشتد مع عوامل الإحباط النفسي و الاجتماعي، و استمرارية العنف المؤسس على الدين عبر التاريخ يخبرنا بكمونه داخل نزعات الإنسان الواعية و اللاواعية الوهمية و الأسطورية الفردية و الجماعية ، بوصفه نزعة تدمير للآخر و الذات، أو جعل الذات وسيلة من أجل غايات "متعالية" يفنى فيها و يفني خصمه المغاير . كما قد يعبر عن حالة يأس كاملة لجيل الشباب بالخصوص باعتبارهم الفئة الفتية المشكلة لأهم روافد العنف المؤسس على الدين ، إلا أن فهم العنف هكذا بدون استكناه العلاقة بين دين الوحي و دين التاريخ تبقى قاصرة عن تحصيل نتيجة ذات جدوى ، و بهذا يمكن القول إن العنف المؤسس على الدين بؤرة تلاقي و كمون ينتظر اكتماله ليعبر عن نفسه عندما تكتمل شروطه الذاتية و الموضوعية فيتجلى رأي العين ، و يبقى أن نتساءل : هل العنف المؤسس الدين قابل للفهم من الداخل و استيعاب آليات منظومته الفكرية و العقائدية أم أنه ليس إلا تجل لعوامل أخرى أعمق منه ؟