‘شيئان في بلدي خيبا أملي، الصدق في القول والاخلاص في العمل’**
لقد أرادت الحشود العربية اسقاط أنظمة الاستبداد في ثورات الربيع العربي،
فأفضى ذلك الى اضعاف مقدرتها على مقاومة الاستعمار ورد العدوان وإهدار سيادة الأوطان واستقلالية القرار. لقد تمثل طموح المواطن العربي في الانتماء الى دولة ديمقراطية تشهد تعددية وتداولا سلميا على الحكم، يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه بواسطة القانون، ويتم فيها الفصل بين السلط وضمان حقوق الانسان، وتحترم الأغلبية خصوصية الأقليات، ويتحمل فيها الأفراد كامل مسؤوليتهم في المشاركة الفعلية في ادارة الشأن العام، وتنمية موارد البلدان وبناء مؤسساتها العصرية ضمن أنظمة عادلة. لكن كل هذا الطموح ظل الى الآن مجرد حلم طوباوي حاصرته الايديولوجيات، ومنعه من التحقق صراع
محموم على السلطة، تارة باسم المحافظة على الشرعية وإتمام المرحلة الانتقالية بسلام، وطورا باسم مواصلة الثورة واستكمال رحلة العصيان والتمرد على الأنظمة القديمة، وأخيرا تحت رايات الانقاذ وتدارك ما فات والاستفادة من خبرات الماضي وعدم تعريض الدول الى الهلاك.
هناك أمور غريبة عاودت الظهور بعد الحراك، فقد سيطرت مشاعر ذرائعية عجيبة على الناشطين، واستبدت بالجماهير غريزة عرقية بالعظمة والمجد، واستفاق حنينهم البدائي الى الاستبداد، بعد خيبة الأمل وانفلات القوى التدميرية من الرقابة الآلية التي تلوذ بها الذات الجمعية عند المحن. لقد حلم السواد الأعظم بدولة الرعاية والمتجمع المتكافل، والمستقبل المشرق والشغل القار والحماية الاجتماعية المتكاملة، والحياة المواطنية المتوازنة، ودخول زمن التطور واللحاق بركب الأمم المتقدمة، غير أن الأوضاع تسير من سيئ الى أسوأ، والأزمات تتفاقم والمصير مجهول. لقد تفجر العنف السياسي وحل الارهاب العالمي على أرض الوطن، وصار سماسرة المال الفاسد يصولون
ويجولون، وعم الفساد الأرض والبحر، وأصبح التكفير والتخوين والتجريح والشتم لغة الحياة اليومية، وتحول القتل والذبح والتفجير والاحتراب والمواجهات الى ممارسات اعتيادية.
لقد نظر الكتاب والمفكرون والفلاسفة الى وجود مجتمع بلا ظالمين، ونظام غير شمولي ومؤسسات بلا بيروقراطية وأحزاب ترتكز على العقلانية والنقاش العمومي والمحاججة. غير أن التحزب بات مرض العصر والتنظيم السياسي تم بطريقة تقليدية، والفاشية غزت المؤسسات من جديد، والفظائع استمرت في الحدوث، والأزمات تصاعدت والمواجهة بين معسكرين باتت وشيكة. كما ظهرت عدة تبريرات لذلك، من محافظة على الأمن القومي مرورا بالحرص على السلم الأهلي، وصولا الى الدفاع عن المنجزات والمكاسب الكونية، مع اخفاء المصلحة الحزبية والتشبث بالمواقع والمحافظة على السلطة بكل الطرق، والبقاء في الحكم عبر التغلغل في الدولة.
وفي الحقيقة ثمة تقاسم للمعاناة وعدالة في توزيع المساوئ والأزمات، والخاسر الأكبر هو الوطن والشعب الكريم، والنتيجة الساطعة للعيان هي حصول تماه غريب بين الواقع وما هو ضد العقل، وخسوف شمس الحداثة واستعصاء تشييد الديمقراطية على الأرضية العربية، وتعثر اتمام الثورة والاستفادة من التحولات واللقاء بالآخر، والفشل في صناعة الكونية والدخول الى التاريخ
الأسباب متعددة وأولها الحرص على الشرعية من جهة، والاعتداء على المشروعية من جهة أخرى، وكذلك في مستوى ثان تعويض الاستبداد البونابارتي بالاستبداد الديمقراطي، تارة باسم الدين وطورا باسم العسكر، بعد ذلك في مقام ثالث الوقوع في الخلط بين المرجعيات والأوليات. وفي نقطة رابعة يمكن التذكير بالخطوات المنقوصة التي تقطعها الشعوب الثائرة والأنظمة الصاعدة، وعجزها الهيكلي عن الحسم في معاركها الكبرى، والتنازل غير المشروط عن الحقوق، والتأجيل المستمر لعمليات الفرز والقطع، والتعويل على النخب وتفويض الأمور المصيرية اليها.
لا يمكن تبرير سلوك غير حضاري ولا إنساني وهمجي، سبب الأذى لغيره بتعمد وانتقام وتشف وطال حياة انسان بغير حق وأزهق روحا بشرية، فلا يجوز بأي حال تبرير ممارسات الغلبة والقتل والانقلاب والالتفاف والاحتكار والمماطلة والتسويف والفساد والإرهاب والاغتيال، ومن غير المعقول بتاتا جعل ارتكاب محرقة امرا عاديا، ومن غير المنطقي كذلك التعامل مع خيانة
الأوطان على أنها مجرد وجهة نظر، ومن الخطأ الكبير التغاضي عن الجهر بالحقائق للملأ. المعضلة أن السياسة العربية أصيبت باللاعقلانية وتمحور عمل الأحزاب حول الطبقة أو القبيلة أو المذهب، أو رأسمال المضارب وأن الديمقراطية تعطلت وتعاني من هشاشة العظام والتدمير الذاتي، بحيث تحمل في داخلها بذور فنائها، ويبدو أنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها بمعاييرها الذاتية، فهي محاصرة بكهنة اللاهوت وخدم الاقطاع وسماسرة الرأسمالية الطفيلية واللوبيات. عندئذ لا يتطلب الأمر القيام بتعديلات طفيفة وإصلاحات ظرفية وترقيعات خارجية، وتغيير بعض الأشخاص في بعض المواقع، واستبدال أحزاب بأخرى، والتضحية بفئات من أجل حياة الكل، وإنما يقتضي تسريع المضي نحو عالم تسوده الديمقراطية، وذلك بالحفاظ على الحرية ومساعدتها على النمو والانفتاح، وتجاوز الطريقة التي نتصور بها التاريخ
ونحول نقد التنوير الى وضعية مستقرة ونضاعف جهودنا نظريا وعمليا في اتجاه محاربة نزعة الانغلاق والقضاء على آفة الارهاب
المطلوب هو ألا يتوقف الفكر الحر في اطار حقل النضال اليومي والاشتباك مع الواقع الاجتماعي البائس، عن التقدم نحو المزيد من العقلانية التواصلية، واتخاذ مواقف حاسمة لصالح المبادئ الانسانية والدفاع عن الحريات وطرد الخوف من المستقبل والتدرب على التحرر
‘ لا يجد التنوير ذاته إلا حين يرفض كل تواطؤ مع أعدائه وحين يجرؤ على
نفي الخطأ المطلق الذي هو مبدأ السيطرة العمياء’، حسب ماكس هور كهايمر وثيودورف ادورنو في كتابهما ‘جدل التنوير شذرات فلسفية’. ويتخلص من مأزق أسطرة ذاته وتأليه العقل وتعطيل التحرر. لقد شارف العقل العربي على
بلوغ حدود النفاق والعنف والوهم والكذب والنفعية والمكابرة والغرور والشمولية، وتحول الى أداة في خدمة السلطان الروحي والسلطة الزمنية وضحى بالمعيش اليومي، وجدير به أن يعود أكثر تواضعا وإنسانية وأكثر انفتاحا على الهامش والمقصي وعقلنة للامعقول.
اذا كنا لحظة صناعة الفتنة وتواطؤ بين الداخل والخارج، على احداث الخلل في نظام الأشياء، وارباك المشهد وتخليف الفوضى في ترتيب الأفكار، وزلزلة البؤر المقاومة والأوتاد الواقفة، فحري بالثقافة الملتزمة أن تنبه الشعب من المؤامرة التي تحاك ضده، وأن تعارض ارتهانه لوسائل الاعلام والتوجيه وتمنعه من الغرق في مستنقع البربرية الجديدة، ومن التورط مجددا في سياسة التدمير الذاتي، وتحول دون انجرافه نحو الهدر الوجودي والتطبيق الساذج للخطط المعدة لهلاكه، وتوفر له شروطا أكثر انسانية وتحرضه على حفظ الكيان وتوقظ فيه الرغبة في حسن البقاء وتدفعه نحو تحمل مسؤولية مصيره، والمبادرة بعمل تفكير متنور يفكك المظهر التدميري للتحرر والتقدم، ويجعل الجماهير تخلع عنها هالة الاعجاب بالاستبداد وتستعيد الرغبة في البقاء.
‘ في حين ينكر هذا المفهوم كل معالجة سلبية يفرضها هذا الفكر على
الوقائع وعلى الأشكال السائدة، بوصفه فكرا غامضا ومعقدا ليعلنه بمثابة أمر محرم، فإنه بذلك يحمل العقل الى العمى المتنامي’، حسب ماكس كهايمر وثيودورف ادورنو. فكيف يتمكن العقل السياسي العربي من تفادي الوقوع في العمى المعرفي والإتيقي؟