06 يناير 2014 بقلم
عبد السلام بنعبد العالي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:كتب جاك دريدا: "وقعت مؤخرا في عشق العبارة الفرنسية التي لا أعتقد أن بإمكانها أن تُنقل إلى لغات أخرى، وهي عبارة: une fois pour toutes. تدل هذه العبارة، بكيفية شديدة الاختصار، على الحدث المتفرد غير القابل للرجوع القهقرى لما لا يحدث إلا مرة واحدة، ولما لن يتكرر بالتالي، إلا أنها تفتح في الوقت ذاته الآفاق لكل البدائل والكنايات التي من شأنها أن تجر الحدث خارجا. فسواء شئنا أم أبينا، فإن اللا متوقع لا بد وأن ينبثق من خلال تعدد التكرارات. من شأن كل هذا أن يقضي على التقابل المبسّط بين التقليد والتجدّد، بين الذّاكرة والمستقبل، بين الإصلاح والثّورة."
يميّز صاحب "مفهوم المباينة différance" هنا، بين مجرد الإعادة التي تفصل فصلا مطلقا بين الذاكرة والمستقبل، وبين التكرار الذي "يجرّ الحدث خارجا"، فيحدث شرخا في الكائن ويدخل الزمان في تحديده، لا لحصره، وإنما لجعله معلقا في حركة إرجاء دائم، حيث "يدّخر" نفسه.
تقوم هذه المسلمة على فكرة أساسية تكاد تطبع الفكر المعاصر انطلاقا من هيجل، يصوغها دريدا على النحو التالي: "ما يواجهنا اليوم، إنما هو قديم مخبأ في التاريخ". نكاد نعثر على هذه المسلمة عند أغلب المفكرين المعاصرين؛ فمعظهم يفترض، سواء أعبَّر عن ذلك بصريح العبارة أو اكتفى بالإيماء إليه، أن ما يحدث في الحاضر، وما يصدمنا بجدته، إنما هو في الحقيقة اتصال بشيء قديم جدا كان خفيا. لا يعني ذلك مطلقا دوام الأمور على حالها وعودة المطابق، ذلك أن العودة التي يفترضها هؤلاء لا تتم في هدنة مع نفسها أو مع ماضيها، وإنما تتحقق عبر سلسلة من الانفجارات. يستخلص دريدا من ذلك: "أعتقد أن علينا أن نحتفظ بتوكيدين متناقضين في الوقت ذاته: إذ نؤكد على وجود هذه الانفجارات من جهة، ومن جهة أخرى نؤكد على أن هذه الانفجارات تولد الفجوات أو الأخطاء، التي يمكن أن يظهر فيها كل الأرشيف المنسيّ والخفيّ، وأنها تتكرر وتتواصل عبر التاريخ".
على هذا النحو، لن يعود بالإمكان التمييز بين الإعادة والتكرار بالقول، إن "الإعادة ضرورة والتكرار فائض"، وإنما بالذهاب، حتى القول: "إن الإعادة ليست إلا ضرورة، أما التكرار ففيه فائض، فيه كل الفائض".
تُطابق الإعادة بين الوجود والحضور فتقتل الاختلاف، وتجمّد الكائن، وتبلد الفكر، وتقمع الخيال، وتكلس اللغة، وتخشب الكلام؛ فتكرس التقليد. أما التكرار، فهو ليس عودة المطابق، مادام يحيد بالمكرر نحو منحى آخر، نحو آخر، فيجره نحو ما يخالفه. حتى إننا يمكن أن نذهب إلى القول، إنه إن كان بالإمكان الحديث هنا عن هوية للكائن، فبفضل التكرار.
هذا ما يؤكده دريدا نفسه، إذ يقول: "لا تعارض بين التكرار وجِدَّة ما يخالف. فهناك دوما اختلاف يحيد بالتكرار نحو منحى آخر، وذلك بطريقة جانبية مضمرة. أطلق على ذلك لفظ itérabilité؛ أي انبثاق الآخر (من السانسكريتية itara) في عملية الاستعادة والترديد".
التكرار إذن، هو ما وراء ديناميكية خلق الهوية المنفتحة، إنه حركة "المباينة" التي تحدد الهوية كانتقال ملتو من مخالف لآخر، فتجعل التجديد ينبثق من عمق التقليد، وتردّ إلى التقليد غناه وثراءه، فتسمح لنا بأن نردد القول و"أن نقوله مرة أخرى أول مرة".