حوار الشعر والتشكيل
.
حورية الخمليشي 19 فبراير 2015 في
دراســات أضف تعليقا في ظل مجتمع الصورة والحياة الرقمية وعالم المتغيرات جاءت اللوحات الشعرية التشكيلية تعبيراً عن نشاط إنساني فنّي يفتح مجالاً واسعاً فيما تتضمّنه الصورة من محتوى معرفي وخبرة جمالية. وهذه اللوحات الراقية تعبير وتجديد وتمثل للتراث والحاضر والمستقبل في مواكبتها الكبيرة للتطور العالمي في تناول الصورة. وإذا كان الشعر هو الاختصاص الأعلى في التعبير عن إنسانية الإنسان، فلغة الشعر لغة إنسانية عابرة للزمن والحدود والتاريخ. فقد وجد الفنّ التشكيلي في الشعر العربي الحديث أرض الضيافة والإخاء والعيش المشترك. لأن الشعر مغامرة في المجهول واللانهائي في رؤيته إلى العالم والوجود والكون. فاستضافته الفنون لتحتفي به في رحلة عشق لأراضي عديدة من مختلف بقاع العالم من أقصاها إلى أقصاها بدون تأشيرة دخول، شعارهما الوحيد المحبة والوفاء والإخاء والانتصار للقيم الجمالية. لقد ظلّ الشعر منذ زمن بعيد وما يزال ضيف شرف المعارض الفنية التشكيلية العالمية. وتفوّق العديد من الفنانين التشكيليين والخطّاطين في نقل الجو الشاعري من القصيدة إلى اللوحة. كما تزخر المعارض الفنية العالمية باللوحات الشعرية التشكيلية التجريدية الفائقة الجمال والمحمولة بفلسفة فنّ جمالية وإحالات دلالية متشعّبة على خلفية قصائد كبار الشعراء القدماء والمحدثين من مختلف الجنسيات والأعراف والديانات، ونقلها فنّانون آخرون إلى خشبة المسرح والسينما والسينوغرافيا وغيرها من الفنون.
ونجد أن علاقة الشعر بالفن التشكيلي توطّدت بداية من المرحلة الرومانسية بالانفتاح على الحضارة الغربية. فقد كان بودلير من أهم الشعراء المجددين. وكتاباته وأشعاره تجمع بين الشعر والنقد الفني. من هنا جاء تأثيره الكبير على الشعراء المعاصرين، برفضه للقيم التقليدية والموضوعات الأخلاقية. وكان بودلير كذلك شديد الإعجاب بالفنان دولاكروا الذي كان يجنح إلى الخيال والحرية بعيداً عن قيود الواقع للتعبير عن الانفعالات الإنسانية. وعُرف أيضاً أبولينير بتأثره الشديد بشعر رومبو ومالارمي كما كان شديد الإعجاب بفنّ بيكاسو وبراك وبالكاتب المسرحي ألفريد جاري في زمن كان فيه الرسم التكعيبي لغة العصر الجديد. بحيث شهدت الحركة الدادائية والسريالية تفاعلاً كبيراً بين الشعر والرسم، حتى أن معظم الشعراء جمعوا بين الشعر والرسم مثل ويليام بليك وماكس جاكوب ومايكوفسكي وبيكاسو وأندريه بروتون وجان كوكتو وغيرهم.
وتطورت علاقة الشعر بالتشكيل أكثر مع الحركات التجديدية التحديثية في الشعر العربي خاصة مع جبران خليل جبران. وهي مرحلة عرف فيها الشعر الحديث قرابة عميقة وانفتاحاً كبيراً على التشكيل بينما كان هذا مقتصراً على الشعريات الكبرى في كل من أوروبا وأمريكا وغيرها. وبلغت ذروتها الفنية مع الشعراء والتشكيليين المعاصرين. فنشأت بين الشعر والتشكيل خصائص مشتركة للغتين مختلفتين. ومن خلال هذه المجاورة تظهر لغة الشعر لا كلغة جمالية فحسب ولكن أيضاً لغة الكينونة. ما يعني أن كلاًّ من الشعر والتشكيل قادر على فهم الآخر أكثر من غيره من الفنون.
فقد أقام الشعراء المعاصرون علاقات حميمة مع الفنانين التشكيليين. وكثيراً ما وصف النقاد جمالية القصيدة بجمالية اللوحة التشكيلية المتعددة الخطوط والألوان. كما عمدوا إلى وصف اللوحة بقصيدة تتسم بشاعريتها الخلاقة رغم التباين بينهما وخصوصية كل من فنّ الشعر والرسم. كما نجد أن بعض الشعراء الكبار أقدموا على فنّ الرسم وأقاموا معارض متعددة. وأنجز الرسامون العديد من الأعمال التشكيلية المستوحاة من الشعر غاية في التفرد والجمالية بما فيها اللوحات والرسم على الورق أو القماش أو الخشب بالإضافة إلى إنجاز العديد من الدفاتر الفنية والكتب الخطية وغيرها.بينما كتب العديد من التشكيليين الشعر.
وباستطاعة المتلقي للنص الشعري أن يرتاد المعارض التشكيلية ليقف أمام موسيقية اللون واللفظ لتأمّل وتذوّق النص الشعري في فضاء اللوحة التي هي مسرح يتفاعل فيها الشكل والمادة وذاتية الفنان ومشاعره التي ينقلها إلى المتلقي عبر الألوان والخطوط المستوحاة من الشعر ومن مسرح الحياة الإنسانية بصفة عامّة. وهي خطوط يختلف معناها حسب نوعية امتداداتها وارتفاعاتها وانحناءاتها وتوازناتها ومدى تناسب أجزائها. وكلها عناصر تمتزج بذاتية الفنان ومشاعره وخياله ومدى مهارته في معالجة هذه الخطوط ودرجة قدرته على ابتكار الأشكال. فاللوحة التشكيلية كنصّ صامت حاملة لمعاني عميقة وتأويلات لانهائية قادرة على السمو بذائقة المتلقي لقراءة ألوان الريشة والقلم، فلا تكون اللوحة حاملة للمعنى فحسب ولكنها تتحول بذلك إلى معنى في حد ذاته. كل ذلك يحتاج إلى قارئ قادر على إدراك الوعي الجمالي والفني لقراءة اللوحة وإدراك معانيها ومضامينها التي هي جوهر الرؤية الفنية. فقراءة العمل الفني تقتضي معرفة خصائص ومعايير لغة الفنّ التي يشتغل بها ذووا الاختصاص في مجال الفن التشكيلي لإدراك معانيها العميقة. ما يعني أن قراءة اللوحة كقراءة القصيدة تقتضي المعرفة والعقل والعاطفة والإحساس.
إن اللوحة نتاج فني إبداعي عصي عن الشرح والتفسير. وللرسم ما للشعر الذي يقول فيه المعري في ديوان سقط الزند: “والشعر للخلد مثل الصورة لليد يمثل الصانع ما لا حقيقة له ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره.” بشرط أن يوضع الشعر في سياقه الشعري واللوحة في سياقها الفني التشكيلي مع إبراز الدلالات الجمالية والبحث عن الأنساق المركبة لكل منهما. وهذا يقتضي امتلاك المتلقي لثقافة فنية شعرية وتشكيلية. فمشكلة القراءة من أهم مشاكل الشعر العربي الحديث، لأن في امتزاج الشعر بالفنّ تنتفي الحدود بين الأجناس، ويحتاج المتلقي إلى ثقافة معرفية وفنية تمكنه من تأمل العمل الفنّي الذي يهتم بالمواد الحسية لهذا العمل، والتمييز بين بنية اللغة الشعرية وبنية الصورة، خاصة وأن النقد الشعري يختلف في أدواته ومفاهيمه عن مقوّمات النقد الفني. في الصورة التشكيلية يحتاج المتلقي إلى أدوات تمكنه من فهم معاني لغة الصورة التشكيلية وقيمتها الإنسانية كحقيقة بصرية كونية، وهي قابلة للقراءة والتأويل بمستويات متعددة ومتفاوتة، لأن الشعر في فضاء اللوحة تعبير بليغ عن الأثر البالغ للفن في تأصيل قيَم الإنسانية. فاللوحة التشكيلية نصّ بصري مفتوح على كل اللغات، متجاوزة بذلك البصر إلى البصيرة والإدراك وهو ما يضيف بعداً جمالياً وإنسانياً للعمل الفني. وقد وجد في الشعر كتابة تعانق الإنسان خارج أي انتماء لأنه أرقى الفنون في تعميق معاني السلام والإخاء. لذلك بلغت هذه اللوحات الذروة في اجتذاب أنظار المثقفين وعشاق الفنّ الرفيع ومحبيه.
وسنقدّم بعض النماذج من اللوحات التشكيلية الرائعة المستوحاة من الشعر، وهي من إنجاز فنانين تشكيليين وشعراء رسّامين. ومن بين الفنانين التشكيليين ضياء العزاوي وإلياس زيات ومنى السعودي وضياء البطل وإبراهيم بوسعد وفؤاد بلامين وجيومباتيستا تييبولو وحامد رحمانيان وفرانكلين كارميخائيل وكريستوبال روخاس ودولاكروى وكاترين رييو-كروسنيي وزاو ووكي، ومن الشعراء الرسامين طاغور وماتسو باشو وغوته وبودلير وأدونيس. وتحضر في هذه اللوحات أشعار المعلقات وشعر جبران خليل جبران ومحمود درويش ومحمد بنيس وقاسم حداد والشاعر الهندي طاغور والياباني ماتسو باشو والألماني غوته والفرنسي ماكس جاكوب ولويس أراغون وسان جون بيرس بالإضافة إلى حضور الأعمال الشعرية الكبرى كإلياذة هوميروس وشاهنامة الفردوسي والكوميديا الإلاهية لدانتي.
لوحة شعر المعلقات. رسم ضياء العزاوي (وهي من ضمن مجموعة أعمال المعلقات أنجزت أواخر السبعينات)
لوحة مستوحاة من شعر جبران خليل جبران. رسم إلياس زيات في تحيته إلى جبران.2010.
لوحة مستوحاة من شعر محمود درويش. رسم منى السعودي وضياء البطل
لوحة مستوحاة من شعر قاسم حداد من ديوان المجنون. رسم إبراهيم بوسعد
“جدار فاس للعبور” من إنجاز الشاعر محمد بنيس والرسام فؤاد بلامين مستوحى من شعر محمد بنيس “المكان الوثني”
رسم أدونيس بتوظيفه للكاليغراف العربية 2013
(هذه اللوحة أهداها أدونيس للمتحف الفني الصيني)
لوحة مستوحاة من كتاب النرد (Le cornet à Dés) للشاعر الفرنسي ماكس جاكوب (Max Jacob)
رسم كاترين رييو-كروسنيي (Catherine REAULT-CROSNIER)
لوحة مستوحاة من شعر سان جون بيرس للرسام العالمي دولاكروى (Delacroix)
لوحة مستوحاة من شعر لويس أراغون (Louis Aragon)
رسم زاو ووكي (ZaoWou-KiPékin)
لوحة من شعر ورسم شارل بودلير. واللوحة مستوحاة من ديوانه “أزهار الألم” (Lesfleursdumal)
لوحة مستوحاة من شعر الشاعر الياباني فوجيوارانوكنتو (FujiwaranoKinto )
للرسام الكندي فرانكلين كارميخائيل (FranklinCarmichael) وهي مستوحاة من قصيدة “الخريف”
لوحة مستوحاة من شعر الشاعر الهندي طاغور. رسم طاغور (Rabindranath Tagore)
لوحة مستوحاة من شعر الشاعر الياباني ماتسو باشو. رسم باشو (Matsuo Basho)
لوحة مستوحاة من شعر الشاعر الألماني غوته Goethe. رسم غوته
لوحة شاهنامة الفردوسي، رسم حامد رحمانيان 2013
لوحة ملحمة إلياذة هوميروس (حصان طروادة) للرسام والنحات الإيطالي جيومباتيستا تييبولو (Giambattista Tiepolo)
لوحة الكوميديا الإلهية لدانتي أليجيري (Dante alighieri). رسم الرسام الفينزويلي كريستوبال روخاس
واللوحة تعبّر عن “دانتي وبياتريس” على ضفاف نهر النسيان