15 نوفمبر 2013 بقلم
خالص جلبي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:مر العلم الجديد منذ مطلع القرن العشرين بسلسلة من الثورات والتحولات المثيرة، حيث تغيرت صورة العالم القديم والفكر القديم، وحالة العلم اليوم ليست في سرعة بل تسارع؛ فهناك تدفق مخيف لكم المعلومات، يحدث انقلابا نوعياً مع كل تراكم كمي جديد، على النحو الذي شرحه العلامة ابن خلدون قديماً، من أن التراكمات الكمية تقود في النهاية إلى تغير نوعي، وهو انتباه رائع دشنه في القرن الثامن الهجري، حين كانت الحضارة الإسلامية تنام على هامش التاريخ، ويضربها شلل اللافعالية.
لقد تمت اختراقات رائعة ومذهلة لفضاءات جديدة، قام بها العقل الإنساني بعد أن بدأت الحضارة الإنسانية تدخل طوراً جديداً؛ فلم تعد أوروبية أو صينية. وكان هذا تدشينا هائلاً وصلت إلى أعتابه البشرية.
والمثل على هذا، تطوير السلاح النووي المشؤوم الذي توصلت إليه أمريكا في مختبر (لوس آلاموس)، فلم يكن أمريكيا محلياً، بل كان نتاجاً عالمياً بالدرجة الأولى، حيث عمل في المختبر تيللر الهنغاري، وإنريكو فيرمي الإيطالي، وكيستاكوفسكي الأوكراني، وأوبنهايمر الأمريكي، وفوكس الألماني وستانسيلوف أولام الروسي... الخ.
لكن العلم، منذ أن كتب راسل كلماته عن العبثية ومستقبل الإنسان في عام 1902، مر بسلسلة مثيرة من الانعطافات النوعية، حيث وجهت ضربات مزلزلة إلى النظرية المادية القديمة.
كانت الأولى إلى المعقل الرئيس حقل الفيزياء، على أيدي مجموعة من رواد القرن العشرين، مثل آينشتاين ونيلز بور وفيرنر هايزنبرغ وأوتو هان وكارل فريدريك فون فايتسكر وهانس بيته وأوبنهايمر وانريكو فيرمي ولورانس وإدوارد تيللر وعشرات سواهم، حيث تم وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، الدخول إلى فهم أعمق للذرة، وبالتالي المادة والوجود المادي.
ثم أمكن إحداث انقلاب نوعي في إمكانية شطر الذرة على طاولة أوتوهان المتواضعة، وبذلك شطبت المسلمة القديمة (الآتوم) تلك الترجمة اليونانية للفظة الذرة، حيث لم تعد الذرة بعد ذلك الجزء الذي لا يتجزأ، بل أصبحت (الجزء الذي يتجزأ بدون نهاية على ما يبدو)، وللدخول إلى فهم أعمق للبناء الذري، وقفت فيزياء نيوتن عقبة في الطريق من خلال مفهوم (الزمان والمكان المطلقين)، فلم يعد هناك زمان مطلق أو مكان مطلق، بل يوجد (متصل الزمان والمكان)، وهو مصطلح جديد طرحته النظرية النسبية، التي طورها أينشتاين من خلال النسبية الخاصة والنسبية العامة، كلا على حدة في عامي 1911و1916 الميلاديين، وبذلك أمكن فهم الوجود بشكل انقلابي جديد، وترتب على النظرية النسبية أمورا تأخذ بالألباب، حيث أمكن فرز علاقة جديدة بين الطاقة والمادة، حيث صيغت علاقة الطاقة بالمادة على أن الطاقة والمادة هما صورتان لحقيقة واحدة، بل والدخول لفهم أو محاولة فهم قوى الوجود كلها ضمن قانون توحيدي واحد، حيث تنتظم الوجود الآن أربع قوى عظمى، وليس قوة واحدة، هي القوة الكهرومغناطيسية (بعد دمج الكهرباء والمغناطيس على يد ماكسويل في معادلة واحدة)، والجاذبية وقوى النواة الضعيفة والقوية؛ وبذلك أمكن الدخول إلى فهم قوانين الوجود الكبرى، وهذا يعني هدم جذري للبنى الفيزيائية التي سادت العصر السابق، مع كل ذيولها الفلسفية التي فسرت الوجود بالمادة البكماء العاجزة التي تفسر كل شيء حولها بما فيه الحس والعقل.
كذلك عجزت فيزياء نيوتن وأفوغادرو، وكيمياء لافوازييه وغيرها، عن تفسير البناء الذري، مع كومة المعلومات الجديدةـ مما عجل بتطوير (ميكانيكا الكم) الذي دشنه ماكس بلانك وفيرنر هايزنبرغ، وهي التي ترى أن عملية امتصاص أو ابتعاث طاقة ما لا تتم جملة واحدة، بل على شكل مراحل وموجات (طاقة)، كل منها عبارة عن حزمة من الطاقة تسمى (الكم).
ثم الطرح المرعب لنظرية اللا يقين في الفيزياء النووية، التي تمخضت عن نظرية ميكانيكا الكم، حيث لا يمكن معرفة، وبنفس الوقت، مكان الإلكترون وسرعته، حيث تشكل كل من ميكانيكا الكم في العالم الأصغر، والنسبية العامة في الكون الأكبر، المحاور الرئيسة للفيزياء الحديثة.
وتولد من هذا المزيج عالم جديد لم يره إلا جيلنا، حيث وصل العقل البشري إلى سقف القوة، إلى تملك قوى النجوم ولهيب حرارة الشمس بملايين الدرجات، كله بفضل الانقلاب النوعي العلمي، ودخول عالم جديد لم تعد فيه القوة العارية والفظة هي أسلوب الحوار، بل دخل الإنسان، وللمرة الأولى في تاريخه، منحى جديداً لبناء عالم جديد سلامي.
وبالطبع، هذا الحديث لنا عودة تفصيلية إليه فيما بعد، وهناك الآن عاصفة فيزيائية جديدة ليست في مستوى الذرة، بل في مستوى (الجزيئات دون الذرية)، حيث اعترض الكونجرس الأمريكي، قبل فترة، على مشروع يكلف (14) مليار دولار للوصول إلى المزيد من المعلومات حول الجسيمات متناهية الصغر، والتي تتكون منها جزيئات الذرة، وذلك من خلال تسريع الجزيئات الذرية في نفق خاص، ثم صدم هذه الجزئيات بعضها ببعض، لتحصيل ركام ينبئ عن مكونات دون جزئية أصغر مما هو معروف حتى الآن.
لقد وصلت العتبة الذرية، في الوقت الراهن، إلى مستوى الكوارك الذي يشكل ثلاثة منه بناء البروتون، الذي يشكل بدوره؛ أي البروتون مع النيترون، نواة الذرة، بعد أن عرف أن العالم الأصغر يمتد في صغره، أكثر مما كان متصوراً، من جسيمات الذرة وتوزيعها بين الإلكترون والبروتون والبوزيترون والنيترون.
والسؤال إلى أين ستمضي الرحلة في العالم الأصغر؟ وهل هناك عتبة سيقف أمامها العلم، أم أن التناهي في الصغر ليس له حدود تماماً؟ كما هو الحال في العالم الأكبر؛ عالم الكوسمولوجيا؟!.
هل ستمضي الرحلة باتجاه اللانهاية التي نعرفها في الأرقام، والآن نراها في العالمين الأكبر والأصغر؟؟
هذا هو طرف من طبيعة التحديات التي تواجه العلم الإنساني والعقل الإنساني.
لقد ذكر القرآن آيتين في المطلق عن مصطلح (كلمات الله)، سنذكرها بعد قليل. والقرآن الكريم له مصطلحاته الخاصة به، والتي تكرر نفسها وتعمق مدلولها بين الحين والآخر، وتتشابك وتترابط لتشكل بنى فكرية خاصة به، حيث يجب فهم القرآن على هذه الصورة الطبوغرافية التركيبية، وليس بالشكل المتناثر والذرات التائهة، التي لا يضمها خيط ولا يجمعها نسق، ولا ينتظمها قانون، وهو ما أشار إليه القرآن في لفظه (عضين)، (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)؛ أي أجزاء مقسمة وأعضاء مقطعة وأشلاء متناثرة.
نذكر مثلا في هذا، من عالم الكوسمولوجيا، عبارة (وجعلنا سراجاً وهاجا)، في حين جعل القمر (نورا)، مما يحمل إمكانية أنه متلق الضوء (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا). أو في البيولوجيا تكرار السمع قبل البصر دوماً (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، حيث يتقدم السمع على البصر دوماً، حيث إن الذي يولد أصما لا يستطيع النطق وتحصيل العلم، خلافاً للأكمه الذي يولد أعمى أو يصاب بالعمى في سن مبكرة، فهو يستطيع التحصيل العلمي على ما نعرف.
أو في السيكولوجيا، الحقل النفسي، حيث يشير بشكل دقيق إلى (إتقان العمل). القرآن لا يركز على كثرة العمل، بل على العمل المتقن (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، سواء في معرض الموت والحياة أو ترسيخ القيم الأساسية في الحياة (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)، (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور).
أو في المستوى السوسيولوجي الاجتماعي، عندما يتكرر مفهوم التحرير من الخوف جوعاً، والأمن الاجتماعي (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، قريش (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
أعود لذكر الآيتين؛ فالقرآن يترك العنان مطلقاً للتصور بين كمية هائلة من الحبر (المداد)، هي ليست في مستوى البراميل أو الأطنان، بل أحواض الحبر هذه ليست حتى بحرا واحدا، بل هي الأبحر السبعة للعالم، بل حتى لو تكررت (ولو جئنا بمثله مددا)، كما لو أن الأشجار الموجودة في العالم، لو أرسلت لمصانع إنتاج الأقلام وأخرجت أقلاما،ً تغطس في هذا المداد العجيب، ثم بدأنا في كتابة القوانين والسنن التي تنظم هذا الكون (كلمات ربي) مثل:
ـ الطاقة تساوي المادة المتحولة مضروبة في مربع سعة الضوء.
- الجينات التي تشكل الشفرة السرية للخلق هي ثلاثة مليارات، لا تستخدم كلها في التشكل الخلقي.
- الخلايا العصبية في الدماغ تتنضد فوق بعضها البعض في ست طبقات، تعتبر أعلاها مركز النشاط الواعي، وعددها مائة مليار، وهي الخلايا الهرمية.
- المجرة التي نعيش فيها تحوي من النجوم، من مثل شمسنا، أو ما هو أكبر حجماً، وأشد حرارة، وأعم سطوعاً وتألقاً، ما يصل إلى مائتي مليار نجم.
- يعتبر الفيروس حلقة الوصل بين الجماد والحياة، ولا يرى إلا مكبراً وبعشرات الآلاف من المرات.
- يبلغ طول الأوعية الدموية في الجسم الإنساني حوالي مائة ألف كم.
- إن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة، مع عدد الإمكانات المتكافئة المزدحمة.
أقول، سوف تنتهي الأقلام وتفنى، وسوف يجب الحبر وينضب، وتبقى كلمات ربي لا تنتهي (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي)، (ولو جئنا بمثله مدداً)، (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير). وبعد، فهذه غرفة أولى وجرعة بدائية لهذه الرحلة المثيرة، مع العلم في خطواته الجريئة الجديدة.