الوجه الأوللا يمكن النظر إلى الكاتب باعتباره كلاّ واحدا، أي حصره داخل تلك النظرة الشموليّة الرادعة، ومن ثمّ الجزم بأنّ خطّا واحدا يحكمه وجودا وكتابة، هذا التماهي بين عالمين هما الوجود من ناحية والكتابة من ناحية أخرى يفرض استتباعات خطيرة تأتي تاليا لتسقط فرضيّة مثاليّة تقرّ ولا تنفي، تملي ولا تفسح في المجال لحقيقة التفكير والتأمّل.
وفوق هذا كلّه تخيّلوا مقدار التدخّل في الخصوصيّة المتّصلة بصاحبها والحرص على تجاوز حيادها، ذلك الحياد الضروري لكلّ فرد بغضّ النظر عن كونه كاتبا أو غير كاتب.
لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا الافتراض ضديد، بالضرورة، لا فقط لحرّية الكاتب وإنّما أيضا وبالامتداد لحرّية النصّ المنتظر وفق المقاس المعدّ مسبقا، في حالة انتظار مثل هذه، وهي مختلفة حتّى عن انتظار أحدهم لأحدهم في محطّة قطار من حيث مفاجآتها.
هناك حكم يجبر على الاتّباع حتّى تستخدم، كأنّ تستخدم أداة صمّاء، كلمة ولا تستخدم كلمة، وتستخدم عبارة ولا تستخدم عبارة، فالروائح مختلفة اختلافا مذهلا، وهناك فقط، وهذا مرعب، رائحة واحدة يراد أن تفوح وتينع مثل شجرة كثيفة وحاجبة لما وراءها حتّى وإن كان ضوءا.
ألا يقود هذا إلى السؤال التالي: من كتب النصّ؟ أو بصفة أدقّ ليغدو الأمر متّصلا بالشخص: من هو كاتب هذا النصّ؟ وهكذا ننزلق إلى المجال الآخر المصطنع أصلا الذي يكون فيه الكاتب دالاّ على النصّ أي نصّه عوض أن يكون النصّ دليلا على صاحبه، والفرق بين هذا وذاك كبير لأنّه ثمّة فرق بين أن تنظر إلى النصّ من خارجه وبين أن تنظر فيه، في الثنايا والمضامين والتفاصيل والحيثيات واللّطائف والهواجس الماكثة في مكامنها.
لا مجال للشكّ في أنّ كلّ كتابة تتوفّر على شروط الكتابة تنطوي على هاجس أو هواجس تتطلّب الإنصات إليها، وهو أمر لا يظهر إلاّ في المجال الأصلي المسمّى بمجال الكتابة بناء على أنّه المجال الذي تتحدّد ضمنه عدم المباشرة بوصفها احتمالا ممكنا لا يتحقّق في الوجود العادي المباشر .
وهكذا فإنّ المطابقة بين الوجود والكتابة نفي لتلك الهواجس وإبعاد لها من المرئيّ إلى غير المرئيّ، إنّها مسألة قديمة طواها النقد حينما نظر في المبالغة والتخييل والاستعارة وغيره ضمن حدود الشعري خاصّة.
ولا يهمّنا الاختلاف فيما يتعلّق بذلك من جهة المدارس والمذاهب، ولكن ما يهمّنا الاعتراف الصّريح والضمني في الأثناء بأنّ تربة الكتابة تتفتّح فيها أزهار لا تتفتّح في الوجود.
وبعيدا عن كون ذلك يؤدّي وظيفة التطهير أو وظيفة تركيز الطاقة النفسيّة ضمن المقاربة الكلاسيكيّة العتيدة المفعمة بالفلسفة، فإنّ الكتابة تنطوي على تقنيات عظيمة تلوي الأعناق بالعبارة القديمة، ولنقل إنّ تلك التقنيات هي التي تجعل غير الممكن ممكنا وغير الموجود موجودا أو تختلق وفق مقترب إدوارد سعيد، وذلك حينما تتحالف مع الخيال وتعمل من ثمّ على تحفيزه باستمرار، وهنا موطن الخوف من الكتابة إذ في هذا المفترق تواجه الهواجس المشحونة بها وتبعد وتغمر في العتمة بفصلها عن وجهتها الطبيعيّة.
الوجه الثانيثمّة وضع آخر في غاية الأهمّية يفرض بموجبه الكاتب على نصّه مقاسا يحدّد مسبقا، وهذا يطيح بمغامرته مغامرة الكاتب ما دام قد سقط في وهدة التماهي، ويكفيه آنئذ النظر انطلاقا ممّا حوله، ثمّ المطابقة بين النصّ والوجود تأسيسا على طرح ثقافي بعينه. لا أقصد أنّ الأمر له علاقة بفلسفة خاصّة لها ما يميّزها، وإنّما الانخراط في كوكبة قادرة على الجذب.
أريد أن أعود هنا إلى ما كتبه الناقد التونسي المعروف محمّد لطفي اليوسفي حين مباشرته مدوّنة آسيا جبّار: "لقد نذرت المؤلّفة أعمالها لكتابة تغريبة المرأة المسلمة بهدف إعطائها فرصة الخروج من منطقة الصمت ودائرة العتمة".
ولكنّه توصّل في نهاية مقاربته إلى أنّ ما أنتجته الكاتبة إنّما هو "الصورة النمطيّة المعمّمة في الزمان والمكان ... فتبدو الجزائر والعالم الإسلامي عموما عالما جحيمياّ كابوسيّا". ثمّ خلص إلى أنّ تلك الصورة منفعلة بما تسلّل إليها من رؤية استشراقيّة ظلاميّة.
ربّما ما جعل الكاتبة تصل إلى تلك النتيجة ذاك الطرح الأيديولوجي الذي عملت على إيصاله إلى المتلقّي، وهو ما أشار إليه اليوسفي.
قد يقول أحدهم إنّ هذا ضرب من الاستلاب الثقافي. لا أميل إلى هذا لأنّه ما المانع من القول إنّ ذلك يمثّل قناعة لصاحبها وتجربة خاصّة تمتلك أبجديات مميّزة.
هذا السياق الذي سلكته أسيا جبّار يذكّر بمثال كبير على قوّة جذب ثقافة كالثقافة الغربيّة لأشخاص لا ينتمون إليها بالمعنى الأصيل. إنّه مثال كونراد الذي تجاوز لغته الأمّ بوصفه بولونيّا كما تجاوز الروسيّة والفرنسيّة ليخترق الإنجليزية اختراقا. هذا يدعم فكرة أنّ ثقافة معيّنة لها القدرة على جذب آخرين نحوها عن طريق جعلهم يتكلّمونها ويبدعون عبرها، وبالتالي القدرة على أن تدعم نفسها بأشخاص مختلفين من حيث أصولهم ونشأتهم وميولهم الدفينة.
حدث ذلك في إطار الثقافة العربيّة الإسلامية وهي في أوج ازدهارها، ممّا يعني أنّ الثقافة القويّة والمهيمنة قادرة في مسارات عديدة، وفي ما يتعلّق بأمثلة عديدة، على توجيه الكتابة، أو بالأصحّ جعل منتمين جددا يوجّهون كتاباتهم وفق رؤاها وخطوطها لا وفق هواجسهم الذاتيّة الخاصّة بهم، إلاّ إذا كان الكاتب مفكّرا قبل كلّ شيء، بمعنى أن يكون قادرا على نفي التماهي وإرباكه واختراقه بمحافظته على دائرة الخصوصيّة المعروضة أصلا في كلّ عمل مكتوب.
ولكنّ الظاهر أنّ الكاتب في ظلّ تقاطعات حضاريّة مزعزعة أو مغرية أو مفروضة قد لا يفكّر سوى في شاشة عرض كبيرة وضخمة وممتدّة يكتب عليها ذاته السابحة في التيّار القويّ المتّجه إلى الأمام حيث الحلم بالشهرة والمكافأة الجزيلة، لذلك فهو مستعدّ في تلك الظروف لإنكار جلدته النابضة والانخراط في اللّعبة العظيمة المسمّاة الادّعاء تحت أكبر عدد من العيون الملاحظة.
يبدو أنّ الكاتب وقع في هذه النظرة التي يمكن تسميتها بطريقة من الطرق مثاليّة، رغم أنّها في الأصل نفعية واستهلاكية وسطحية، وذلك بالضبط حينما يغمض عينيه حيال شروط الواقع المحيط به، ممّا يفتح الأمر على مسألة التجربة والتي تحتاج إلى تعريف طويل وعريض لغاية التصحيح.
ولا أقصد بالطبع ذلك التعريف النظري المحيل على المعيش والحارق في الحياة، وإنّما أقصد فلسفة الكتابة بمواجهة الحياة، تلك الفلسفة التي تباشر الحياة من داخلها، أي من داخل السياق الاجتماعي لا من خارجه دون الأخذ بالتأثيرات الخارجيّة التي قد تشينه، وهو ما يؤدّي إلى الامتلاء بالمعطى الاجتماعي، ثمّ يحدث بعد ذلك التفاعل معه في مستوى الكتابة ضمن كفاية عالية هي كفاية الفنّ، فتتولّد تطوّرات جديدة ذات أصول كما رأينا مؤثّرة في ما حولها.
والكتابة بهذا الشكل منضوية بالضرورة إلى كيمياء تجعلها ذات ميزة وتأثير حتّى في كاتبها فما بالك بالمجتمع والعصر، وهذا أمر في غاية الأهميّة طالما أنّ التفكير الذي تبعث عليه تلك التصوّرات الكتابيّة العميقة جديرة بالتعبير عن التغيّرات، على عكس الإملاءات التي لا ينتج عنها سوى الإسقاط من خارج المجتمع ومن وراء أنساق فكرية ذات أحكام مسبقة ومدروسة، كأن يقرّر ضمن المنظور الغربي للشرق ذلك التبرير للاستعمار على أساس أنّه تعمير وتحضير للمجتمعات الباردة والساكنة والغافية، ويجري ذلك في أطر الخيال والتصوّر المتاحين في دائرة الفنّ بما هو ساحة أخرى للتأثير والسيادة.
الوجه الثالثهناك حقيقة لا مفرّ منها، هذه الحقيقة تقرّ أنّ كثافة الكتابة التي هي طبيعتها الباهرة لا تتواءم بالمطلق مع إجراء ذلك التطابق بين الكتابة والكاتب. ولا تتواءم بالمطلق مع إسقاط سياق ثقافة أخرى على واقع ذي شروط مخصوصة، بل إنّ هذه الخصوصيّة ذاتها تحتمل، وهذا هو الأهمّ، ذلك الهامش الغامض بين الكاتب والكتابة، بما يجعل ممكنا الإشارة إلى لعبة التضليل المتجاذبة بينهما، وهي لعبة تقتضيها عدم المباشرة، أي وجهة نظر الفنّان والفنّ، فالإحالة ليست ساذجة كما هي إشارة الإصبع إلى هذا على أنّه هذا.
هذا التضليل أو الضرورة الفنّية الملازمة لفنّ الكتابة يجذب إلى البحث باستمرار في خفايا العوالم التي قد تبدو مرئيّة أو مطروحة أو مفترضة، ولنتذكّر هنا على سبيل المثال لا الحصر تلك القراءة التي وضعتها آني كوهن سولال، مستشارة الثقافة في سفارة فرنسا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة لسارتر.
قراءة سولال تتضمن تعريض سارتر لاتّهامات خطيرة تشكّك في تاريخه الوطني بين 1942 و1944 إبّان الاحتلال الألماني، وهي شكوك بنيت على علاقة ما بين سارتر وغيرهارد هيلر، منفّذ الرقابة الألمانيّة على الأدب الفرنسي.
هذه العلاقة جعلت سارتر قادرا على التأليف والنشر وعرض مسرحيّة "الذباب" في سنة 1943 والظهور العلني دون خوف، كما يشير إلى ذلك هيلر في كتابه " ألماني في باريس"، وإلى جانب أنّ في ما كتبه سارتر احتمالات متينة كما في قولته الشهيرة: "لم نكن أحرارا في وقت من الأوقات كما تحت الاحتلال الألماني".
وبغضّ النظر عن المعنى الذي لطالما ذهبنا إليه وتناهى إلينا من مدرّسينا حينما أخرجوا ذلك على أنّه وضوح في أهداف الوطني إصراره على الحريّة رغم الموت المحلّق فوقه، فإنّ الاحتمال المستجدّ يتمحور حول خبث سارتر في التعامل مع جديد عصره واقتناص المفاجأة والمبادأة بالموقف.
تلك أوجه مفترضة تنبو على الكتابة وتتأجّج من داخلها وفقا لتنوّع السياقات المؤثّرة. ولا شكّ أنّ الرهانات مختلفة بيد أنّ الوقائع تعمل باستمرار على الاختبار والترشيح والاجتراح بأدوات متنوّعة ومعروضة في أفق العقل والعاطفة.