التازي: الحلُّ الوسَطُ بيْن التحكُّم والثورة هو الملكيّة البرلمانية
هسبريس - محمد الراجي
الاثنين 20 يوليوز 2015 - 12:00
كريم التازي، رجلُ أعمالٍ لهُ مواقفُ سياسيَّةٌ غيرُ مُهادنة، على عكْس كثير من رجال الأعمال الذين يُفضّلون عدمَ الخوض في كلّ ما منْ شأنه أن يُزعج السلطة ويُثيرَ غضبها. عنْدما خرجتْ حركة "20 فبراير" إلى الشارع سنة 2011 كانَ من أحَد أكبر داعميها، غيْرَ أنّه رحّبَ بخطاب 9 مارس الذي أعلنَ فيه الملك تعديل الدستور، وأدْلى بصوته في الانتخابات التشريعية التي تلتْ ذلك.
مواقفُ التازي تَراها جهاتٌ في السلطة جرّيئة ومُزعجة، أمّا هوَ فيقول إنّها مواقفُ معتدلة. خلال الأسبوع الماضي وقّع عشرات السياسيين والمثقفين والفاعلين المدنيين عريضةَ تضامنٍ مع التازي، للتنديد بـ"حملة تشويه" تطاله. عنْ هذا الموضوع، وعنْ رأيه في راهنِ الوضع السياسي بالمغرب، وتجربة حزب العدالة والتنمية في قيادة شراع الحكومة، يتحدّث التازي في هذا الحوار مع هسبريس.
مؤخّرا وقَّع عشرات السياسيين والمثقفين الوازنين عريضةَ تضامنٍ معك ضدّ حملة تشويه قالوا إنها تطالك. ما طبيعة هذه "الحملة"؟
يتعلق الأمر بهجمة شرسة تنطلقُ من منصّة بعض المنابر الإعلامية، خاصّة أحد المواقع الإلكترونية. هذه الهجمة الشرسة التي لم يسبق أنْ طالني مثلُها انطلقتْ بعْد منع حفْلٍ لمغنِّي الراب معاذ بلغوات المعروف في الساحة الفنية بـ"الحاقد" كانَ مزمعا أن تنظمه بمدينة الدار البيضاء مؤسسة "ثرية وعبد العزيز التازي"، وهي مؤسسة ترمي لدعم اﻷنشطة الثقافية والفنية تابعة لعائلة التازي. منذ منْع هذا الحفل لاحظتُ أنّ الهجمات ضدّي تنامتْ بوتيرة غير مسبوقة.
هُنا لا بُدّ أنْ أشيرَ إلى أنّ أنشطة هذه المؤسسة ليست وليدة اليوم، بل تعود لسنوات، إذْ دَعَمتْ منذ أكثر من عشر سنوات عددا من الفنانين المغاربة الذين صاروا نجوما على الساحة الفنية، استفادوا خلال هذه السنوات من دعْم مادي ومعنوي، ومسارهم الفنّي بدأ من العمارة التي تحتضن المؤسسة حاليا. المؤسسة كانتْ تدعمهم دونَ أيّ مقابل، وقْتها كنّا نضع ذلك الفضاء رهَن إشارة الفنانين، وقبْل سنة قرّرنا أنْ نُمأسسَ عملنا وأن نوسّع مجال اشتغالنا الذي أصبح يشمل فنون المسرح والرقص والسينما والفنون التشكيلية.
لماذا برأيك أنتَ اليوم مُستهدف بهذه الهجمة الشرسة كما وصفْتها؟
لا أستطيع أنْ أحدَّدَ سببا معيّنا. قدْ تكونُ مواقفي مُزعجةً لبعض الجهات في السلطة، وهذه الهجمات المتتالية التي أتعرّض إليها اليوم أشعر أنّها تأتي في وقْتٍ تتسّم فيه أعصاب السلطة بكثير من التوتّر.
أقُول إنّ أعصابَ السلطة متوتّرة وأنا أستحضرُ المواجهة بين السلطات والجمعيات الحقوقية، وكذا اشتداد أسلوب التعامل مع الصحافة الأجنبية أو الصحافة المغربية المستقلة. ربما هناك بعض الجهات داخل الدولة تريد أن تضع جميع الفعاليات السياسية والاقتصادية والمدنية أمام خيار بسيط وخطير في نفس الوقت، وهو إما أنكم معنا أو أنكم ضدنا. وربما تشبثي باستقلاليتي ورفضي لهذا الخيار يُعتبر عصياناً يستحق "العقاب".
هلْ تلمسُ في كلّ هذا مؤشّرا على عوْدة التحكّم؟
بالنسبة لقضيّتي لا أستطيع أنْ أعُدّها مؤشرا على ذلك، فما يحدث معي قليل مقارنة مع القضايا الأخرى المتعلقة بالحريات العامّة. لا أستطيع أنْ أقولَ إنّ ما يجري يؤشّر على مُحاولةٍ من طرف السلطة لإعادة هيْمنة التحكّم. يُمكن أن نعتبرَ ما يجري محاولةَ انتقام من الذين ساندوا مواقفَ معارضةً لموْقف السلطة.
وأنتَ واحدٌ منهم لذلك تُهاجَم؟
يقولُ الفرنسيون: "الذي يُريد التخلّص من كلبه يُعلّل ذلك بأنه مُصابٌ بداء الكَلب" (qui veut tuer son chien l'accuse de la rage). هُناك جهاتٌ تزعجها مواقفي وتسعى جاهدة إلى إلباسي جُبّة العدميّ والجمهوري، وتقديمي على هذه الصورة، وأنني من الذين "أكلوا الغلّة ويسَبُّونَ الملّة"، وما إلى ذلك من الاتهامات الباطلة التي يتمّ تسويقها أمام الرأي العام.
إذا تفحّصتَ مواقفي ستجدُ أنّها في الحقيقة مُعتدلة جدا. إذا رجعنا لفترة ما يُسمَّى بـ"الربيع العربي" فصحيح أنني شاركتُ بحماس في الحَراك المجتمعي الذي قادتْه "حركة 20 فبراير" ولكن في الوقت نفسه كُنتُ واحدا من الذين رحَّبوا بخطابِ 9 مارس الذي أعلن فيه الملك عنْ مراجعة الدستور؛ وعنْدما عُرض الدستور على التصويت صوَّتتُ بنعم رغم التحفظات الكثيرة التي كانت عندي تجاهَه، وهذا تسبّبَ في نشوب خلافٍ بيني وبين بعض الأطراف في حركة 20 فبراير.
وعنَدما جاءت الانتخابات التشريعية لسنة 2011، لمْ أقاطعها، بل تفاعلتُ معها إيجابا، وأدليْتُ بصوتي. هذه المواقفُ كلّها تعبّر بجلاءٍ أنني لستُ عَدميّا، بل هي مواقفُ معتدلة جدّا.
لماذا تنزعج منك السلطة إذن طالما أنّ مواقفكَ السياسية معتدلة جدّا؟
أعودُ فأقول إنَّني مؤمن باعتدال مواقفي، لكنّها مواقفُ مبنيّة على التشبّث بالديمقراطية، والكرامة، ومحاربة الفساد وكلّ أشكال الريع. إذا كانت السلطة ترى في هذا أمْرا مزعجا فأنا لا يمكنني الرجوع عن مبادئي. لن أتراجع عن المطالبة بالديمقراطية، وبتفكيك بنْية اقتصاد الريع، وبمحاربة الفساد.
عندي قناعة قوية أن هناك خياراتٍ وُسطى في عديد من القضايا الجوهرية التي تشغل بال الشعوب العربية منذ اندلاع "الربيع العربي". ففي المغرب على سبيل المثال الحل الوَسط بين التحكم كما عرفناه منذ عقود، والثورة والفتنة كما نشاهدها باندهاش في بعض الدول العربية، هو الملكية البرلمانية.
الملكية البرلمانية تضمن استمرار النظام الملكي والحفاظ عليه كرمز وحدة البلاد واستقرارها، ولكن في نفس الوقت تقطع مع التحكم والسلطوية اللذين لا شك أنهما يؤديان إلى اﻹحباط ويُمهّدان الظروف المواتية لبروز الحركات المتطرفة والإرهابية كـ"داعش" و "بوكو حرام" وغيرها. كما أنّ الحل الوسط بين الدولة الإسلامية التي لا تعترف بعدد من الحريات الفردية والدولة العلمانية التي لا تعترف بهوّيتنا اﻹسلامية هو الدولة المدنية. كل هذه الخيارات ربما تزعج طرفا أو آخر، مما يؤدي لبعض ردود الفعل السلبية.
الغريب في الأمر هو أن عدداً من هذه المواقف ربّما تقبلها السلطة لوْ صدرتْ من فاعل سياسي أو ناشط حقوقي، لكنّها ترفض أن تصدر عن رجل أعمال.
لماذا؟
رجالُ الأعمال يستفيدون من الوضع القائم، لذلك لا يجبُ أن ينتقدوا ولا أن يُطالبوا بالتغيير ولو كان على شكل الإصلاح. الدفاع بقوة عن الإصلاح من طرف رجال الأعمال يُعتبر موقفاً غير مقبول من طرف أطرافٍ في السلطة، ولتبرير محاربة تلك المواقف يُوصفُ الذين يتجرّؤون على خرْق قاعدة الصمت، بالثوريّين والعدميين أو بأعداء المؤسسة الملكية وأعداء استقرار البلاد.
منحْتَ صوْتَك في انتخابات 2011 التشريعية لحزب العدالة والتنمية، وقبْل سنةٍ انتقدتَ تجربة الحزب بشدّة. كيفَ ترى اليومَ حصيلة "الإسلاميين" والولايةُ الحكومية تمضي نحو نهايتها؟
حزبُ العدالة والتنمية تمكَّن من تحقيق نجاحات هامةٍ في عدد من المجالات ولا أحدَ يستطيعُ أنْ يُنكرَ ذلك. الحكومة ُ أظهرت شجاعة حقيقية وخاضت معاركَ لم نكنْ نتوّقع أنْ تخوضها، وتربحَها. خُذْ على سبيل المثال إصلاحَ صندوق المقاصّة، الذي جنّب الدولةَ المغربية الإفلاس. خُذ أيضا منْع التوظيف المباشر في الوظيفة العمومية، لقد كانَ بإمكانهم أنْ يركنوا إلى الموقف الديماغوجي السهل ويتْركوا الأمور على ما هي عليه إرضاءً للناخبين، لكنّهم تصدّوا لهذا الابتزاز.
الحكومة التي يقودها حزب سي بنكيران كانتْ لها الشجاعة أيضا في اتخاذ قرار الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل، ووضعتْ حدّا لموجات الإضرابات التي كانتْ تُلحقُ ضررا بمصالح المواطنين. هُناك أيضا نجاح نسبي لإصلاح منظومة العدالة. وزير الصحة أيضا أنجز عملا كبيرا، ولمْ يكنْ ليتأتّى له ذلك لولا الدعم الذي حظي به من طرف رئيس الحكومة شخصيا؛ لقد فشل عدد من وزراء الصحة السابقين في تحقيق إصلاحاتٍ في القطاع بسبب غياب تضامن الحكومة. صحيح أنّ الفضلَ فيما تحقق يعود للوزير الوردي، لكنه لم يكن لينجح لولا دعم بن كيران شخصيا.
عُموما، يمكن القولُ إنّ حزبَ العدالة والتنمية خاض معاركَ مهمّة جدّا، وحقّق نجاحاً في بعض المجالات، لكنْ في مقابل هذه الإنجازات هناك إخفاقات. في مجال محاربة الريع والفساد أَرى أنهم نكّسوا أيديهم (هْبّطوا يْدّيهم). خطابُهم لمْ يعُدْ بتلك القوّة التي كانَ عليها في الأيام الأولى لوصولهم إلى الحكومة، وصِرْنا نراهُم يعمدون إلى تكتيكات حزبيّة في بعض المواقف، عوَض العمل بما تمليه المصلحة العامّة، وهذا طبيعي، فلكل حزبٍ حسابات، لكن لا يجبُ التخلّي عن المواقف.
أمّا أكبرُ فشلٍ لحزب العدالة والتنميّة في تجربته الحكوميّة فهوَ أنَّ قادته الموجودون في الحكومة لمْ يبْذلوا مجهودا، ولمْ يُحاولوا تنزيلَ ما جاءَ به دستور 2011 وتفعيل مقتضياته على أرض الواقع. لمْ يُبادروا إلى خوْض هذه المعركة، وهذا أكبرُ خطأ ارتكبوه في تجربتهم الحالية.
بمعنى أنّ حصيلة الإسلاميين لم تكنْ سلبيّةً كلَّها ولا هي إيجابيةٌ بالمُطلق؟
نعم، حصيلتهم ليستْ كلُّها سلبية. كانتْ لهم مواقفُ جيّدة سيكون لها انعكاس إيجابي وتأثير عميق على مستقبل المغرب، لكنْ عليهم أنْ يُضاعفوا جهودهم في العناية بالقطاعات ذات الأولوية وعلى رأسها التعليم. الاقتصاد المغربي لا يُمكن أن يُنافس، ولا أنْ يفرض نفسه ويصنع له مكانا بيْن اقتصادات الدول الكبرى إلّا إذا كانَ قادرا على المنافسة، وأهمّ عنْصرٍ للتنافسية هو العنصر البشري.
يجبُ على الحكومة أنْ تُولي اهتماما كبيرا للعنصر البشري، فهو متوفّر في المغرب، لكنّه لن يُساهم في رفع القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني إلا إذا كانَ مؤهّلا، وهذا يقتضي تعليمَه وتكوينه، تعليما وتكوينا جيّديْن. ورغم الأهمية الكبرى للعنصر البشري، إلا أنّ الحكومة ليستْ لها مواقفُ تعبّر عن وعْيها بأهميّة هذا العنصر، وبالتالي عدمُ وعيها بموْطنِ ضعف التنافسية الاقتصادية للمغرب. كنّا نتمنّى أن تعطي الحكومة الأولوية للنهوض بالتعليم، لكنّ ذلك لم يتمّ. اليومَ نشعرُ بخيبة أمل.