12 أغسطس 2014 بقلم
حسن أوزال قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:في علاقة الفرد بالتاريخ من منظور نتشه*
"إن التاريخ يخص قبل كل شيء آخر، الإنسان المبدع والقوي، ذاك الذي يشن حربا ضارية، باحثا عن نماذج، كما عن مُوَجِّهين ومَنْ هُم أجرأ على المواساة، فلا يفلح في العثور عليهم ضمن رفاقه ولا في الزمن الحاضر" نتشه.
لعل أية مقاربة تاريخية لمفهوم الفرد، تكاد لا تستقيم دونما استحضار التاريخ كحرب وصراع؛ أي كدينامية ضرورية على أساسها نشأ الإنسان ومعه الحضارة. هكذا أسس ماركس مثلا علم التاريخ، عندما كشف عن أن تاريخ كل مجتمع حتى أيامنا هذه، إنما هو نتاج تناقضات طبقية، اتخذت في كل عصر، أشكالا مختلفة
[1]؛ وهو كحركة موضوعية موسوم بالحتمية ولا يخضع لإرادة الناس. فالصراع الطبقي بحسب ماركس آيل إلى مبتغاه بفضل انتصار محتوم للبروليتاريا على البرجوازية. تبعا لذلك، تكون الماركسية قد فكرت في الإنسان ليس من حيث هو فرد، بل من حيث انتسابه إلى أحد القطبين: البروليتاريا أو البرجوازية. فالمجتمع الذي حلَّلَه ماركس في الرأسمال لا يَتكوَّن من أفراد، إنما هو تراتب طبقي وتكتلات بنيوية، بل حتى الرأسمال ذاته، فهو ليس نتاج قوة فرد، أكثر مما هو نتاج قوى اجتماعية
[2]. بديهي، بالتالي أن ماركس، لايستحضر الإنسان إلا باعتباره جماعة وبروليتاريا بالأساس. جماعة هو من يناديها في البيان الشيوعي بالعبارة المشهورة "يا عمال العالم اتحدوا"
[3]. لكن إذا كان واضحا أن الخطاب الماركسي، يدعو إلى الوحدة والتكتل، التجمع وربط الأوصال، فبخلافه تماما نعثر لدى أحد فلاسفة القرن التاسع عشر الذي هو نتشه، على نصوص تكاد تكون مُفكِّكة كليا للمشروع الماركسي. ذلك أن نتشه، رغم أنه لم يقرأ ولو سطرا واحدا سواء لماركس أو إنجلز، كان أشد نقاد الماركسية والاشتراكية شراسة، وهو ولئن مَثُلَ كعدوها اللاعقلاني من ناحية، فهو من ناحية ثانية، يكاد يعتبر أكثر ماركسية من ماركس ذاته، ويبقى مع ذلك، مناصرها سواء كمؤسس للفلسفة الارتيابية أو المادية. فلا عجب، إذن أن ينتقد الرأسمالية ومشروعها التاريخي، مثلما فعل ماركس، مع أنه، بخلافه يسترسل إلى حد انتقاده أيضا لمنتوج الرأسمالية الحداثوي ذي النزعة الأداتية العقلانية، متصورا الحداثة الرأسمالية كسجن للفكر وحاجز ضخم في وجه الحياة·، سيما مع انتصار قوى الارتكاس وسيادة العدمية.
وبينما يؤكد ماركس،في البيان الشيوعي، أن الجماهير هي التي تصنع التاريخ، يرى نتشه أن العظماء هُمْ مَن يصنع التاريخ، لكن ليس لوحدهم بالطبع، بل بمعية الجماهير. وإذا كان الفكر الماركسي السياسي محكوما بالجدل المادي الذي هو أساس حركية التاريخ بمطلقاته المختلفة؛ فذلك ليس إلا لأن المثال المنشود، بالنسبة لماركس محكوم بالحتمية الاقتصادية، وقابل للتحقق كفكرة ما أن يسمح الواقع بذلك. يقول في المقدمة الثانية المرصودة لكتاب رأس المال، المنشور سنة 1873: "إن منهجي الجدلي ليس يختلف عن منهج هيجل فحسب، بل هو نقيضه كليا؛ فإذا كان هيجل يعتقد أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس إلا الصورة الظاهرية للفكرة ؛ فأنا أعتقد بخلافه، أن حركة الفكر ليست إلا انعكاسا لحركة الواقع التي تجلت في ذهن الإنسان".
[4] وبهذا القلب للهيجيلية يروم ماركس، التخلص منها، بدعوى أنها ضرب من ضروب الطوباوية، تنفي الواقع وتمجد الوهم والخرافة ؛ مُسَلِّمة بأن الفكرة وحدها هي النموذج الأمثل الذي ليس على الواقع أن يقتفي أثره فحسب، بل عليه كذلك أن ينطبق معه تمام الانطباق. ولكن مع هذا النقد الماركسي، لـ"مكر العقل" الذي جعله هيجل ليس فحسب، أساس قيام التاريخ، وميلاد الحقيقة البشرية، بل أيضا أساس انبثاق الحقيقة الكونية المتعالية التي معها أضحى الإنسان مَهْمَا عَظُم شأنه مجبرا على الانصياع لمشيئتها، قُلْتُ مع ذلك، يسقط ماركس بدوره في نزعة اختزالية اقتصادية، سرعان ما اتضح إخفاقها خاصة مع إخفاق نبوءتها بالانهيار الحتمي للرأسمالية. أخفقت، لأنها انتصرت لنزعة تفاؤلية، تستند إلى لعبة الخلاص، مؤمنة بتحقيق الجنة فوق الأرض (مجتمع شيوعي بلا طبقات، تغمره السعادة الأبدية). وبدل هذا المنظور التفاؤلي يجيء منظور نتشه التراجيدي. الفرق بين الاثنين، يتجلى في كون الحكمة التراجيدية، تجعل صاحبها يقبل بالأمر الواقع كما هو، فيستعد للتعامل مع الحياة على نحو ما تأتي لا على نحو ما يريد ويتمنى. التراجيدي بهذا المعنى لا يتفاءل ولا يتشاءم. لماذا؟ لأنه يعرف أن التفاؤل، يقضي بأن نعيش حقيقة مستقبلية، حَالِمَة نعم، لكن غير موثوق بتحققها. لذلك، فالمتفائل غالبا ما ينتهي بالإحباط، ويصاب بالتذمر. أما المتشائم، فهو بدوره من يشتم حياته طولا وعرضا ومنذ البدء؛ مادام محكوما بالخطيئة الأصلية، تلك التي بموجبها غدا الوجود مذنبا، واعتُبِرَتِ الحياة مجرد كفارة وعقاب. في خضم هذا التصور التراجيدي للوجود إذن، نلفي عند نتشه، منظورا للتاريخ، مزدوج: فالتاريخ عنده إذ يمتثل من ناحية أولى كعلم ومعرفة، فهو من ناحية ثانية ينتصب كذاكرة حية. أما كمعرفة، فيقوم على قيم ثلاث، هي: الحقيقة؛ فالموضوعية ثم العدل. أما كذاكرة، فيحيل إلى تلك الخصال السيكولوجية والأخلاقية الضامنة لتوازن هذا الكائن الحي المتميز بالوعي. فضلا عن ذلك، يبقى أن فرادة منظور نتشه، تتجلى أكثر ما تتجلى في كون التاريخ بالنسبة له، أشد ارتباطا بمسألتين اثنتين هما: مسألة الحياة ومسألة الحقيقة. ليس هذا فحسب، بل إن الرجل وهو الأهم، لا يولي المسألتين المرتبة ذاتها، على اعتبار أن التاريخ كقيمة حيوية أرقى لديه منه كقيمة حقيقية. ذلك، أن المعرفة بنظره، مهما بلغ شأنها، ومهما كانت موضوعيتها، ينبغي أن تكون دوما في خدمة الحياة لا العكس. فالحياة هي التي تَحْكُم، بينما المعرفة تَخْضَع وتَخْدُم. في توطئنه لـ"اعتبارات في غير أوانها الثانية"، بعنوان أهمية المعرفة التاريخية بالنسبة للحياة ومساوئها يكتب: "إني قبل كل شيء آخر، أكره كل ما لا يعمل سوى على تعليمي، دون أن يزيد من قَدْر حَيَوِيَّتِي أو أن يُحَمِّسها مباشرة " تلكم يؤكد هي أقوال "غوته" التي يمكن أن نفتتح بها... اعتباراتنا حول جدوى ولا جدوى المعرفة التاريخية."
[5]الملاحظ، استئناسا بهذه العبارة، أن ثمة مشكلة تستلزم، الحيطة والحذر، هي مشكلة "الإفراط في المعرفة التاريخية"؛ على اعتبار أن هذا الإفراط هو ما يؤدي إلى فقدان التوازن الضروري بين الثقافة والحياة. جراء ذلك، يقترح علينا نتشه التحلي، بالأحرى، بنوع من الحس اللا تاريخي le sens anhistorique الذي يعتمد على ملكة النسيان، خلافا للحس التاريخي le sens historique، القائم على الذاكرة. وتفصيلا لمساوئ المعرفة التاريخية ومنافعها، يسترسل، مقسما التاريخ إلى ثلاثة أصناف هي على التوالي: "التاريخ التذكاري، التاريخ الأثري ثم التاريخ النقدي" ليقابل، بعد ذلك، الأصناف الثلاثة، بثلاثة نماذج بشرية: وإذا كان التاريخ التذكاري، يناسب المبدعين والفنانة أي كل أولئك الذين يرجعون إلى الماضي بحثا عن مثال يقتدى للتصرف على نحو عظيم؛ فالتاريخ الأثري، يعني أولئك الذين يمجدون الحاضر مُنَقِّبِين عن جذوره العميقة والضاربة في القدم، وهم من ثمة يخدمون الحياة المحافظة. أما التاريخ النقدي، فيخص الثوار الذين يرمون إلى تجاوز الحاضر، بانتقادهم لكل أشكال الحياة غير العادلة، وهم من ثمة يخدمون حياة إصلاحية. وبقدر ما هو التاريخ التذكاري كما الأثري، يُفْرِط في تقدير الماضي، وينتهي إلى التنكر للعظماء الذين هم قيد التشكل، والذين بالرغم مِنْ فَرْضِهم لذواتهم لا يُلْتَفَتُ إليهم من لدن المعاصرين، بقدر ما هو التاريخ النقدي أكثر تنكرا للأصول المتجذرة في الماضي، مفضيا إلى التأسيس لطبيعة ثانية أكثر وَهَنا ومرضا من القديمة التي تتمتع بالشرعية التاريخية. على هذا النحو، يخلص نتشه، إلى أن ثمة خمسة أعراض تَسِمُ المرض التاريخي الذي لحق الثقافة الألمانية، وهي: ضعف الشخصية؛ وَهْمُ الموضوعية وادعاء العدالة؛ انعدام النضج ثم اليقين بأننا على مشارف نهاية التاريخ. هكذا، يواصل تساؤلاته دونما كلل، معيدا النظر في كل شيء، معتبرا أن الفرد، في المجتمع الأمثل عدالة، إنما هو من يستعيد ذاته ويشعر بنوع من الحرية التلقائية في أنشطته، خارج مجال الثقافة المريضة. ثقافة، عملَتْ منذ بدايتها، على محاربة الطبيعة، إذ بدل أن تمنح الإنسان القوة والسرور والنشوة، عرقلت فيه زخم الحياة وملأته حزنا وانكماشا. كل ذلك، حدث طبعا، جراء سوء فهم التاريخ، الموسوم بالديناميكية والحركية لا الثبات والسكون. ذلك أن التاريخ حرب دائمة ليس فحسب، بين القوي والضعيف، الصحيح والمريض، السيد والعبد، وإنما أيضا بين المرء ونفسه. من ثمة؛ فالحاذق هو من يجعل من عتاده سلاحا ليس يوجَّه ضد الخصم فحسب، بل وهذا هو الأهم، ضد الذات أيضا، مما يفترض أولا العزلة، وثانيا خلق المسافة الضرورية مع الغوغاء الذين يسعون إلى أن يشكلوا الأغلبية، مواجهة للأشخاص الأقوياء، وتصديا للمتحررين من كل الأحكام القبْلية. أولئك الذين ينطوون في نظر المجتمع على "أخطر الأخطار: التفرد"
[6]. بديهي إذن، أن يسود المجتمعات المعاصرة، نوع من الخوف من كل ما هو فرداني، مادام أن إستيطيقا العيش كفرد، هي ما يخلخل بنى السلطة، حيث يغدو الجسد الذي هو محور الصراع أكثر تحررا وانفلاتا من عمليات التشييء والتطويع التي تطاله. وجراء، ذلك أيضا، كان تاريخ الفرد، تاريخ تصنيفات باتولوجية، تروم النيل من حرية الأشخاص، حتى يضحى كل واحد منهم كبش فداء للجماعة والدولة، يخدمهما اقتصاديا ويطيعهما سياسيا. بهذا المعنى، أيضا، نفهم لماذا اعتبرنا نتشه أكثر ماركسية من ماركس ذاته· ذلك أنه حيثما يقصد ماركس تفكيك آليات تراكم الرأسمال، كفائض قيمة، يدعو نتشه علاوة على هدم الرأسمال إلى تفكيك التكتلات العمالية، حتى نعيش منعزلين، فنستطيع من ثمة أن نحيا لذواتنا؛ أي أن نكون شعراء حيواتنا، وفي نشدان دائم لِمَا هو عظيم ومتسامي. مما يستدعي بالتالي الوعي بهذا الوضع الذي يحتله كل منا في الوجود، والمتمثل في كون الإنسان، صدفة ومجرد طارئ صغير، لنقل ذرة أو حتى لا شيء. فمقابل وجودنا القصير، والبسيط، والممتد ما بين عدمين (الميلاد والموت)، ثمة عظمة الكون التي هي أشبه ما تكون بملحمة هوميروس. ملحمة غالبا ما تُخلِّف فينا نوعا من الإحساس المتميز، والشعور الخاص: هو ما يدعى بالمتسامي. إنه شعور بالنضج، ينتابنا حالما نفهم معنى الوجود، بل ونكون على وعي بضرورة القبول بالعالم، وحبه كما هو، ليس طبعا إبقاء لدار لقمان على حالها، وإنما بناء للذات كإنسان أعلى. وهاهنا مرة أخرى، نكون في حاجة للأخلاق. لكن ليس أية أخلاق، بل أخلاق الإنسان الأعلى التي تساوي رياضيا أخلاق الإنسان، ناقص التعالي والمثال الأعلى الزهدي. وبإجراء هكذا معادلة، نكون قد خلَّصنا الحضارة البشرية من غريزة الانتقام، والوعي الشقي، مشَيِّدِين التاريخ على مبدإ يقر بالحتمية الأنطولوجية لإرادة القوة. ولئن كان الأمر كذلك، فليس إلا لأن فيلسوف المطرقة، يرغب في الخروج من العدمية ونزعة التشاؤم السائدة، عبر الاستطيقا والفن. وفي خضم هذه المهمة الموكولة للفيلسوف الفنان، يلعب الإنسان العظيم دورا مهما وحاسما للغاية؛ ذلك أن الإنسان العظيم، ليس نموذجا في التاريخ، بل هو استثناء. استثناء يقتضي التخلص من غريزة الانتقام التي على إثرها انقسم التاريخ البشري، قسمين: تاريخ ينبني على منظومة أخلاق ما قبل الذل وآخر يقوم على ما بعدها. الأولى هي أخلاق الأسياد بينما الثانية أخلاق العبيد. الأولى أخلاق الأرستقراط الذين من شيمهم القبول والموافقة على ما ينطوون عليه من إرادة قوة، ساعين إلى إثبات الحياة بكل ما فيها من سلبيات أو إيجابيات. أما الآخرون، فلا يعرفون إلا النفي ورد الفعل. وبما أن لا ميزة ولا كفاءة لديهم، فهم أكثر ما يتميزون بالكم والعدد الذي بفضله يشكلون الأغلبية. أغلبية لا تنتصر لقيم التصاغر، وتصد كل فضائل النبل المميزة للأسياد، فحسب، بل تعمل جاهدة على قلب القيم، حيث يضحى كل ما هو خير بالنسبة للأقوياء شرا في أعين العبيد، والعكس صحيح. لكن ما الخير حقا؟ "إنه يؤكد نتشه، كل ما ينمي في الإنسان الشعور بالقوة، بل القوة نفسها. أما الشر؟ فهو كل ما ينحدر من الضعف. وما السعادة؟ إنها الشعور بالقوة، وهي تزداد-و بأن عائقا ما قد تجاوزناه".
[7]على هذا النهج يتبدى إلى أي حد هي الحياة في حاجة للتاريخ ؛ تاريخ تضحى معه المعرفة خادمة للإنسان، والحقيقة أفقا لتجلي السعادة البشرية لا العكس. ذلك أن فقدان الحياة، وضعفها، مرضها ووهنها، يعني فقدان التاريخ ذاته؛ لأن لا تاريخ دونما إنسان، وكل إنسان يتحدد بما يأتيه من أفعال فالإنسان هو عمله بتوصيف سارتر، موضحا بأن "لا عبقرية غير تلك العبقرية المعبَّر عنها من خلال الأعمال الإبداعية: إن عبقرية بروست هي مجمل أعمال بروست الإبداعية، كما أن عبقرية راسين هي مجموع تراجيدياته؛ وخارج ذلك، فلا شيء يوجد"
[8]. لنقل بتعبير آخر، إن تاريخ البشرية هو تاريخ عظمائها أولئك الذين أبدعوا وأنتجوا وعاشوا منفردين، ومنعزلين عن لغط الجماعة. من ثمة، أليست الحقيقة التاريخية هي حقيقة الأفراد لا الجموع؟ أليس التراكم التاريخي، حصيلة أولئك الذين فرَّقَ بينهم المجتمع وجمعتهم العزلة؟ أولئك الذين أدركوا أن إرادة القوة هي حقيقتنا التاريخية، وما علينا إلا أن نحبها كإرادة سعيا وراء سعادة قصوى.