محمد زرنين، الاستراتجيات العقارية باعتبارها رهانات اجتماعية تاريخية، المحيط القروي لسيدي قاسم نموذجا، إشراف: محمد جسوس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس- أكدال، الرباط، 2007.بدأت بتمهيد أعتبره النواة الصلبة للأطروحة، أظهرت فيه كيف يمكن اعتبار العلاقة بالأرض، وخصوصا الملكية العقارية، مدخلا أو بابا لفهم المجتمع، ولفهم كيفية تأويل هذا المجتمع لذاته عبر صراع القوى وإرادات القوة المتحكمة في الأقلام الكاتبة والموقعة، وفي الألسن الحاكية، وفي الخرائط، وفي الأرشيف؛ في العقول، وفي الأحلام، وعلى الأرض. فظهر لي أن العلاقة بالأرض (بمختلف مضامينها التاريخية والاجتماعية)، ومشكل ملكيتها، هو في الحقيقة مشكل رباعي الأبعاد:
ملكية الأرض من حيث هي سلطة؛
ملكية الأرض من حيث هي معرفة؛
ملكية الأرض من حيث هي حالة، بل نمط وجود؛
ملكية الأرض من حيث هي عندية، تبني الهوية الفردية والجماعية والعلاقة بالعالم.
هذه النواة الرباعية الأبعاد، هي التي تتبعت تحولها ونمط اشتغالها من خلال تتبع تحليلي، هو في الحقيقة وصف تحليلي مكثف لعمليات تحول تاريخي ـ اجتماعي ـ مجالي عبر تحقيب ثلاثي (ما قبل كولونيالي، كولونيالي، ما بعد كولونيالي) لحالتين:
الحالة الأولى:
تحول من “مجال الترابي” (Terriroire) مطبوع بطابع النسب الشريف وطابع ظهائر التوقير والاحترام ( المرحلة الماقبل كولونيالية)، إلى ملكية خاصة (Propriété foncière) محفظة ب”رسم عقاري”، ومطبوعة بطابع الرأسمال الذي حولها إلى مجرد أداة من أدوات الإنتاج لفائدة معمر (المرحلة الكولونيالية)؛ ثم مآل هذا التحول بعد الاستقلال قانونيا ومجاليا واجتماعيا (المرحلة المابعد كولونيالية).
الحالة الثانية:
تحول من “مجال ترابي” (Territoire) قبلي مطبوع بعلامات للقوة، وبتاريخ تنقلات وتنقيلات، وبتاريخ للتأديب والعقاب، يعطي حق الانتفاع من الأرض مقابل خدمة السلطان (المرحلة الماقبل كولونيالية)، إلى “تحديد إداري” (Délimitation administrative) تتبث الشراردة داخل ملكية جماعية، مسحت عقاريا (من عملية المسح العقاري) لتخضع لمراقبة ثلاثية، من طرف المراقب المدني، ونواب الجماعة، والقايد، ولكن المراقبة الثلاثية مراقبة بدورها من طرف مدير شؤون الآهالي والقضايا السياسية (المرحلة الكولونيالية)؛ ثم مآل هذا التحول بعد الاستقلال قانونيا واجتماعيا ومجاليا (المرحلة المابعد الكولونيالية). فتبين لنا أننا في قلب عمليات الاستئراض.
الاستئراض مفهوم مركزي في أطروحتنا، انطلقنا فيه من تعريف الأرض، إلى واقع حالها المسكون بالرغبات والإرادات، (وقد مكنتنا حروف الزيادة التي تفيد الرغبة والطلب أن نلج العلاقة بالأرض من باب الرغبة والطلب، إذ لا تكون الرغبةُ رغبة إلا في علاقة برغبات أخرى، ولا يتحدد الطلب إلا في علاقة بطلب آخر)، فسمح لنا هذا المدخل أن نفهم ونؤول العلاقة بالأرض كتعريف يحد، يثبت وينفي، ولم ننس اسبينوزا الذي قال يوما: “كل تعريف هو نفي”. فانتبهنا إلى العلاقة بين طلب الأرض والرغبة فيها، من جهة أولى، وصراع التعريفات ( بمختلف أشكالها ومضامينها التاريخية-الاجتماعية)، من جهة ثانية؛ وبالتالي إلى تلك السيرورة المعقدة التي كان للفيلسوف جيل دولوز فضل التوقف عندها. أقصد السيرورة المزدوجة: Territorialistion-déterritorialisation
فلم يعد بإمكاننا، بعد هذا التنظير، التفكير في الموضوع إلا على نحو خاص جدا. هو الذي قدمناه عبر مجموعة من الآليات:
الاستئراض بالقوة؛
الاستئراض بالحكي؛
الاستئراض بالكتابة؛
الاستئراض بالحلم وفيه؛
الاستئراض بالمقدس؛
انطلاقا من هذا التصور، حاولنا تقديم وصف كثيف لكيفيات الاستئراض في علاقة بالمنطق المخزني، وبالمنطق الكولونيالي، وبمنطق دولة ما بعد الاستقلال، بالنسبة للحالتين السابقتين.
وقد كانت محاولتنا هذه محكومة بمشروع إقامة جنيالوجيا لملكية الأرض في الحالتين، مما اقتضى معالجة التكونات والأشكال والمضامين الخاصة بالاستئراض عبر ثلاث طبقات شكلت بناء الأطروحة:
الطبقة الأولى، الجنيالوجيا من حيث هي سيميولوجيا، فدرست حياة العلامات وصراعها، وترجمة بعضها البعض بالمسخ والتشويه والتحريف والإلغاء، ليس فقط في نصوص الوثائق العقارية، بل أيضا على الأرض من خلال العلامات وأسماء الأماكن، وفي الأحلام التي حكيت لنا، وفي الخرائط التي أنتجت؛
الطبقة الثانية، الجنيالوجيا من حيث هي نمذجة للقوى عليها أن تصل إلى القوى التي تسكن العلامات وتحركها، بل تتغذى بها ومنها، فكان لابد عند نهاية كل مرحلة (من مراحل التحقيب الثلاثي) أن نظهر القوى الاجتماعية التي استأرضت بعلاماتها، أنبتتها أو/و دفنتها، فأخبرت عن تمفصل المعرفة بالسلطة وبالعندية وبنمط الوجود الاجتماعي.
لننتهي في الأخير إلى الطبقة الثالثة للجنيالوجيا من حيث هي نظام تفاضل (خلاصات البحث) حيث حاولنا مقاربة القيم المتصارعة حول الأرض، وخصوصا، القيمة التي تحدد باقي القيم والقوى التي حكمت ملكية الأرض.(…)