واسيني الأعرج
July 14, 2015
النظام العالمي الجديد يفرض سلطانه اليوم بقوة على عالم عربي شديد الهشاشة، وكل مؤسساته رخوة ونظم حكمه تقليدية، تقف بينه وبين أية إمكانية للتطور والخروج من التخلف. ولم يفعل النظام الدولي إلا على تعميقها وتسريع وتيرة انهيارها.
لا يمنع هذا وجود ترتيبات دولية خاصة بالعالم العربي، بوصفه مساحة للثروات العالمية الضرورية لحياة الاقتصادات الغربية، أوروبية كانت أو أمريكية. انهيار النظم الجمهورية أو ما اصطلح عليه كذلك، يدفع إلى الكثير من التأمل. فقد تفككت داخليا لأسباب مرتبطة بآليات الحكم والتسيير، وشيوع الفساد في كل القطاعات، وتسيد الأنانيات السلطوية التي جمعت الثروة الوطنية في كف مجموعة هي أقرب إلى المافيا منها إلى مجموعة اجتماعية متجانسة يهمها التوزيع العادل للثروة الوطنية. هذه الممارسة لم تسمح أبدا بخلق نموذج حكم عربي جمهوري ديمقراطي، يأتي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، ويقبل بالتداول على السلطة كخيار استراتيجي. المعارضة تشبه الحاكم في تسلطه. ترفع الشعارات الكبيرة وهي خارج السلطة لكنها بمجرد أن تصبح داخل آلياتها تفكر بعقلية النظام نفسها.
كثيرا ما يربط هذا التسلط بالنسبة للجمهوريات العربية بالنظام السوفيتي السابق ونموذجه الثابت الذي ظلت تدور في فلكه. هذا النظام لم يفعل الشيء الكثير في بنية النظام السلطوي العربي، ولكنه زكى ترسخه في عمق الحاكم العربي وفي علاقته المرضية بالسلطان. فهو في اللاشعور الفردي والجمعي، امتداد لسلطة الفرد والعائلة والقبيلة. الدولة تصبح قبيلة، والحاكم رئيسها، الذي يحميها ويضمن مصالحها وحدودها أيضا. عقلية ترسخت حتى أصبحت قاعدة لم تشذ عنها أية دولة عربية. أنظمة الحكم كما عرفها التاريخ الإسلامي في فترة الفتوحات، لم تخرج أبدا عن هذا المنطق الذي جعل الحاكم يستمر القرن أو ما يقاربه، وتستمر الدولة أو شبيهها، بعده، من خلال أهله وذويه.
لهذا ليس غريبا أن يموت الحاكم العربي ملتصقا على كرسيه.
كان من ثمرة ذلك، انفصال كلي بين الحاكم والمحكوم، ويأس شعبي يصل حد القنوط، والدخول في عدمية لا أفق من ورائها إلا الإرهاب، أو الجريمة السياسية. أصبحت مجابهة الديكتاتور العربي أكثر من ضرورة داخل مجتمعات عربية وجدت نفسها وجها لوجه أمام حائط يصد أي حركة إلى الأمام.
في المقابل، رُبِطت أي مواجهة للديكتاتورية، بمعاداة الوطن وكأن الوطن اختزل كليا في شخصية الديكتاتور. هذه الأرضية الخصبة للموت الفجائعي والتخلف، منحت فرصا غير مسبوقة للنظام العالمي الجديد – القديم ليستعمل سلطانه للتدخل بالنفوذ أو بالقوة العسكرية وبغطاء أممي أو بدونه، في ظل قطبية أحادية مقيتة كل ما يهمّها هو الاستيلاء على الخيرات وضمانها من طمع القوى المنافسة له والصاعدة التي يمكن أن تهدده غدا، مثل الصين وروسيا والهند مثلا. بالضبط مثلما حدث في الحرب العالمية الثانية بين محور يحاول السيطرة على الخيرات الاقتصادية، وحلفاء في وضع دفاعي. العلاقات بين الأمم تتحدد بالمصالح وليس بالعواطف. عندما ظهرت التيارات الرافضة للنظام الديكتاتوري ومنها التيارات الإسلاموية، تسابق النظام الدولي الجديد لاستيعابها وتدريبها عسكريا وتهيئتها لمستقبل هو من صنعه لها.
لا عداوة في الجوهر بينه وبين الإسلاموية كما يبدو ظاهريا. فقد منحته هذه الحركات الدينية كل سبل التدخل التي كبّلت العالم العربي بكل وسائط الإعاقة. قامت بما لم يقم به الاستعمار التقليدي نفسه: تدمير الدولة الوطنية كقوة ناظمة. تخريب البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية، لهذه البلدان التي شيدت بالمال العام، على مدار عشرات السنين. تمزيق الأرض الواحدة بعنف على أساس عرقي إثني أو لغوي أو طائفي، وهو ما سيمنح المزيد من التبعية لهذا النظام الدولي، والاستمرار في الانهيار الذي لا يمكن تفاديه لأنه، أولا، هناك غياب كلي للدولة أو بقاياها. ثانيا، الغياب المفجع لأي توافق وطني تكون المصلحة العليا هي هاجسه. ثالثا، تعمق الهوة الاجتماعية بين مختلف طبقات الوطن الواحد. الأمثلة كثيرة.
أمامنا اليوم العراق الذي تمزق في البداية قوميا، بين العربي والكردي في ظل صراعات نفطية خفية. ثم أصبح التمزق طائفيا، شيعيا وسنيا، وغيرهما من التشظيات الصغيرة وتهجير نهائي لمسيحيي الشرق، بسبب الخوف والتشجيع الغربي، والذين شكلوا عبر الحقب التاريخية توازنا ضد انغلاق هذه المجتمعات على نفسها. أخيرا الصراع بين آلة الجرف والتقتيل الداعشية وبقايا الدولة التي تحاول أن تلملم أطرافها المتناحرة لمحاربة العدو الأكبر الذي ليس غبيا أبدا. فهو يملك إستراتيجية معقلنة وليست غبية. فقد استولى على منابع الثروة التي تربطه برأسمالية متوحشة تهمها مصالحها بالدرجة الأولى. ثم توجه نحو تدمير الميراث الحضاري الإنساني الذي يربط الشعوب العربية بتاريخها الإنساني. وكأنه يتم حشر العرب في دائرة منغلقة لدرجة أن يفنوا بعضهم بعضا، داخل حرب صامتة لا تخرج إلى الخارج إلا لتنبئ بتوحش غير مسبوق ويسترخص الدم العربي نهائيا. سوريا لا تخرج عن هذه الدائرة للأسف. فهي ضمن الحالة نفسها من التعقد، بين ثورة لم يتحقق منها أي شيء، وطوائف متصارعة في السر والعلن، السنة، الشيعة، العلوية والمسيحيين أيضا، الذين لا يشكلون اليوم وحدة متجانسة بعد أن نزعت منهم قوة المبادرة العقلانية والعلمية التي كانت لهم في القرن التاسع عاشر ودورهم التنويري. ناهيك عن الصراع القومي بين الأكراد في الشمال والعرب والقوميات الصغيرة الأخرى المشكلة للتاريخ السوري. هنا أيضا تشكل الآلة الداعشية وسيلة تدميرية لم يسبق لها من وجود مشابه. صراعها من أجل السلطة النهائية وتدمير سورية الحضارية وخلق سوريا أخرى لن تكون سوى رماد وتخلف وأحقاد ستستمر قرونا متتالية. ليبيا تستعد لخوض حرب لن تنتهي بسهولة إلا إذا حققت مطالبها المسطرة لها في الخفاء. عادت إلى نظامها القبلي القديم، وليست السياسة إلا الغلاف الخارجي الذي تمر عبره التجاذبات القبلية والحسابات الدولية. الخيرات النفطية يتم ترتيبها لتكون في أيدي من يدينون بالولاء للشركات الرأسمالية العابرة للقارات. اليمن أيضا يخط طريق الدم العبثي. أجل الحرب الأهلية قبل أن يغرق فيها نهائيا بسبب الحسابات الضيقة محليا وعربيا. الحوثيون يدمرون ما بقي واقفا بعد القاعدة، والحرب العربية العربية، مهما كانت وجاهة أسباب خوضها، تقضي في النهاية على البنية العسكرية والمدنية اليمنية في النهاية. ومصر، بعد تعقد الوضع الأمني، بدأت تدخل في دوامة خطيرة تنذر بحرب مفتوحة بين المؤسسة العسكرية من جهة، والإخوان المسلمين وداعش، وهو ما يذكر ببدايات الدوامة الجزائرية التي استمرت عشر سنوات، لم ترث منها البلاد إلا الرماد والتمزقات الداخلية والتشرد، وأكثر من 200 ألف ضحية. وبنية اقتصادية وصناعية حولت إلى رماد.
لم يعد خفيا أن واحدة من أهمّ سياسات النظام الدولي الجديد هي إشعال النار وتركها تتسع، والتدخل من حين لآخر لضبط الأمور، بمناصرة هذا ومعاداة ذاك، لتستمر الحرب بدون غالب أو مغلوب. كر وفر وموت وحرق يومي. من يتذكر اليوم الصومال الذي يعيش حربا أهلية لم تبق فيه شيئا؟ فقد كان قوة اقتصادية أفريقية في السبعينيات؟ العرب الذين يبددون كل خيراتهم، يعيشون اليوم حالة صوملة، يرسخون لبناتها في كل لحظة قبل أن تصبح حقيقة نهائية.