متى نكون ديمقراطيين بالفعل؟
|
| |
" ان الحياة السياسية تبقى حتما مطبوعة بالنضال من أجل الوصول الى الحكم والحفاظ عليه ومعاودة الاستيلاء عليه، انه نضال من أجل السيطرة السياسية"1
يتميز الوضع الراهن بالتشاحن والتصادم والتباغض بين القوى والمكونات والمؤسسات التي تتشكل منها الخارطة السياسية العربية وهو ما يهدد الأمن الذاتي ويربك السلم الأهلي ويمزق النسيج الاجتماعي. هذا المأزق المرتدي يؤذن بحلول الكارثة والتشرذم وخراب العمران وذهاب ريح الحضارة الباقية في ديارنا. مظاهر هذا الصراع تتنزل في اطار سياسي وتتمظهر في شكل التخالف في وجهات النظر وفي صورة الدولة ونموذج المجتمع بين العلماني والديني وبين العسكري والمدني، وتلعب المصالح الحزبية الضيقة الدور الأبرز في هذا التحارب بين الأقطاب المالية والمعسكرات الايديولوجية واللوبيات الأمنية والجهوية. بيد أن الأمر الملغز يتعدى ذلك العامل السياسي المباشر الى عوامل رمزية وثقافية معقدة مثل الخوف من الموت المباشر والعنيف والاحتراس من المستقبل والرغبة في قنص المنافع المادية بشكل آني ومباشر والبحث بكل السبل والوسائل عن الشرف والمجد والتضحية بالكل من أجل الجزء. لكن ماهي الدواعي المؤدية الى العنف والتقاتل؟ وهل تبنى الدمقراطيات بالتفاهم والتوافق أم بالتنازع والتواصل؟
ربما من أهم الأسباب التي عقدت الوضعية وأربكت المشهد السياسي وجعلت الربيع العربي يتحول الى خريف غضب وينحرف عن مساره الطبيعي ويحرم الشعوب من تحقيق أحلامها نذكر ما يلي:
- فشل القوى الثورية في دفع الحراك الى حدوده القصوى وانجاز المد الانعتاقي بشكل تام.
- وصول شريحة من الثوريين الجدد الى الحكم بعد خضوعهم لعمليات تعديل جيني وموافقتهم على مجموعة من الأجندات الخارجية وجنوحهم نحو الاحتكار والهيمنة والإقصاء في الداخل وتبني نهجا تحرريا ينسجم مع اقتصاد السوق ويغظ الطرف عن مطالب الساخطين على السائد من العدالة والمساواة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
- بقاء جزء كبير من النظام القديم في موقع الادارة والتسيير والحكم من الدولة العميقة ورفضهم التام لصيرورة الأشياء ومآل التاريخ ورغبتهم الشديدة للبقاء في مكانهم.
- التمركز على الذات من طرف رؤساء الأحزاب وادعاء الأفضلية وامتلاك الحقيقة المطلقة وإعادة انتاج طريقة في التسيير الفوقي والتكوين الايديولوجي المغلق والاعتماد على خطاب سياسي متشنج وانفعالي ومتصلب واتباع خطط ماكيافيلية مفضوحة.
- نشوب نزاع حول المشروعية بين الاحتكام الى قيمة الكفاءة ومبدأ المردود والاستناد الى الارادة الشعبية والرأسمال النضالي والعمل التضحوي زمن الجمر ضد حكم الاستبداد.
- بلوغ الصراع السلطوي بين القوى الثورية المضادة والقوى الديمقراطية التقدمية مجال مجهري تتعاضد فيه السياسة بالدين وتتشابك التجربة بالحيلة ويتلاقى عنده المال بالقرار.
- تحول المنطقة العربية- بحكم موقعها الاستراتيجي وأهمية ثرواتها البشرية والمادية مستقبلا- الى حقل تجاذب بين القوى الدولية المتصارعة باسم خدمة السلام الدولي والصالح العام وذلك في سبيل الانتقال من عالم القطب الواحد الى محاولة تشكيل عالم متعدد الأقطاب. " الأكيد أن السياسة الكوكبية ليست موعودة بالنصر على الاطلاق. لكن يمكنها أن تلعب دورها ، بل عليها أن تفعل ذلك بما هي يقظة الوعي الدولي، العالمي وبما هي تدخل في خدمة الصالح العام"2 .
- ابرام تفاهمات مغشوشة بين قوى سياسية متباينة الأهداف وتتميز بفقدانها للسند الشعبي والانفصال عن المنسوب الفكري الابداعي وعجزها عن نحت برامج وخطط علمية. والحجة على ذلك أن " الدولة لا يمكن إلا أن تستند إلا على توافقات هشة ... وتعاني الدولة وتصل معاناته الى الاجماع الذي يؤسسها"3 .
في الواقع ازاء ظاهرة الاجهاض الغريب للتجارب السياسية الديمقراطية عند العرب وتفويت الفرصة مجددا أمام دخولهم الحداثة وتحريكهم التاريخ الثقافي الخاص به وتبديد أمل المشاركة في صناعة الكونية يحتاج العقل السياسي العربي الى الفكر المتعقد والمقاربات المركبة والمتعددة المناهج بغية فهم الواقع الغامض والحركي وضبط البرامج وتفصيل الأوليات والعاجل والآجل.
هكذا تقوم الديمقراطية المتعقدة على ثلاثة ركائز أساسية هي: التعددية والنزاعية والتوافق وتحرص على احترام قواعد اللعبة السياسية "التي تنظم التناقضات وتعوض المعارك المادية بمعارك بين الأفكار"4 . لكن ما المقصود بالسياسة العالمية المتعقدة؟ وهل يمكن القول بأن تفجير العرب معجزة ثورية قد باء بالفشل وانتكس ومجرد أضغاث أحلام؟ وأن الديكتاورية صنم لا يتحطم والسلطويون لا يقهرون وأن الحرية ممتنعة والمدنية مستعصية؟ هل المنعطفات مربكة والنهايات مخيفة الى درجة هروب الناس من الاستقلالية الذاتية الى طاعة أولي الأمر والزعيم المخلص؟ ما سر رسوب العرب في الاختبارات السياسية الحاسمة؟ هل الخلل ذاتي ويرجع الى بؤس الوعي والتقصير في البناء والفصام بين التصور والواقع أم أن الخلل موضوعي ويعود الى مؤامرت الآلة الاعلامية وضخامة الهجوم الايديولوجي المعادي؟ كيف يترشد الفعل السياسي العربي بعيدا عن الاستقطاب الثنائي وفي منطقة ثالثة بين اليمينين الديني والليبرالي؟ ومتى تبدأ الكتلة التاريخية في التشكل عندنا؟ ولماذا لا يتحول ديننا الى أرضية للتسامح العقائدي والسياسي؟ أليس من الأجدر تفتيت المراكز السلطوية والمالية والحزبية التي تمثل حصن الشمولية؟ فمتى تشرق شمس الديمقراطية المحلية والأفقية على الأرض العربية؟
الهوامش