23 ديسمبر 2013 بقلم
خالص جلبي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يصاب القارىء عموماً بالدهشة حينما يقرأ التاريخ الفلسفي العلمي الحضاري، من مثل قصة الفلسفة لـ (ويل ديورانت DURANT WILL) - وهو كتاب ممتع بحق - أو تاريخ الطب، حيث يرى فجوة تاريخية يحار أمامها، بل هناك قفزة لا يمكن تفسيرها ما بين أرسطو وفرانسيس بيكون؛ أي ما بين النهضة العقلية الهلينية والنهضة الأوربية الحالية.
هل وقف التاريخ ألف عام فلم يتحرك؟ أم هل بدأ العقل الغربي يتحرك من لا شيء؟ أم أن عقلية قتل المفكرين لأنهم سحرة ومارقين، تحولت من تلقاء نفسها إلى الحرية الفكرية، والبحث الخالد عن الحقيقة، والنهم بغير حدود عن المعرفة، والعطش الإبراهيمي إلى اليقين، والتعامل مع الطبيعة من خلال مفهوم السنن لتسخير نواميسها؟
يبقى التساؤل القرآني الخالد منطبقا تماماً على هذه الحالة، كما كان في حواراته مع العقل الجاهلي القديم: ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون))؛
لا يتم الخلق من لا شيء، ولا يخلق الخلق نفسه، ولا يستطيع الخلق أن يخلق نفسه، لأنه غير مخلوق، فكيف يخلق نفسه؟ ولا يأتي الخلق من مصدر غير موجود، فكيف يوجد أو كيف ينبثق ولا وجود قبله؟
بل ويبقى أمامنا مهمة اكتشاف هذه الحقيقة المهمة لمعرفة نظم التاريخ ونبضه الخلاق، وبالتالي لا نصاب بالإحباط أو الحسرة والحزن، حينما يستولي علينا الشعور بأننا كنا على هامش التاريخ.
عندما أراد المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي
(1) دراسة التاريخ البريطاني، وجده غير قابل للفهم وحده، بل لابد من دراسته ضمن حقل أوسع، وهو ما اهتدى إليه أخيراً في فهم المجتمع البريطاني ضمن حقل أعظم، يمكن فهم تطور المجتمع البريطاني من خلاله بشكل واضح؛ أي فهمه من خلال (الحضارة الغربية ). عندها انتقل توينبي - وهو المؤرخ والحجة في التاريخ - لفهم حقول جديدة؛ فالحضارة الغربية هي خلق من خلق الله ، وليست الحضارة الوحيدة التي مرت على ظهر البسيطة، كما أنها لن تكون الأخيرة والأفضل، ذلك أن حياة الحضارات قصيرة (6000 سنة) فيما لو قورن مع عمر الإنسان على ظهر الأرض (2.3 مليون سنة)، أو لو قورن مع بداية الثدييات أو عديدات الخلايا ( 500 مليون سنة )، أو عمر الأرض التي نعيش عليها (5.4 مليار سنة).
وصل توينبي إذن إلى حقول جديدة وحضارات متنوعة، هي متمايزة عن بعضها البعض، ولكنها متجانسة للغاية ضمن حقلها الخاص؛ هذه الدراسة قادته، وفي مدىً يزيد عن نصف قرن، إلى فهم ٍ عميق ٍ لظاهرة قيام ( الحضارات ) ونموها، ثم تحللها وتفسخها واندثارها، كمثل أي كائن عضوي ينمو ويشتد عوده، ثم يشيخ ويهرم ويسلمه الموت إلى انقطاع.
((الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)).
(2)يرى توينبي ضعف الروح النقدية عند من يشتغل في التاريخ ويكتب فيه، فيقول: ((المؤرخون على وجه العموم، أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يعيشون ويكدحون في محيطها، منهم إلى تصحيح تلك الآراء))
(3). وسبقه ابن خلدون إلى نفس المفهوم مع عبارة أوضح في الدلالة وأعمق في الأثر، حينما انتبه إلى (مطب) العقلية النقلية ، بدون تكوين العقلية النقدية ؛ فسطَّر قلمه هذا المفهوم (السنني)، ولكن بعبارات متألقة ومثيرة، ((لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تُحكم أصول العادة ، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قِيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يُؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم ، والحيد عن جادة الصدق )).
(4)كما انتبه العلامة ابن خلدون إلى فكرة القانون الاجتماعي، الذي ينتظم حركة نهوض الدول وانبثاقها، ثم تطورها وقوتها، ثم شيخوختها وإذعانها إلى الأرض، لتكمل دورة الحياة والموت: ((كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين)).
(5)ووصل في اكتشافه المدهش هذا إلى أن عمر الدولة في المتوسط هو (120 سنة)، وإذا بقيت دولة تحكم بعد هذا العمر، فليس لأنها خرقت القانون، بل لــ (عدم وجود الطالب !!). ولكن ابن خلدون لم يتوصل إلى إدراك (فكرة القانون الحضاري) الأشمل، وكان على مرمى حجر منه، وإن كان قد أشار إلى كلمة حضارة بمفهوم مجتمع المدينة، وليس على النحو الذي وصل إليه فيما بعد توينبي أو شبينجلر، والذي ينتظم دولاً وأنظمة حكم شتى، ولكنه حقل موحد يتنفس فيه الإنسان من نفس الهواء الحضاري، ويسبح في نفس البلاسما الثقافية.
يعتبر مفهوم (الحضارة) حديثًا نسبياً، وانتبه له المؤرخون المحدثون، منهم توينبي الذي كرَّس عمره لدراسة هذه الظاهرة على وجه البسيطة منذ أن تشكلت بدايات الحضارات، واستطاع الكشف ما لا يقل عن 28 حضارة، انبثقت من (600 مجتمع بدائي)، مثل مجتمعات النمل والدجاج ؛ فحيث يقف المجتمع في التاريخ لا يدخل الحضارة، وحيث يبدأ في التطور، وهو يملك وسائل تطوره يدخل الحضارة؛ فالنمل أو النحل أو الطيور أو النمور، بل وحتى أرقى الكائنات القريبة من الإنسان، مثل الشمبانزي والغوريلا والقرود من أمثال أورانج أوتان، هيمنذ آلاف السنوات، تعيد دورة الحياة اليومية بدون أي رقي أو تطور في حياتها، في حين أن الإنسان، الذي دخل الحضارة، قفز في حياته الاجتماعية من اختراع الكتابة إلى الكمبيوتر، إلى الاتصال بسرعة الضوء، إلى بناء الحكومات والبرلمانات، إلى أسرار الذرة والنسبية، وميكانيكا الكم، والشيفرة السرية للوراثة.
إذن، فليس كل مجتمع بدأ بالحضارة، وليس كل مجتمع بدائي استطاع القفز إلى الحضارة، وهناك حتى اليوم مجتمعات لم تدخل الحضارة بعد، كما هو الحال في مناطق من الفلبين أو أستراليا؛ كما أن نكس مجتمع ما حضارياً وارد، بل إن موت الحضارة هو قانون مرعب، والقرآن أشار إلى موتين : موت الأفرادوموت الأمم؛ فأما موت الأفراد فقال عنه (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
(6). وأما موت الأمم، فقال عنه: (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
(7). وساعة الأمم هي ليست كساعة الأفراد، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، كما أن هناك ظاهرة (القضم والهضم) بين حضارة ماتت وحضارة تبني نفسها، من مواد الخام (الخردة) من الأمة المتبقية. والحضارة حين تموت، لا يموت أفرادها، لأن موتها نوعي مثل موت الأفراد بالضبط ؛ فالفرد حينما يموت يحافظ على شكله أولاً، ولكن بدون فعالية وبدون نبض حياة، ثم يدخل المرحلة المريعة الثانية حيث يبدأ بالتفسخ، وهو ما يحصل للجثث، بل إن الجثة قبل أن تتفسخ تمر في مرحلة عجيبة، يعرفها الأطباء بمرحلة (الصمل الجيفي)، حيث تتصلب الجثة، وقد تمر الأمم في مرحلة تشبه هذا، حين تتخشب في شكلها، فيظن الجاهل أنها علامات قوة وعافية، وهي قد فارقت الحياة منذ زمن طويل !!
وفي النهاية، يرجع كل شيء إلى مصدره الذي خرج منه؛ فالإنسان في حقيقته ليس أكثر من برميل ماء وقبضة من كالسيوم العظام، وحفنة من (حديد) الدم و(يود) الدرق، ونثارة من (فوسفور) الدماغ و(كلور) المعدة و(آزوت) البول. وبذا، فمع الموت يضيع الإنسان ككيان ووحدة عضوية وشخصية، ولكن لا يضيع منه شيء كـوحدات بناء أولية، وهو ما أشار إليه القرآن: ((قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ))
(8)؛ كذلك يحصل للأمم حينما تموت، حيث تتوقف (الوظيفة الحضارية ) أولاً، ثم تدخل المرحلة الثانية من ضياع الشكل والتحول إلى الوحدات الأولية، وهي هنا الأفراد، ليتم استخدامهم كـطوب ولبنات بناء في حضارة ثانية، كما حصل مع الإمبراطورية الرومانية، وهي تبتلع مخلفات ثلاث مجتمعات ماتت (القرطاجني والغالي والفرعوني).
درس المؤرخ البريطاني 28 حضارة بشكل موسع، منها خمس حضارات بشكل مكثف، واعترف بحضور خمس حضارات في الوقت الراهن في التاريخ العالمي، منها الحضارة الغربية وخصيمتها الحضارة الإسلامية... وبذا، بدأنا في الاقتراب من ملء الفجوة السحرية والحلقة الناقصة المفقودة!
لقد اتفق المؤرخون على ظاهرة الحضارة، ولكنهم اختلفوا في النشأة والحياة، والمصير والمنتهى. ويعتبر المؤرخ والفيلسوف الألماني (شبنجلر )
(9) من المتشائمين، لأنه وضع سفراً ضخماً بعنوان (سقوط الحضارة الغربية) (DERUNTERGANGDESABENDLANDES = DECLINE OF WESTERN)، مدشناً النهاية التي لا محيص عنها للحضارة الغربية، خاصة إذا علمنا الفكرة التي فهم بموجبها تطور الحضارة؛ فهو يرى مثلما رأى (ابن خلدون) مع الفرق في مستوى الرؤية، حيث يراها ابن خلدون في مستوى الدولة، في حين أن شبنجلر يراها في مستوى الحضارة، من أن الهرم إذا نزل بها فلا يرتفع، كما لا يمكن أن يصلح العطار ما أفسده الدهر ((ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون ؟)
(10). واختلف توينبي في هذا الذي يتفاءل بمد فسحة الحياة للحضارة الغربية، من خلال التدخل في قانون نمو الحضارة الذي ينتظم نموها وتطورها.
مع هذا، فإن حديثنا الآن هو ليس عن النهاية التي هي في عالم الغيب، والتي يُرجم فيها كما رجم الناس في عدِّة أصحاب الكهف، بل حديثنا عن البدايات ... والآن إذا كانت الحضارة الغربية قد ولدت، فهل لها أب وجد وأم وجدة ؟ أي هل ولدت بالقانون الذي يسري عليها وعلى غيرها، أم ولدت بدون قانون؟ هل هي كائن غير شرعي وُلد سفاحاً وترك لقيطاً، فلا تريد الحضارة الغربية الاعتراف بأب وأم ؟أم هي كائن خارق فوق العادة، وكأنه المسيح الذي خلق من بويضة بدون نطفة ؟
هذا السؤال عذبني كثيراً، ولم يشفنِ فيه مجرد كلمات المديح والثناء والانتفاخ، عن أثر الحضارة الإسلامية في إنجاب هذا الطفل (العاق والمتمرد) والمتنكر لأصله؛ فرحت أحاول مسك الخيوط التاريخية، وبالأسماء والتواريخ على وجه الدقة، فاصطدمت بمعالم واضحة ارتسمت محياها عبر التاريخ، خاصة منعطف منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق لمنتصف القرن السابع الهجري، حيث يشكل هذا التاريخ انعطافاً نوعياً، ليس في تاريخ الغربيين فحسب، بل في تاريخ الجنس البشري قاطبة، حيث خسر العالم الإسلامي قيادة الجنس البشري، على الرغم من بدايات تحول خطير لتحول حضاري نوعي من خلال أمرين، هما التراكم المعرفي وتكدس الثروة.
في هذا المنعطف بدأ في التشكل تياران أو منعطفان، مشى فيه المخطط الأول باتجاه القوة والتقدم، والثاني باتجاه الانحطاط والتراجع؛ وبذا انقلبت محاور العالم ليصبح الشمال جنوبا، والجنوب شمالاً، ولنولد نحن في خط الجنوب، حيث تنقل لنا الإذاعات الأخبار التي لا تسر، وتنصب علينا مع كل شروق شمس!
ولكن ما بالنا نستعجل التحليل التاريخي بدون مقدماته؟
لنرجع إلى التحليل التاريخي عند توينبي في محاولته فهم التاريخ البريطاني ... عندما أراد توينبي فهم تاريخ الأمة البريطانية بشكل مستقل، عجز في ذلك، ورأى أنه ((لن نقع على أمة بمفردها، أو على دولة قومية في أوروبا تطلعنا على تاريخ يمكن أن يقوم مفسراً لنفسه بنفسه))
(11). ثم يتساءل المؤرخ أنه لو كان هناك حقل قابل للفهم بذاته، وجب أن يكون تاريخ بريطانيا العظمى، الذي كانت والدته تقص عليه كل ليلة طرفاً منه !
إذن، ما هو الحقل الذي يمكن فيه فهم التاريخ الانكليزي؟
يقوم المؤرخ توينبي بعملية عودة إلى الخلففي محاولة تفكيك هذه الظاهرة للوصول إلى وحداتها الأولية ، وللكشف عن جذورها الأصلية ؛ أي القيام بعملية (حفريات) للمعرفة، على حد تعبير فيلسوف الحداثة (ميشيل فوكو)، لاكتشاف الطبقات الجيولوجية التاريخية التي تغطي الحقبة التي يعيش فيها المؤرخ، وهذا الشيء ينطبق أيضاً على الكيان النفسي المتراكم من خلال الخبرات عبر الزمن، حيث نرى دوماً طبقات اللاوعي مختبئة تحت طبقة الوعي. كما أشرنا سابقاً إلى القانون الجدلي التراكمي في بحث سابق، على اعتبار أن الإنسان هو المحصلة التراكمية البطيئة الجدلية للجهد الواعي من خلال وحدات الزمن.
عندما مشى توينبي في رحلته المثيرة هذه، وصل إلى منعطفات متدرجة عبر التاريخ، وصَلت فيها الطبقات الجيولوجية الفكرية التاريخية الاجتماعية الحضارية إلى سبع طبقات منضدة فوق بعضها البعض، كما هي تماماً في حفريات شليمان الألماني في اكتشاف مدينة طروادة ذات الطبقات السبع ولكن أركيولوجياً؛ هذه الطبقات كل منها يأخذ برقبة الأخرى، ويتداخل معها، ويولدِّها ويخرجها إلى النور، حيث إن كل طبقة تفسر التي بعدها. هذه الطبقات السبع عند توينبي بدأت من ولادة العصر الصناعي، ومرت بالحكومة البرلمانية ؛ فالتوسع عبر البحار- يرجى الانتباه أننا نرجع إلى الخلف عبر الزمن- ، فالإصلاح الديني؛ فالنهضة - وهي بشكل واضح من الفسائل التي غرست ما يشبه المحميات النباتية في شمال إيطاليا - ، فإقامة النظام الإقطاعي، فالتحول للمسيحية. وعندما يضع توينبي كل حقبة جيولوجية تحت الدراسة الأركيولوجية التاريخية، فإنه يكتشف أن العنصر الخارجي يشتد مع حركة القهقرى التاريخية بشكل مكثف أكثر. وهكذا فالمسيحية من الشرق الأوسط ، والنظام الإقطاعي من الغزو النورماندي، والنهضة نسمة حياة هبت من شمال إيطاليا، والبروتستانتية التي شكلت المناخ النفسي للتحول الصناعي، على النحو الذي شرحه (ماكس فيبر) في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية )، هي حركة ألمانية. ويصل المؤرخ توينبي إلى تقرير هذه الحقيقة (توضح هذه اللمحة العكسية التيألقيناها على مجرى التاريخ الإنكليزي ابتداء من يومنا هذا، أنه كلما رجعنا القهقرى ضعفت شواهد الاستكفاء الذاتي أو العزلة).
(12)فإذا كانت حلقات الارتباط على هذا النحو من الوضوح والترابط العضوي ضمن الحضارة الواحدة؛ فهل تشذ عن ذلك علاقة التأثير المتبادل المزدوج بين الحضارات المعاصرة والمتصلة؟ فضلاً عن مجتمعاتٍ ممتلئةً بالحضارة، في جوار مجتمعاتٍ تعتبر التفكير هرطقةً، والعلم سحراً يُعاقب عليه بالحرق، والمرض لعنةً من إبليس يستخدمه فيها الله كأداة تعذيب للمذنبين، وانتشار الطاعون متعلق بالأبراج السماوية؟
هل يعقل أن يصل نيوتن إلى قوانين الميكانيكا بدون مقدمات ؟ أو باسكال إلى قانون الأواني المستطرقة بدون علم متراكم ؟ أو غاليليو إلى حركة الأجرام السماوية، بدون إرهاصات مبدئية؟
أما في كتاب قصة الفلسفة لــ (ويل ديورانت)، فإننا نقفز بأشد من أبطال السيرك بدون أن تدق لنا عنق، متجاوزين ألف سنة بجرة قلم، توقف خلالها التاريخ، فنضبت العصارات الذهنية عن أي عمل خلاَّق، وشحَّ العقل الإنساني عن أي إنتاج مبدع، وعقمت الأرحام عن إنجاب أية عبقرية ؟! ولا غرابة، لأنه لا إبداع إلا مع جلد أبيض! ولا عبقرية إلا مع عيون زرق! هكذا يفهم العقل الأوروبي المتمركز حول نفسه نبض التاريخ وحركته التي تطوي أكبر منه (وتلك الأيام نداولها بين الناس)(13)، ((وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا))
(14)، ((أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها)).
(15)أما في تدريسنا الطب عندما كنا طلاباً، فكانت فنون الطب تنط بشكل سحري من جالينوس وأبقراط، إلى هارفي ومالبيكي! وكأن أدلارد الباثي (ADELARDOFBATH) وألبرت ماجنوس (ALBERTMAGNUS) وروجر بيكون ( ROGERBICON ) لم يقولوا: ((لقد تعلمت عن أساتذتي العرب أن أسترشد بالعقل... إذ لاشيء أكثر ضماناً من العقل)
(16)أين تم التحول الغربي الإسلامي؟ في أي وقت؟؟ تحت أي ظروف؟ ما هي الملابسات التي طوقت ظاهرة الصعود - الهبوط؟
في مراجعة كتاب (قصة الفلاسفة العظام) لمؤلفه الألماني (إيرهارد أورثباند)
(17)، يقف المؤلف عند حادث مهم وفريد، بل ومفصلي في تاريخ العقل الأوروبي: إنه عام 1215 ميلادي، حيث انعقد المجلس الكنسي الرابع في (لاتيران).
في هذا المجلس وبحضور البابا (إينوسنس الثالث)، وبتاريخ الثالث عشر من نونبر من العام المذكور، تمت مناقشة طبيعة الأمراض وانتشارها، وكيف يمكن تعليلها؟ وخرج المجلس بالأفكار التالية : إن المرض وسيلة يستخدمها الله لغرض ينفرد بعلمه، قد يكون عقوبة للمذنبين، أو للكمال من خلال المعاناة، حيث يستخدم الله الشيطان كوسيلة لهذا الغرض، وهو يطابق ما جاء من تعليمات المسيح في الإنجيل؛ وبناء على هذا، فكل وباء ينتشر يجب اعتباره عقوبة من الله، تخيم فوق رؤوس الناس، وعليهم مكافحتها بالصلوات وممارسة التطهير الروحي ودفع أموال الندم، من أجل تخفيف غضب الله، أو أن أمامهم الموت أو العذاب!
هكذا كان يفسر انتشار الأمراض في أوروبا في تلك الأيام، وهكذا كان يعالج مرضاً خطيرًا، مثل الطاعون، وبذا خَلدت الكثير من اللوحات الفنية عقلية الناس حينها.
يقول المؤلف الألماني (أورثوباندت) معقبًا على ما مرّ: في نفس الوقت كان هناك طراز آخر من التفكير، وبشكل معاكس تماماً ، ومن خلال الفهم السببي لعلوم الطبيعة، تلك التي كان المسلمون يمارسونها في الأندلس، مثل الطبيب العربي الأندلسي (ابن الخطيب)، الذي كان يرى أن انتشار الأوبئة يحدث من خلال العدوى، وهنا يستشهد بما كتبه ابن الخطيب بالذات: "إن واقع العدوى يمكن الوصول إليه من خلال الخبرة والبحث، والنظر في الواقع، وتشريح الجثث ، والشهادات الميدانية؛ هذه الوقائع تعطينا الحجج التي لا يمكن دحضها، أن المرض ينتشر من خلال العدوى المرضية عبر الاتصال بالمريض، وأن الذي لا يتصل بالمريض يبقى محفوظًا من المرض، كما أن الذين يحملون المرض ويأتون إلى الموانئ ينقلون المرض، فإذا عزلوا لم ينتشر المرض".
يقول المؤلف الألماني معقباً على ما مرَّ: "من هذا الاستشهاد يمكن أن نقرر وجهة نظر المسلمين في كيفية فهمهم لآلية انتشار الأمراض، إنها: ((استخدام الحواس للفهم والإدراك، الخبرة العملية، جمع الوقائع وتقييمها الإحصائي، البحث في الأسباب وتقسيم وحدات الواقعة المذكورة؛ ويمكن إيجاز كل هذا بكلمات قليلة : المراقبة الدؤوبة الدقيقة لكيفية عمل الطبيعة، وكأن الطبيعة تقوم بالتجارب التي لا تنتهي، ولكن النتائج فقط هي التي تُكشف للعيان. وبهذه العقلية السببية للطبيعة بدأ تشكل الفلسفة المدرسية في أوروبا
(18).
إذن مع منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، حصلت بدايات التحول الأولى في توليد ما عرف بالمدرسة (السكولاستيكية)، ولكنها تولد نتائج مريعة بسبب خروجها من بوتقتها الأصلية لتصطدم بمناخ ديني غير مناسب. وهكذا حصل الفصام النكد بعد ذلك بين الإيمان والعلم، وأصبحت كلمة (الظن) باللغة الألمانية تعني العقيدة (GLAUBE)، وهو الشيء الذي اصطدمت به أثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا، في حين أن كلمة العلم (WISSEN) تعني اليقين وهي شيء آخر غير الاعتقاد الظني الوهمي الهلامي غير الراسخ ، وتشبث في أرض سبخة من هذا النوع، يعني تمسكا أخرقا يطلق عليه (الدوغما) (DOGMA)، وهو الشيء الذي حصل معي أثناء مناقشتي لهم، حيث كانوا يقولون لي هل ( تعتقد = تظن ) (GLAUBENSIE) أو (تعلم = توقن) (WISSEN)، بالطبع كان جوابي أن لا عقيدة بدون يقين، والعقيدة تبنى بالعقل، وهو المطمح الإبراهيمي الدائم، ولكن ليطمئن قلبي ((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب))
(19).
هنا أدركت عمق وجذر هذه الكلمة (الظن = العقيدة) المتصلة بالتاريخ، وفي هذا الوقت من منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، بدأت أوروبا في التشكل بخلق جديد، ونشأة مستحدثة، وطور مستأنف، حيث قام بعض الرواد الذين لا نسمع عنهم الكثير، مثل روجر بيكون، ودنس سكوتس (DUNS SCOTUS)، وأوكهام (OCKHAM)، ومارسيليوس (MARSILIUS)، يشقون الطريق إلى عالم فكري جديد عبر مغامرة كبرى للعقل الأوروبي.
هذه الفلسفة المدرسية السكولاستيكية كانت هي النواة الجنينية الأولى المختبئة تحت الأرض، والتي ضربت جذورها لتقوم عليها بعد ذلك الحركة الإنسانية والنهضة الأوروبية العقلية الجبارة بعد ذلك.
كان من أخطر توجهات العقل الجديد المتأثر بالعقلية الإسلامية، سواء من الأندلس أو صقلية، مناطق حواف الاحتكاك، هي أن الفكر الكنسي لا يمكن أن ينتظم مع العقل العلمي ، وبدأت بوادر الانشقاق الفكري التي ترى أن الحرية الفكرية لا يمكن أن تمشي مع الفكر الديني جنبًا إلى جنب، وبالطبع فإن الكنيسة تحمل الوزر الأكبر في هذه المعركة المشؤومة التي مازالت ذيولها تمتد حتى الوقت الراهن، إلى الدرجة التي نشرت فيها مجلة الشبيجل الألمانية في عددها 51 \ 93 صورة لقس جديد يقول: "نعم .. لله لا .. للكنيسة" تحت عنوان الثائر الجديد درويرمان.
بالطبع قامت الكنيسة بمحاولة توفيقية، من خلال الجهود الفكرية التي نظمها توماس الأكويني في محاولة منه لبناء العقيدة مع العقل، واعتبر فكره درع الكنيسة الحصين ضد فكر أبي الوليد بن رشد، ثم قامت الكنيسة في بناء المراكز العلمية لمقاومة الغزو الفكري الإسلامي بنفس سلاحهونشطت حركة الترجمة ، حيث تمت ترجمة معظم الفكر الإسلامي - لحسن الحظ - ، لأن مئات الآلاف من المجلدات، كانت تحرق في ذلك الوقت بيد الآلة الجهنمية المغولية الزاحفة من الشرق.
تمت الترجمة من اللغة العربية التي كانت لغة العلم العالمية في ذلك الوقت، والتي كان يتقنها فلاسفة الفترة السكولاستيكية ، وتخمرت هذه الجهود في مدى قرنين، إلا أن الذي حدث هو أن هذه المراكز تحولت فيما بعد إلى جامعات تكرس الفكر العلمي، وتودع الكنيسة الوداع الخير، وبذلك وضع الختم النهائي على علاقة العلم - الإيمان.
وإذا كانت بدايات الصعود الأوروبي، قد تم إلقاء بعض الضوء على خلفياتها، فما هو سر الانحطاط الإسلامي المرافق في نفس الوقت، حيث نلاحظ وفي مدى عشر سنوات بالضبط بين عامي 1248م، التي تؤرخ سقوط إشبيليا، و1258م التي تعلن سقوط كعبة العلوم بغداد، ومعهما يعلن سقوط جناحي العالم الإسلامي، كما يسقط الطير من السماء بدون جناحين مخضبًا بدمه في مذابح مروعة، وحرائق مخيفة ، تأخذ مع ألسنتها عصارات الفكر الإنساني في نكبة لا يضارعها شيء، ذلك أن ذبح ثمانمائة ألف إنسان في بغداد قابل للتعويض؛ فطبيعة الوجود هي بين أرحام تدفع وقبور تبلع، ولكن الذي لا يعوض ولم يعوض، هو ذلك التراكم المعرفي الذي كدس في المكتبات العامرة للمدن الإسلامية الزاهية، أمثال سمرقند وبخارى والرها ومرو وخراسان وأصفهان وتبريز وحلب، والذي يشكل أساس التحول النوعي الحضاري، فتقوض تحت السيف المغولي الرهيب.
هذا الالتقاء المشؤوم في الصعود والهبوط، هو المنعطف الذي يشكل واقع العالم الإسلامي، ووضع العالم الغربي الذي يقول : أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا ودخل جنته، وهو ظالم لنفسهقال ما أظن أن تبيد هذه أبداً ؟! ...