بين الفينة والأخرى، يستعيد الخطاب السياسي أو الأدبي أو الصحفي أسلوب التأريخ بالأحداث، وتسمية الأعوام نسبة إلى أحداث بصمت الذاكرة الجماعية، وهو أسلوب ينتمي إلى الثقافة الشفوية، واحتفظت الثقافة المكتوبة ببعض نماذجه.
لفت انتباهي منذ بضعة أشهر سجال ورد على أعمدة صحيفة ذائعة الانتشار على إثر انتصار المغرب على فريق كرة القدم الموزمبيقي في إقصائيات كأس إفريقيا للأمم. جاء مقال أول يقول إن هذا الحدث يستحق أن يؤرخ به على شاكلة عام الفيل وعام البون. وذلك لأنه يشكل فضيحة حقيقية. “خرج الناس إلى الشوارع، وهم يهتفون ويهللون فرحا بانتصار المنتخب”. “كان الناس يطالبون بالحساب والمحاسبة، لكن المسؤولين المغاربة، البارعين في إخراج الأرنب من القبعة، حشدوا الجماهير ونوموها إعلاميا وجعلوها تعتقد أن الانتصار على منتخب الموزمبيق الضعيف هو الحل لكل شيء”
[i].
ثم جاء مقال ثان يحمل عنوان “انتصار العبث”. لاحظ صاحبه أن بعض الأقلام ضخمت أهمية المباراة المذكورة، ولم تتردد في تشبيهها بالزلاقة ووادي المخازن وأنوال والمسيرة الخضراء.”يجب أن نتوقف عن تضخيم الأشياء ونتفادى إطلاق صفة “التاريخي” على أي حدث، لأن هذا السلوك من علامات التخلف”.
الواقع أنه يعتبر تاريخيا كل حدث يحتل مكانة متميزة في مسار تاريخ أمة معينة، بحيث يترك بصمته في مسارها التنموي ويكون له دور ملموس في تطور البلاد ويستطيع الخلود في الذاكرة الجماعية أو الحضور فيها بقوة على مدى أجيال.”
[ii]
لاحظنا إذن أن هذه النصوص تسترجع ذاكرة أحداث شهيرة، أو تدعو إلى نحت “أعوام” جديدة. ثم إنها توظف هذه الظاهرة الثقافية داخل الفعل السياسي، أو تستعين بها في إطار الجمع بين التخييل والصور التي احتفظت بها الذاكرة الجماعية.
في اعتقادي أن قيمة هذه الشذرات لا تقتصر على جانب الطرافة، لأنها تتصل بمجموعة من القضايا التي تسود حولها مجموعة من المسلمات:
- هل الفضيحة حدث تاريخي بامتياز ؟
- هل الحدث التاريخي هو بالضرورة ذلك الحدث الذي تحتفظ به الذاكرة الجماعية بشكل أو آخر؟
- هل الذاكرة الشفوية بالضرورة ذاكرة الشعب؟ أم أنها تتعارض مع الذاكرة العالمة ؟
- ما معنى الثقافة الشعبية ؟
قرأت منذ أكثر من عقدين مقالا محفزا على الرغم من اختلاف السياقات، كتبه في موضوع الثقافة الشعبية المؤرخ الفرنسي ميشال دو سيرتو ، بالاشتراك مع زميليه دومينيك جوليا وجاك روفيل، وقد كان عنوانه الأصلي: “رونق الجثة”، ثم تحول إلى “جمال الميت”، ونشر سنة 1970، ثم أعيد نشره في سنتي 1973 و 1993 ضمن كتاب
الثقافة بصيغة الجمع[iii].
يطرح المقال بعض الأسئلة، من قبيل: ما معنى الثقافة الشعبية ؟ هل يقوم الجواب على هوية المؤلف أم المتلقي؟ ويسجل المقال ملاحظات هامة انطلاقا من الدراسات الأولى التي أنجزت حول كتب الأدب التي يوزعها الباعة المتجولون. لقد ارتبط ظهور الفضول العلمي بالثقافة “الشعبية” بالرقابة التي سلطت عليها من جانب السلطة. وأدى الخوف من الطبقات الشغيلة و”الخطيرة” بالمدن إلى تجميل صورة البادية التي تحمل قيم البساطة والتلقائية والسذاجة، وتم “تطهير” النصوص المعنية من مواضيع الطفولة والجنس والعنف. وظهر أن ثقافة البادية بدت عاجزة عن مقاومة تيار التحولات الجارفة التي نتجت عن الثورة الصناعية. ولذلك فالاهتمام بالثقافة الشعبية يعبر عن علاقة إقصاء وتأبين، وهي علاقة تحمل سمات الازدواجية المتوترة، إذ تسعى إلى “إخفاء ما تدعي إبرازه”.
كيف نتناول الذاكرة الشفوية، ونتجنب موقف الإقصاء والتأبين؟ تكمن الإجابة في تجاوز الاختزال الذي تتضمنه المقاربة النخبوية التي تزدري الثقافة الشفوية، والمقاربة الشعبويةpopuliste/ البؤسوية misérabiliste التي تعيد الاعتبار للثقافة الشفوية وتمجدها إلى حد إغفال السياقات الاجتماعية والتاريخية التي تؤطر العلاقة المركبة بين كلتا الثقافتين.
وقد حاولنا الكشف عن جوانب التمفصُل بين الثقافتين في تجربتين سابقتين. كان موضوع الأولى الشاي، وهو يتصل بالجسد والذوق والنشوة والمؤانسة ، وموضوع الثانية الزطاطة، وهو يتصل بالمجال والسفر وأنماط مراقبة التراب وتدبير العنف
[iv]. وتكتمل الثلاثية بالتأريخ الشفوي، وهو موضوع يتصل بالزمن والحدث والذاكرة.
كيف نعود إلى موضوع التأريخ بالحدث وفق أسئلة تاريخ واجتماعيات الثقافة؟ في رأينا أن التصور البديل ينبغي أن يبدأ بإزالة الالتباس والتمييز بين عدة مستويات تخص تعريف الثقافة الشفوية في سياق استعمالاتها المختلفة. لذلك نقترح التمييز بين ثلاثة مستويات تهم الإنتاج الشفوي، وهي التاريخ الشفوي، والتراث الشفوي، والتأريخ الشفوي بالحدث.
التاريخ الشفوي
التاريخ الشفوي هو كتابة تاريخية تعتمد بالأساس على المصادر الشفوية، والفردية في الغالب، وتعطي الكلمة للشاهد أو الفاعل- الشاهد، من دون أن تمنحه ثقتها اللامشروطة، كيفما كان وزنه وخصاله. ويوظف الباحث أدوات النقد التاريخي منذ مرحلة المقابلة والاستجواب، حتى وإن كان المشروع يقتصر على بناء الأرشيف الشفوي. فهو يبدأ بتوثيق عناصر المرحلة التي تتصل بالشاهد، ويزاوج بين القرب والمسافة، ويستحضر احتمالات تحوير الأحداث، إذ غالبا ما تتأثر رواية الأحداث بهفوات الذاكرة ورهانات الحاضر
[v].
اختلفت التجارب في التعاطي مع التاريخ الشفوي. غير أن هناك تجربتين معبرتين من حيث تفاوتهما وتعارضهما
[vi].
بين النموذج الأمريكي والنموذج الفرنسي
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، انطلقت حركة “التاريخ الشفوي” في بداية أربعينيات القرن العشرين على يد الصحفي- المؤرخ آلان نيفين Alan Nevin مؤسس “مدرسة كولومبيا”. عكف نيفين على تسجيل شهادات رجال من النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية. ووافق تأسيس أول مركز للتاريخ الشفوي سنة 1948 اختراع آلة التسجيل ذات الأشرطة، وانتشرت مراكز التاريخ الشفوي عبر التراب الأمريكي وبلغ عددها ألف سنة 1977.
وقد تبين أن كل ساعة استجواب تتطلب أربعين ساعة عمل للإعداد النهائي للنص: فالاستجواب ينقل كتابة، ثم يُرقن، ثم يرسل للمعني بالأمر للتصحيح، ثم يرفق كل استجواب بفهرس للأعلام والموضوعات، وبصور ووثائق إضافية عند الإمكان.
وفي الستينيات، شهدت الجامعات الأمريكية موجات الاحتجاج الطلابي ضد حرب فيتنام، وتقوت حركة المطالبة بالحقوق المدنية والحركة النسائية. وفي هذا السياق، انتقل الاهتمام التاريخي من زاوية الأعلى إلى زاوية الأسفل، وكان الاهتمام بسير حياة المهمَّشين نوعا من التاريخ المضاد.
وقد وجدت هذه الكتابة ضالتها في بعض المناهج التي صاغتها العلوم الاجتماعية. هناك مدرسة شيكاغو السوسيولوجية التي تعود إلى العشرينيات، وقد سعت إلى تعميق فهم ظواهر الانحراف والتهميش والهجرة وصعوبات الاندماج. وبدل الدراسة الكمية التي تقوم على ملئ الاستمارات، صاغ الباحثون ملامح المنهج الكيفي الذي يقوم على التحري الميداني والملاحظة بواسطة المشاركة. وأصبح استدعاء الذاكرة الفردية وسيرة الحياة وسيلة لإدراك الواقع الاجتماعي في تداخله مع قيم وتطلعات لمعنيين.
وهناك الأنثروبولوجي أوسكار لويس Oscar Lewis صاحب كتاب
أبناء سانشيث، وهو الذي شيد مفهوم “ثقافة الفقر” من خلال دراساته للمجتمع المكسيكي، وبنى جنس “السيرة الاجتماعية”، وطور السيرة الذاتية في اتجاه إدراك كيان اجتماعي معين عبر السير المتقاطعة لأفراده
[vii].
أما النموذج الفرنسي فقد عرف تطورا معاكسا. فقد غاب التعاطي مع التاريخ الشفوي قبل الستينيات، وبعد تأخر لافت، ظهر في البداية كامتداد لكتابة التاريخ المضاد في أمريكا مثلما كانت أحداث ماي 1968 من امتدادات الحركة الاحتجاجية الأمريكية. ففي الحقل الفرنسي، عكس التاريخ الشفوي شعارات القطيعة وأخذ الكلمة، وجاءت سيرة الحياة لتجسد الاهتمام الجديد بالمعيش.
وابتداء من الثمانينات، خبت هذه الجذوة، وعاد هاجس الهوية الوطنية وسؤال من نحن، ووافقت تلك العودة عودة التاريخ السياسي، وتاريخ الزمن الراهن وإعطاء الكلمة للشهود. وهكذا حصل “تطبيع” الأرشيف الشفوي والتاريخ الشفوي، فأصبح المؤرخون يوظفون المصدر الشفوي لكتابة تاريخ المقاولات والوزارات والمؤسسات العسكرية و”الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
يعود التعارض بين النموذجين الأمريكي والفرنسي إلى فوارق سياسية وتاريخية. من جهة عرفت فرنسا بقوة حضور الثقافة المكتوبة، وبدولتها اليعقوبية وقوة ذاكرتها الوطنية الموحدة، وعرفت الولايات المتحدة بحداثة تاريخ دولتها الاتحادية، ومجتمعها القائم على تعدد الإثنيات والطوائف الدينية.
مؤشرات حول التجربة المغربية
لا غرابة في أن موقف الكتابة التاريخية المغربية تأثر بالنموذج الفرنسي الكلاسيكي الذي يستبعد المصدر الشفوي. كما أن السياق السياسي الذي ساد بعد الاستقلال أدى إلى هيمنة الذاكرة الرسمية، وهو ما رسخ الرقابة الذاتية وألغى إمكانية بروز خطاب الذاكرة المتعددة طيلة حوالي خمس وأربعين سنة بعد الاستقلال.
ومع مناخ الانفراج السياسي الذي انطلق مع “حكومة التناوب” (1998)، اتسعت مساحة حرية التعبير، لكن المغرب أصبح يعيش توترا حقيقيا بين الرغبة في معرفة الوقائع السياسية، وبين تشييد الرموز ورسم شخصيات نموذجية تُعفى من الأخطاء ومواطن الضعف. ويلاحظ القارئ أن الشهادات تقتصر على الزعامات. وعوض بذل مجهود كتابة السيرة الذاتية، يتم اللجوء للحوار الصحفي الذي يميل إلى تلميع الذات وتصفية الحسابات مع الخصم داخل نفس المجموعة السياسية أو خارجها
[viii].
التراث الشفوي
المأثور الشفوي، أو التراث الشفوي هو ذلك الرصيد من النصوص الشفاهية التي احتفظت بها الذاكرة الجماعية، مثل الحكايات والمرويات والألغاز والأمثال وسلاسل النسب. تنتقل هذه المتون عبر الأجيال من دون تدخل المؤرخ أو الباحث في الاجتماعيات، ويغيب فيها أحيانا اسم المؤلف الفرد، وتختص بعض الفئات بحفظها واستظهارها عند الحاجة.
لقد كان هذا المأثور موضوع استعمالين. فقد سبق لباحثين غربيين أن اعتبروا أن مجتمعات مثل إفريقيا جنوب الصحراء لا تاريخ لها بسبب غياب أو ندرة المصادر المكتوبة، على أساس أن التاريخ يفترض الكتابة. ثم جاء جيل جديد من المؤرخين الأوربيين (المعادين للاستعمار) والأفارقة (الساعين إلى تأكيد هويتهم التاريخية)، ففندوا تلك المعادلة بناء على توظيف التراث الشفوي. وتم ابتكار مناهج مناسبة وفعالة
[ix]، وأنجزت أعمال رائدة في هذا المجال، تظهر على سبيل المثال في
تاريخ إفريقيا العام الذي نم إعداده في إطار منظمة اليونسكو (ثمانية مجلدات، وقد ترجم إلى العربية).
وفي البلدان الأوربية، ظهر علم الفولكلور، فعكف باحثون على جمع التراث الشفوي (نموذج فان غينيب Van Gennepفي فرنسا)، وخصصت بعض دور النشر سلاسل تعتني بإصدار تلك النصوص. وكان وراء هذا الحماس شعور بأن تلك المتون تمثل ذاكرة ثقافية مهددة بالاندثار.
ولم يغب هذا الشغف عن الإنتاج الإثنوغرافي الذي تم إنجازه في المستعمرات، إلى جانب الأغراض التي ترتبط برهانات الإدارة الاستعمارية. هناك باحثون انطلقوا من تكوين جامعي صرف، (نموذج لويس برونو Louis Brunot الذي درس عامية مدينة الرباط وألف كتابا حول البحر في ثقافة وعوائد نفس المدينة). وبدأ آخرون بالاشتغال داخل مؤسسات الحماية، ثم ارتبطوا بالثقافة المحلية وغاصوا في جمع كنوزها. وهكذا قضى ضابط الاستعلامات بتزنيت ليوبولد جوستينار Justinard Léopold عدة عقود في استقصاء أخبار وأدب سوس، وقضى أرسين رو Arsène Roux مدير ثانوية أزرو “الفرنسية- البربرية”، مدة في جمع أشعار منطقة الأطلس المتوسط، بما فيها أشعار المقاومة المسلحة.
كيف تملك المغاربة التراث الشفوي كفضول معرفي ؟ نقترح فرضية تميز بين ثلاث محطات.
محطة محمد المختار السوسي
مع أن المؤرخين المغاربة لم يكونوا آنذاك يتوفرون على العدة المنهجية التي يقوم عليها البحث الإثنوغرافي، فقد تأثروا بباحثي الحماية. وهكذا دون محمد داود عوائد وأمثال أهل تطوان، واعترف محمد الفاسي بأن علاقة الصداقة التي أقامها مع إميل ديرمينغيم Emile Dermenghem هي التي دفعته إلى الاهتمام بالثقافة الشعبية. وبلغ التأثير ذروته عند محمد المختار السوسي في كتابته للتاريخ الثقافي لمنطقة سوس (تاريخ الثقافة العربية- الإسلامية بسوس). انظر مقدمة كتاب المعسول حيث يشير المؤلف إلى ضرورة الحفاظ على الذاكرة بسبب انقلاب أحوال المغرب.
محطة مجلة أنفاس
وبعد مرور عشر سنوات على نهاية حقبة الحماية، عاد الاهتمام بالثقافة الشفوية في إطار التنظير للثقافة الشعبية ومساءلة ثقافة الحركة الوطنية. يظهر ذلك في عدد من المقالات التي احتضنتها المرحلة الثقافية لمجلة أنفاس Souffles(عبد اللطيف اللعبي، أحمد البوعناني). ولا غرابة في أن مثقفين مرتبطين بالمجلة عملوا على توظيف الثقافة الشعبية داخل إنتاجاتهم (رواية حرودة للطاهر بنجلون، فيلم وشمة لحميد بناني)، أو تناولوا نفس الثقافة بالتحليل الفلسفي / السيميائي (عبد الكبير الخطيبي في الاسم العربي الجريح، عبد الحي الديوري في أطروحته غير المنشورة حول ظاهرة الجذبة)، وجعل منها البعض مدخلا لحركة ثقافي هوياتية (أحمد بوكوس، عبد الله بونفور).
وابتداء من السبعينيات، اتسع نطاق إعادة الاعتبار للثقافة الشفوية. فتكاثرت الأبحاث الجامعية التي تتناول اللغة والأدب اللذين يتصلان بمجالي الأمازيغية والعربية الدارجة. وراح الباحثون يعيدون اكتشاف الزجل والحكاية والأمثال والعيطة وموروث الفرجة، وذلك بمناهج متباينة، بين التوثيق البسيط إلى التحقيق أو تحليل بنيات السرد أو الرموز.
محطة اليونسكو
عند اقتراب نهاية الألفية الثانية، شاءت الصدفة أن تحتضن مدينة مراكش، في سنة 1997، الاجتماع الدولي الذي أحدث مفهوم “التراث الشفوي للإنسانية” في إطار منظمة اليونسكو، وكانت ساحة “جامع الفْنا” ضمن اللائحة الأولى لتسع عشرة تحفة عالمية تم اختيارها والدعوة إلى صيانتها. ثم كان الانتقال من مفهوم “التراث الشفوي” إلى مفهوم “التراث الشفوي اللامادي” (2003). ويتعلق الأمر بتراث متعدد الأشكال، تنتظم فيه خريطة أجناس التراث وفق استعارة تستعرض حواس الجسد ومهارات الإنسان ومعارفه. وهكذا يحضر فيه الأدب الشفوي إلى جانب الموسيقى والغناء والرقص والطقوس الاحتفالية والأعشاب الطبية والطبخ والصناعةالتقليدية، وذلك وفق استعارة تستعرض على التوالي كل من حواس الجسد ومهارات الإنسان ومعارفه، حواس الجسد. يتوالى فيها الفم والأذن والعين والشم وتفترض صفة التراث اللامادي التنوع والذاكرة والهوية والاستمرارية والهشاشة وروح الابتكار.
التأريخ الشفوي بالحدث
تشكل المرويات التاريخية جزءا من المأثور الشفوي. غير أن ما نعنيه هنا بالتأريخ الشفوي هو عملية تحديد الزمن، وتوطين الحدث داخل الزمن (datation)، وهو المعنى الأصلي لمصطلح “تاريخ” في الثقافة العربية- الإسلامية قبل أن يصبح التاريخ هو علم الخبر.
وقد نشأ اهتمامنا بهذه الظاهرة الثقافية من خلال الانتباه لكون المؤرخين القدماء تعودوا أن يذكروا، من حين لآخر، أن بعض الأحداث كانت وسيلة تأريخ. قيل مثلا عن عام 974 للهجرة ( 1566- 1567 للميلاد): “وفي هذا التاريخ كان كسوف الشمس المشهور المعروف عند الناس بالظليماء تصغير ظلماء،
وكثيرا ما يؤرخون به”
[x]. وقيل عن عام 987 للهجرة (1579- 1580 للميلاد): “وفي عام سبعة وثمانين وتسعمائة وقع غلاء عظيم حتى عرف ذلك العام بعام البقول ووقع سعال عظيم أصاب الناس عامة في بعض فصول ذلك العام فلا يزال الإنسان يسعل إلى أن تقبض روحه ولهذا
سمي العام عام كحيكحة”
[xi].
عام الفيل
ينتمي عام الفيل إلى المرحلة التأسيسية للذاكرة التاريخية الإسلامية. نتعرف عليه بإيجاز شديد من خلال النص القرآني (سورة الفيل)، وتتعدد مروياته في كتب التفسير والتدوين التاريخي. وتظهر مواضيع المعجزة، والحماية الربانية للكعبة ومعاقبة مهاجميها، والتبشير بميلاد نبي الإسلام. وقد تناولت دراسات حديثة الخلفية التاريخية لهجوم أبرهة على مكة (حوالي سنة 570 للميلاد)، حيث خاض الأحباش حربا بالوكالة لصالح بيزنطة ونفوذ الفرس في شبه الجزيرة العربية. وأدى حدث الفيل إلى تزايد نفوذ قريش.
من اللافت أن التدوين التاريخي المغربي استعاد رمز الفيل و”عام الفيل” عبر سرد مجموعة من اللحظات والمعارك، من معركة الزلاقة التي خاضها السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين في الأندلس ضد ملك قشتالة ألفونس السادس (1086)، إلى معركة الكارة التي خاضتها الأسرة العلوية ضد الزاوية الدلائية (1646).
ثم جاء توظيف الرمز مؤخرا خلال شهر نونبر 2012، في سياق الصراع بين دولة إسرائيل وحركة حماس. فقد أطلقت دولة إسرائيل اسم”عمود السحاب” على عملياتها ضد غزة، وهي عبارة وردت في الإنجيل والتوراة والزبور، وترمز إلى الحماية التي يوفرها الرب لبني إسرائيل، على شكل عمود سحاب في النهار، كي يهديهم، وفي الليل كان يتحول إلى عمود نار كي يضئ لهم. ثم جاء الرد من الجناح العسكري لحركة حماس، للانتقام من اغتيال أحمد الجعبري، فاستعملت الصواريخ لقصف عدد من المدن الواقعة داخل التراب الفلسطيني الذي احتل سنة 1948، وأطلق على هذه العملية اسم “حجارة سجيل”.
عام البون
أما “عام البون”، فهي تسمية تنقلنا إلى مرحلة الحماية، وتشمل عدة سنوات، بين الهدنة التي تلت انهزام فرنسا أمام الجيش الألماني (1940) وانتهاء الحرب العالمية الثانية. فقد قررت فرنسا نقل الموارد المغربية إلى الميتروبول، ونتيجة للخصاص الحاصل، تم تقنين توزيع عدد من “المواد الأساسية” (مثل الدقيق والسكر والشاي والزيت والصابون)، وتفاقمت ظاهرة السوق السوداء (“المارشي نوار”).
وخلال نفس الفترة، كان الإنزال الأمريكي في المغرب سنة 1942، فانهزمت القوات الفرنسية داخل التراب المغربي بعد أن انهزمت فوق التراب الفرنسي. وأرخ المغاربة بـ”عام ماريكان”. وفي سنة 1945 تظافر مناخ الخصاص مع الجفاف، فكانت مجاعة القرن، وأرخ المغاربة بـ”عام الجوع”.
وترك “عام البون” بصمة قوية في الذاكرة الجماعية، وقد استعادته بعض الزعامات النقابية والأقلام الصحفية مؤخرا لانتقاد برنامج إصلاح صندوق المقاصة وفكرة تقديم دعم مباشر للفئات الفقيرة، وتم التشبيه بتلك “السنة السوداء” التي فرضت فيها سلطات الحماية استعمال توزيع بطاقات التموين.
بين الثقافة الشفوية والتاريخ المحلي
هل تسمية الأعوام ظاهرة تخص أعواما وأحداثا استثنائيا تستحق أن يؤرَّخ بها ؟ ذلك ما يوحي به اعتماد العرب للتأريخ بالحدث قبل الإسلام، إذ قيل إن العرب أرخوا بأحداث مثل الفجار والفيل قبل اتخاذ السنة الهجرية التي اقترن إحداثها بإكراهات تدبير الدولة الجديدة. لكن التأريخ بالحدث استمر عند العرب بشكل موازي. ثم جاءت بعض الأبحاث الإثنولوجية لتؤكد أن المجتمعات الشفوية لا تؤرخ بسنوات استثنائية، بل تسمي كل سنة بحدث بارز، من قبيل الحدث العسكري أو الجائحة. يظهر ذلك من خلال قبيلة الشعابنة (من بني سليم) بشمال الصحراء الجزائرية، ومنطقة شنقيط (موريتانيا الحالية)
[xii].
فالتأريخ بالحدث ظاهرة بنيوية، وهي كذلك ظاهرة محلية بالأساس. لنتأمل ما سجله الطيب العلوي حول سنتي 1323- 1324 (1906- 1907):
” قحط المغاربة عام 1323 فلم يمطروا ولم يحرثوا إلا من لهم أرض سقوية وهي قل غير كاف حتى لأهلها. ولما دخلت 1324 مطروا مطرا منتظما منسقا ما رأوا مثله قط، ولكنهم لم يجدوا ما يأكلون ولا ما يحرثون فجاع الناس وأكلوا النبات. فمنهم من كان يحفر عروق نبات يقال له “يَرْنىَ”يسمى عندهم عام “يرنى”، ومنهم من كان يحفر عروق نبات آخر يقال له “أكثار” فسمي عندهم عام أكثار، وكلا هذين يشبهان البطاطيس ولكنهما مُرَّان لا يكادان يُساغان وإنما هو الجوع قبحه الله يسيغ كل شيء. ومنهم- وهم المحظوظون- من عاش على سميذ كانت إسبانيا تجلبه من أمريكا الجنوبية وتبيعه للمغاربة فيسمى عندهم عام السميذة. وهكذا مرت هذه المجاعة بالمغرب فخلفت موت قرابة ربع السكان، وأوربا تنظر إلينا بالعين المتشفية والضمائر المرتاحة لأنها تعلم أن ضعفنا وانهيار اقتصادنا وخلاء أرضنا من رجالنا، كل ذلك يفسح لها المجال لتأخذنا كما تشاء [...].
ومن مميزات هذه السنة أن بعض عرب جشم بناحية تادلة قد باعوا أولادهم بنين وبنات وخصوصا لقبيلتي ضايان وبني مجيلد الأمر الذي جعل هاتين القبيلتين خليطا من العرب والبربر
وكانوا هناك يسمون هذا العام عام العرب“
[xiii].
هكذا تختلف تسمية العام الواحد من منطقة إلى أخرى. وإلى جانب ذلك، يظهر الجانب المحلي للتأريخ بالحدث من خلال ما يتصل به من سياقات. ففي الكتابات التي دونت “الأعوام”، تحيل لغة التسمية إلى معارك وشخصيات محلية، ومعجم محلي للحرب وجوائح المناخ (من جفاف وسيول وزوابع)، والأوبئة التي تصيب الإنسان والحيوان، إلى درجة أن محقق النص يعترف بصعوبة تحديد مضمون الكلمات والأعلام بالرغم من انتمائه لثقافة البلد المعني بالأعوام.
أنماط تمثُّل الزمن
هناك إذن إمكانية تتبُّع ظاهرة التأريخ بالحدث في الثقافة المغربية على مستوى المونوغرافيا المحلية. لكن عوض ذلك فضَّلنا رصد الظاهرة في المدى الطويل، عبر “الأعوام” التي سجلتها المصادر التاريخية المكتوبة نقلا عن الذاكرة الشفوية. وقد بدا لنا أن المادة المتوفرة تعبر عن نظام ثلاثي لتمثل الزمن.
أولا- زمن هشاشة المجال. يتعلق الأمر بنظام اقتصادي- ديموغرافي تشكل فيه الأوبئة والمجاعات ظاهرة بنيوية تساهم في ركود عدد السكان، وبزمن زراعي يعرف تعاقب سنوات الخصب وسنوات الجفاف.
كانت تطلق على زمن الخصب تسميات تكرارية مثل “عام الصابا” و”عام الخير”. وتنطبق نفس الملاحظة على “عام الجوع”، و”عام يرني”، و”عام الجراد”، و”عام الفار”. وهكذا يُفترض أن هذه الأعوام وسيلة للتأريخ وتحديد الزمن، بيد أننا أمام زمن دائري، وماضي يتم استحضاره وكأنه ينتمي إلى الحاضر.
ثانيا- زمن المنقبة والبركة. تفسَّر فيه الظواهر وفق منطق مناقب الأولياء، وبالاعتماد على مفعول البركة وخرق العادة ونفي السيرورة. ويشتغل هذا المنطق في أخبار الخصب والجفاف والوباء، ويتعدى ذلك إلى أخبار المعارك والحروب الداخلية والخارجية.
ثالثا- زمن قيام الساعة. وهو زمن إسكاطولوجي يصل بين بدايات العالم ونهاياته. فالكارثة تذكر بالعقوبات التي سلطها الله على الأولين، مثل الطوفان. كما أن الكارثة تنذر بمؤشرات أشراط الساعة، من قبيل الزلازل والفتن وخروج الدجال والمهدي الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن عمها الفساد.
الحدث بين المنظومة التقليدية و الثورة الإعلامية
نعود الآن إلى مسألة الحدث، وإلى سؤال: ما هو الحدث التاريخي ؟
[xiv]
ففي الثقافة التاريخية التقليدية، الحدث الذي يؤرَّخ له ويؤرَّخ به هو الحدث العسكري، والجائحة، ووفاة الأعلام من فقهاء وأولياء.
وفي الثقافة التاريخية الحديثة، يكتسب الحدث الصفة التاريخية بعد حين، من خلال تأويلات المؤرخ الباحث. وقد مر تعامل المؤرخ الحديث بثلاث مراحل، وهي مركزية الحدث السياسي العسكري، ثم هامشية الحدث ومركزية البنية الاقتصادية والاجتماعية، ثم إعادة الاعتبار للحدث، بحيث يصبح الحدث مرآة للبنيات، ووسيلة تتيح الغوص في تجربة وذاتية الفاعل التاريخي والمجتمع الذي ينتمي إليه.
وفي مستوى آخر، تقترن عودة الحدث إلى اهتمام المؤرخين باقتحام الحدث للمجتمعات الحديثة، وذلك من خلال دمَقْرَطة الخبر. أصبح الخبر/الحدث مادة استهلاكية، غير أن وفرة الإخبار لا تتعارض مع قصور الإخبار.
ومنذ انطلاق الإعلام السمعي– البصري، جرت عودة تدريجية إلى الثقافة الشفوية. ومع الأنترنيت والشبكات الاجتماعية، أصبح هناك اشتغال كتابي للتواصل الشفوي، بعدما كانت مجتمعاتنا تعرف الاشتغال الشفوي للمكتوب من خلال ثقافة التلاوة والرواية والإجازة. وفي مستوى آخر، زادت أهمية الصورة، وزادت سلطة الفرجة، وأصبح الخبر يركز على الفضيحة والإثارة والشائعة. وبذلك أصبح الحدث صناعة تخاطب المخيلة، وتتقن السرد، ويخفي واقع الرهانات الاجتماعية والسياسية. وأصبحت الصحافة هي التي تؤرخ وتقيس تاريخية الحدث.
وفيما يخص أنماط تمثل الزمن، يبدو وكأن المجتمعات الحديثة تستعيد النموذج الثلاثي الذي ظهرت ملامحه في المجتمع التقليدي. هناك عودة لزمن هشاشة المجال، من خلال الظواهر الناتجة عن الاختلال البيئي، والتي تتصل بمشاكل التغذية والأوبئة الجديدة، وكلها ظواهر جعل منها الإعلام موجات من “الخوف الجماعي”. وهناك عودة زمن المنقبة، من خلال اكتساح النجوم والمشاهير للمنابر الإعلامية، من قبيل الأميرة دايانا، والمغني مايْكْل جاكْسُون، ولاعبي كرة القدم مِيسِي وكْريسْتيانو رُونالدُو، وكلها نماذج تعبر عن أشكال جديدة من “خرق العادة”. وهناك أخيرا عودة زمن قيام الساعة، وقد رأينا كيف عكس الترويج لموعد سنة 2012 أشكالا جديدة في التفاعل بين ثقافة الغرب وثقافات مجتمعات الجنوب.
امتدادات
رغم أننا ميزنا بين التاريخ الشفوي والتراث الشفوي والتأريخ الشفوي بالحدث، فإن هناك مجموعة من التقاطعات. فالتأريخ الشفوي بالحدث جزء من التراث الشفوي، ويمكن جمع متونه بواسطة التاريخ الشفوي. ومن جهة أخرى، فبالرغم من التمييز المعتاد بين المكتوب والشفوي في التعامل مع الماضي، فإن هناك بعض التمثلات البنيوية التي توحي بوجود ثقافة تاريخية واحدة لا تزال فاعلة في الحاضر. فزمن المنقبة لا يزال يعوق كتابة سير الزعامات السياسية التي ساهمت في تطور المغرب في القرن العشرين. والخطاب السياسي الراهن لا زال يحمل رواسب الزمن الإسكاطولوجي.
وفي مستوى آخر، كيف تزاوج ثقافتنا بين البنيات التقليدية وبين زمن الإعلام المعولم؟ لا بد هنا أن نستحضر فرقا أساسيا، وهو أن مجتمعنا اختصر مرحلة الكتابة والكتاب، بسبب تحريم الطباعة قبل القرن العشرين، وغياب تعميم التمدرُس وغياب الاهتمام بشأن الكتاب في أولويات الدولة إلى الآن. ومعلوم أن الطباعة والكتاب لعبا دورا هاما في إشاعة قيم العقل والنقد. وحين يغيب العقل والنقد في تمثل المجتمع لماضيه، تهيمن ثقافة النقل، ويترسخ الالتباس بين الذاكرة والتاريخ، والالتباس بين الماضي والمستقبل.