سارتر و كامو .. خصومة عابرة أم خلاف جذري؟
|
| |
لخصومة التي نشبت بين جان بول سارتر (1905 - 1980)، وألبير كامو (1913 - 1960) طغت، بشكل واسع، على الساحة الفكرية الفرنسية منتصف أربعينيات القرن العشرين. خصومة تميزت بتوهُّج الأيديولوجيات وصراع النماذج، وأنهت أواصر صداقة قصيرة الأمد، بدأت عندما أبدى كامو إعجابه بالأفكار الفلسفية التي صاغها سارتر في رواية «الغثيان» (1938)، وكتب عنها مقالاً نشره في جريدة «الجزائر الجمهورية» (ALGER REPUBLICAIN)، استحسنه سارتر رغم أن كامو تحدَّث عن وجود خلل في التوازن بين الأفكار والصور في رواية «الغثيان». فكتب صاحب «الطاعون»: «هذه هي الرواية الأولى لكاتب يمكن أن نتوقَّع منه كل شيء».إن المرونة التي يبديها، إنما تكمن حقيقتها في بلوغ الحدود البعيدة للفكر الواعي. يضاف إلى ذلك، وضوح لا يخلو من ألم التعبير. وهذه جميعاً عناصر تشكِّل مواهب لا تتوقّف عند تخوم معينة. هذه هي الخلفية التي ينبغي أن نرحِّب، من خلالها، برواية «الغثيان» باعتبارها عملاً ينطوي على مؤشرات فريدة تدلّ على عقل مميَّز وصارخ ننتظر بفارغ الصبر ما سيسفر عنه». وعندما نشر كامو رواية «الغريب» عام 1942، مدحها سارتر بدوره، واعتبرها رواية جديرة بالقراءة.
وسارت العلاقة بين الرجلين في الاتجاه الصحيح، رغم اختلاف تكوينهما وطموحهما. كان سارتر فيلسوفاً وبورجوازياً، خرّيج مدرسة المعلمين العليا، بينما كان كامو، الذي وُلِد وتربَّى بين أحضان عائلة فقيرة من الأوروبيين في الجزائر، يصف نفسه بأنه فنان وليس فيلسوفاً. وكان يبرر ذلك بأنه «يفكِّر وفق الكلمات، وليس وفق الأفكار».
التقى الكاتبان لأول مرة سنة 1943، في باريس المُحتلّة، خلال عرض مسرحية «الذباب» لسارتر. وكان حينها فيلسوفاً ذائع الصيت، بينما كان كامو القادم من الجزائر في بداية الطريق. وكتبت سيمون دي بوفوار عن هذا اللقاء: «كان سارتر واقفاً في أحد أروقة المسرح عندما تقدم منه شاب داكن البشرة، عرف عن نفسه بأنه ألبير كامو. في تلك الأثناء، كانت الحرب قد ألقت بهذا الشاب في فرنسا. وقد أسفر غزو الحلفاء لشمال إفريقيا الواقع تحت السيطرة الفرنسية، ومن ثم الغزو الألماني لفرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 1942، عن انقطاعه عن زوجته فيما كان يتماثل إلى الشفاء في مدينة (لو با نولييه) بالقرب من (شامبون) من تفاقم داء التهاب القصبات التنفسية المزمن. كان يرغب في الاجتماع بالروائي المعروف والفيلسوف، ومؤخراً الكاتب المسرحي ذي الشهرة المتصاعدة. كان كامو قد بادر، منذ سنوات، إلى الكتابة عن الأدب الروائي لسارتر، وهذا الأخير كان نشر لتوِّه مقالاً مطوّلاً حول ما أصدره كامو من مؤلفات. كان لقاء وجيزاً أنا كامو، قال له. على الفور أدرك سارتر أنه شخصية محبَّبة جداً.».
وفي خضمّ النضال ضد الاحتلال النازي، تفوق كامو على سارتر، لأنه كان السبّاق إلى المقاومة. وقد استفاض الفيلسوف ميشال أونفري في السنوات الأخيرة، حتى قبل نشر كتابه حول كامو، في الحديث عن تعاون سارتر مع نظام الماريشال بيتان الموالي للنازية خلال سنوات الحرب الأولى، بحيث وقّع على بيان للمثقفين الفرنسيين، لرفض الحرب وقبول «فرنسا خاضعة للنازية، بدل حالة الحرب»، باسم السلام. وظل سارتر على ولائه لنظام فيشي إلى حين بداية المقاومة. وذكر أونفري: «لقد اكتشف سارتر نفسه مقاوماً في النهاية». بينما وقف كامو ضد النازية مبكراً، فترأس تحرير مجلة المقاومة «كومبا» (COMBAT)، وكتب لاحقاً رواية «الطاعون»، لاتخاذ موقف واضح من النازية.
برز سارتر عقب سنوات ما بعد الحرب، كمفكِّر يساري مؤثِّر، ومؤسِّس لتيار وجودي، كان بمثابة موضة مغرية للمثقفين، ونمط حياة، ومكان يدعى «سان جيرمان دو بري»، في قلب عاصمة الأنـــــوار، بينـــما أصبـــح كامو- حسب تحليلات نقّاد- تابعاً لسارتر، وواحداً من الكتّاب الوجوديين، رغم اختلافه مع الوجودية. لقد وُضع كامو في خانة التابع، رغماً عنه، وهو ما سوف يسعى للفكاك منه. ما أدّى به إلى قول مقولته الشهيرة: «لا أريد إلا شيئاً واحداً. وأطلب ذلك بكل تواضع، اقرأوني بانتباه شديد.».
لم تستمر العلاقة بين الرجلين على نهجها الصحيح، إذ وقع أول خلاف بينهما سنة 1947 بسبب مقال نقدي كتبه موريس ميرلو- بونتي حول «الوجودية والفينومينولوجيا»، ونشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان يديرها سارتر. اعتبر كامو المقال تحامُلاً على كتاباته، فغضب غضباً شديداً على صديقه.
وساءت العلاقة بينهما بسبب اختلاف وجهتي نظريهما بخصوص ما كان يجري في الاتحاد السوفياتي. لقد وقف كامو ضد الشيوعيين، وانتقد تجاوزات النظام السوفياتي، بينما أبدى سارتر تعاطفاً مع الحزب الشيوعي، مبرِّراً العنف والقسر، من أجل الغاية، حتى وإن أدّى ذلك إلى التضحية بالحرية، وانتهج كامو طريق الأخلاق، وتمسَّك بنصرة الحرية بصفتها وسيلة وغاية. وما أدركه كامو سنة 1947 بخصوص تجاوزات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، وتجاوزات «الغولاغ»، تأخَّر عنه سارتر، ولم يتوصَّل إلى كنه مغزاه إلا بعد حدوث المجازر التي ارتكبها الجيش السوفياتي في المجر سنة 1956 خلال الثورة المعادية للوجود الشيوعي، فقرر الانسحاب من الحزب الشيوعي.
لقد اتّخذ الخلاف بين سارتر وكامو صبغة مانوية خطيرة، تتحكّم فيها ثنائية الخير والشر، فبينما كان سارتر يرى أن الشر متجسِّد في النظام الرأسمالي، والخير كامن في الاشتراكية، سلك كامو نهجاً مغايراً تماماً. وبرز هذا الاختلاف الجوهري في خطاب كامو في استوكهولم أثناء تسلُّمه جائزة نوبل للآداب سنة 1957، وهو في الحقيقة خطاب موجَّه ضد سارتر، حيث قال إنه لا ينبغي على الكاتب أن يضع نفسه وأدبه في خدمة السياسي والحزبي أو الطبقي، بل في «خدمة أولئك الذين يلقي التاريخ بثقله عليهم». باختصار يجب ألا يضع الأدب نفسه في خدمة الأحزاب، بل في خدمة الإنسان، في خدمة ألم البشر وحريتهم.
ولما نشر كامو كتابه الشهير «الإنسان المتمرِّد»، سنة 1951، وجّه سهام نقده ضد من «يبرّرون القتل، وكل المثقفين المتواطئين مع الشيوعية»، وكان يقصد سارتر الذي تهجّم على صاحب «أسطورة سيزيف» عقب نشر الكتاب، واستغلَّ كاتباً شاباً لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين يدعى فرنسيس جيزون، ودفعه لكتابة مقال فاضح وتهجُّمي من إحدى وعشرين صفحة بعنوان «ألبير كامو.. الروح المتمرِّدة»، اتَّهم فيه كامو بأنه «كاتب رجعي». ووُجِّه المقال للتحامل على شخص الكاتب، أكثر من نقده للأفكار التي وردت في «الإنسان المتمرِّد». فردَّ كامو برسالة موجهة لسارتر (وليس لجيزون، وتصرَّف مثل من يدرك من أين جاءته الضربة) في حزيران/يونيو 1952. وبمقال تضمَّن نقداً لتصوُّر سارتر للشيوعية، وعدم قدرته على اتّخاذ موقف من العنف الذي تبنّاه صاحب «الغثيان» وردَّ سارتر بدوره بشكل منفلت، وكتب ما يلي: «لم تكن صداقتنا سهلة، وإن كنت سأفقدها. إذ أنهيتها اليوم». كما انتقد تخاذل كامو بشأن علاقته مع الثوار الفيتناميين ضد الاستعمار الفرنسي. واعتبر أن كامو يتمرَّد فقط ضد الموت، وليس ضد الاستبداد الذي يؤدي في النهاية إلى موت الإنسان.
قام سارتر بافتراس كامو وأراد التقليل من شأنه، رغم اعتباره أن النسيان «هو الوحيد الذي يضع حداً للخصومة بينهما». وأدلت سيمون دي بوفوار بدلوها، وتهجَّمت على كامو أيضاً في رواية بعنوان «المانداران»، وشاءت أن تصفّي حساباتها معه، بعد أن ردّها، ورفض أن تكون عشيقة له، قبل سنوات خلت. أراد سارتر تحطيم كامو وحقَّق ما أراد، إذ أصيب كامو بخيبة كبيرة، ودارت مواضيع قصصه خلال تلك الفترة حول العزلة والمعاناة والعقم الفني نتيجة لما تعرَّض له.
أصبح سارتر بعد بروز هذا الخلاف يتربَّص بكامو في الصالونات الباريسية التي خضعت له خضوعاً مطلقاً. فتبيَّن أن سارتر كان يكره كامو، وينظر إليه كوصولي جاء من الجزائر ليزعزع عرشه الفلسفي. وبلغت عداوة الفيلسوف (سارتر) للفنان (كامو)، أنه صرح قائلاً: «من يكون كامو؟ إنه فيلسوف الأقسام المدرسية النهائية». واعتبره، بمثابة ابن الهامش الفرنسي، القادم من المستعمرة، ونظر إليه كمجرَّد كاتب من الدرجة الثانية. وظل سارتر شيوعياً وستالينياً، وكان يردِّد «إنّ المناهض للشيوعية كلب». أما كامو فكان ينظر إلى الشيوعية باعتبارها مرضاً حضارياً، وكان ينعتها بالجنون.
كان كامو فناناً وفيلسوفاً، أما سارتر فكان صاحب مواقف سياسية، وكان حبيس تصوُّر حزبي يساري، وهو ما رفضه كامو الذي اختار الفن على حساب السياسة، وحين ألقى خطابه الشهير بأكاديمية استوكهولم سنة 1957، اعترف صراحة بخيبة المثقفين، وقال جملته الشهيرة: «نحن جيل غير قادر على إحداث التغيير». إنها الفكرة التي يستحيل أن يقولها فيلسوف متعالٍ مثل سارتر، المؤمن بقدرة المثقف على تغيير العالم.
عمقت الثورة الجزائرية، حِدّة الخلافات بين الرجلين، ذلك أن كامو وقع ضحية اليوتوبيا. وكان يدعو إلى تعايش جنسين متصارعين هما الأوروبيون والسكان الأصليون (الأهالي)، تحت العلم الفرنسي. لكن مع مرور الزمن، أدرك أن هذه اليوتوبيا مستحيلة. فأثناء عودته إلى باريس العام 1956، عقب محاضرة «السلم المدني» التي ألقاها بنادي الترقّي بالجزائر العاصمة، سأله سائق التاكسي الذي كان بصدد إيصاله إلى المطار «لماذا يكرهنا العرب؟»، فردَّ كامو بسؤال «وماذا فعلنا لهم نحن حتى يشعروا بالحب تجاهنا؟»، فصمت السائق، وكذلك كامو.. وكانت تلك هي طبيعته. فالرجل كان ميّالاً إلى فعل، لكنه سرعان ما يعود إلى صمته. بينما اعتبر سارتر العنف بمثابة الوسيلة الوحيدة من أجل القضاء على الهيكل البنيوي للنظام الرأسمالي الاستعماري. بيد أن كامو كان يردّ قائلاً: «وكأنه لا يوجد خيار غير ذلك، وكأننا إما أن نكون ضحايا أو نصبح قاتلين». ويواصل: «أصبح السارتريون يعتبرون العبودية نوعاً من الفضيلة».
وفي خضمّ الثورة الجزائرية كتب سارتر كتابه الشهير «عارنا في الجزائر»، وأنشأ أنصاره شبكات «حملة الحقائب» التي كان يديرها تلميذه فرنسيس جيزون (الذي سبق له وأن تهجم على كامو) لدعم الفدائيين الجزائريين. بينما اختار كامو الصمت بعد سنة 1957 حينما اتُّهم بأنه يفضل والدته على العدالة. وظلت الخصومة قائمة بينهما، إلى أن رحل صاحب «الأعراس»، فأثنى عليه سارتر ثناء كبيراً، وردَّد مقولته الشهيرة «لم تمنعني خصومتنا العابرة من تذكُّره بشكل مستمر». وفضل سارتر استعمال تعبير «خصومة عابرة»، للحديث عن خلاف جذري