04 أغسطس 2013 بقلم
مولاي احمد صابر قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:سبق للمفكر الباكستاني فضل الرحمن (ت 1982م) أن تساءل قائلا: لماذا لم نستطع في الفضاء الإسلامي أن ننتج وأن نبلور شيئا اسمه الكوزومولوجيا؛ أي الرؤية الكلية التي تصحب معها البعد التركيبي،[1] والتي قد يطلق عليها البعض المنظومة الرؤيوية الفلسفية في الإسلام. يرى فضل الرحمن كون فلاسفة الإسلام والمتكلمين والأصوليين... وغيرهم، لم يوفقوا في تقديم تلك الرؤية الكلية. ويرجع السبب في ذلك رغم اتساع تأملاتهم وأفقهم الفلسفي، إلى كونهم جاءوا إلى فهم وتأويل القرآن، وهم محملين بتصورات وآراء من خارجه، وبهذا الشكل فرضوا على القرآن تصورات لم يقل بها ولا تتماشى مع خلفيته ونظرته للعالم والإنسان، ولم يعكف أحد منهم على إظهار نظرة القرآن وتصوره من داخله، وسقطوا بذلك في إشكال منهجي مفاده التعاطي البراني مع القرآن.[2]
لقد خلف لنا هؤلاء المتقدمين الذين علق فضل الرحمن على جهدهم تراثا كبيرا، وقد بذل رجال الفكر والمعرفة، خاصة منذ ستينيات القرن العشرين، جل جهدهم في العمل على قراءة هذا الموروث الثقافي الإسلامي قراءة علمية. طمعا في خروج العقل المسلم من دائرة الإتباع والتقليد والقداسة في نظرته للتراث. إلى دائرة الوعي والنظر الذي يحصل معه استحضار البعد الاجتماعي والسياسي والثقافي الكامن وراء تشكل الموروث الثقافي الإسلامي؛ أي العمل على فهم ذلك الموروث كمعطى نسبي تسري عليه عملية التجاوز إلى غيره من الأفكار والتصورات المعاصرة.
ومن المعلوم أن المفكرين العرب قد تباينت منهجياتهم وآلياتهم في التعاطي مع قراءة الموروث الثقافي الإسلامي، إلى درجة التعارض بين وجهات نظرهم ومقارباتهم العلمية التي تحولت إلى مشاريع فكرية كبيرة عند البعض منهم، وهذا يرجع لطبيعة الموقف المنهجي الذي اتخذه كل مشروع من التراث وإلى المنطلقات الفكرية لكل مشروع وفقا للسؤال المركب: هل ننفصل عن التراث أم نتصل به أم الأمرين معا؟ وما القضايا التراثية التي يمكن أن نستعيدها في الوقت الحاضر؟ وما هي القضايا التراثية التي ينبغي أن نقاطعها؟ فالإجابة بالفصل أو الوصل يلزمها سؤال كيفية ذلك الوصل أو الفصل.
هذا الإشكال المعقد جعل المفكرين العرب مختلفين أحيانا من داخل التراث نفسه، فما يراه البعض صالحا من التراث ينفيه البعض الآخر. والمنهج الذي يرى البعض نجاعته في فهم التراث وقراءته، يرى فيه البعض غير ذلك. وهذا ما مكن من تشكل مشاريع فكرية على نقيض التي سبقتها. شيء واحد يمكن أن ندعي أن مشاريع الفكر العربي الإسلامي المعاصر تتفق حوله بشكل عام، هو ضرورة العمل على تفكيك وتحليل موروثنا الإسلامي. طبعا لا نستحضر هنا القراءات التراثية التي تكرر التراث بشكل جامد.
لقد حاول مجموعة من المثقفين ذوي النزعة الماركسية توظيف آليات الفكر الماركسي في قراءة الموروث الثقافي الإسلامي، وعلى رأس هؤلاء، نجد المفكر اللبناني المعروف حسين مروة ( 1908-1987م )، ومن أهم كتبه "تراثنا كيف نعرفه"، وكتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وهو يطمح من خلال هذا الكتاب ليكون أول مشروع متكامل لقراءة التراث بوصفه في إطاره الكلي من أجل هدف نضالي وعملي معلن، هو دفع التوجهات الثورية لمحتوى حركة التحرر العربي في لحظتها الحاضرة[3].
إن حسين مروة، وهو يفكك التراث، سعى جاهدا لجلب كل ما هو ثوري منه أو وصف ما يتماشى مع طرحه الأيديولوجي بوصف الثورية، ليثبت بأن النزعة المادية - بالقول بأسبقية العالم المادي على الوعي - متأصلة في التراث وممثلة في ما هو علمي وعقلاني، ومن الراجح أن الحسين مروة، وهو يقوم بقراءته للتراث، يرى في الفكر الماركسي النموذج التركيبي البديل. وقد انتقد محمد عابد الجابري هذه القراءة ووصفها بالقراءة السلفية الماركسية، لاعتمادها مقياس الصراع الطبقي في فهمها للتراث وعمل على تجاوزها من خلال كل ما كتب. ونفس الشيء يصدق على القراءة ذات النزعة الليبرالية التي تنظر للتراث من خلال الحاضر الأوروبي.
كان هم محمد عابد الجابري التقرير في سؤال، كيف يمكن أن نقرأ التراث قراءة يحضر فيها الفصل والوصل معا؟ الفصل بقراءة التراث من خلال محيطه الخاص الذي ظهر و تبلور فيه، و الوصل بأن نجعل المقروء من التراث معاصرا لنا على صعيد الفهم و المعقولية، بنقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ قصد توظيفه في إغناء ذاته وبنائها.[4]
لقد حاول من خلال ثلاثية نقد العقل العربي، أن يقدم قراءة علمية للتراث تجعل منه تراثا مساهما في بناء ذات الإنسان العربي بشكل خاص والمسلم بشكل عام. ومن بين ما خلص له الجابري في قراءته لبنية العقل العربي كونه يتشكل من ثلاثة نظم معرفية، أولها النظام المعرفي المرتبط "بالبيان" المتشكل في علاقته بعلوم اللغة وعلم الأصول... والنظام المعرفي الثاني المرتبط "بالعرفان" المتشكل في علاقته بعلوم التصوف وكل ما تحكمه النزعة الباطنية... والنظام المعرفي الثالث المرتبط "بالبرهان"، المشكل في علوم الفلسفة وكل العلوم العقلية التي تأخذ بالبرهان. فهذا التقسيم في مجمله لا يخرج عن سياق عملية التفكيك، قولا بثلاثية العقل العربي" البيان والعرفان والبرهان"، إذ هذه البنيات ربما يصعب الجمع بينها؛ فبعد تفكيك العقل العربي إلى هذه الثلاثية يعترضنا سؤال التركيب، فما هو الكلي الذي يتشكل منه العقل العربي مع استحضار هذه الثلاثية العقلية أم نتحيز لبنية على حساب الأخرى؟
كان الجابري متحيزا إلى الجانب البرهاني، ولهذا أعلى من شأن ابن رشد الذي يعد في نظره ذو نزعة برهانية. لقد بذل الجابري جهده ليجلب من التراث كل ما هو عقلاني؛ ولكن ما هو عقلاني واتصف بالإبداع والخلق في نظره، سيكون غير ذلك عند ناقديه، إذ نستحضر هنا ما ذهب له طه عبد الرحمن في إعلائه من شأن أبي حامد الغزالي، ولا يرى في ابن رشد إلا مقلدا لأرسطو، والتقليد بطبعه يتعارض مع العقلانية والإبداع. وقد ذهب طه إلى درجة القول ودعوته بأن نعرض عن الرشدية، وبألا نكون رشديين، وبالنظر إلى طبيعة الاختلاف المنهجي بين طه والجابري، سنرد جزءًا من اختلافهم إلى اختلافات تراثية بين الغزالي وابن رشد. لقد بشر طه بمشروع علمي ينقد التراث من القراءة التجزيئية، ومن القراءة التي تعنى بالاقتصار على نقد مضامين التراث من دون الوسائل التي عملت على توليد هذه المضامين وتشكيل صورها،[5] ويمكن أن نعنون مشروعه بعنوان أحد أهم كتبه، تجديد المنهج في تقويم التراث، فهو يهدف في الجزء الكبير من مشروعه على بناء القراءة التكاملية للتراث والخروج من الفهم التجزيئي. وقد سلط طه في مشروعه آلية النقد على مشروع محمد عابد الجابري وغيره.
نستحضر هنا الجهد الذي بذله محمد أركون في تفكيك تاريخ الفكر الإسلامي - بدل العقل العربي – فمن بين ما سلط الضوء عليه هو الحفر المعرفي عن الظروف التاريخية والسياسية، التي كانت من وراء التقعيد المنهجي للفكر الإسلامي، منذ أن وضعه الشافعي في فهم النص القرآني مذكرا في سياقات عدة أن ما قام به الشافعي من دور منهجي تحول من بعده إلى طوق حديدي لا يسمح بالفكر الحر[6] . و قد دعا أركون في أكثر من موضع إلى القراءة المنهجية التزامنية للقرآن، بقراءة النص وفقا للمعجم اللغوي في الزمن الذي ظهر فيه، بدل قراءته من خلال المعجم اللغوي للزمن الذي نحن فيه، مبينا دور اللسانيات في هذا الأمر[7]؛ فعملية التفكيك حاضرة بقوة في مشروع محمد أركون.
إننا لا ننقص هنا من عملية التفكيك التي قام بها رواد مشاريع الفكر العربي، وليس بالضرورة الذين جاء الحديث على ذكرهم، إذ هناك عدة أسماء ووجوه قامت بهذا الدور النبيل الذي قام به النص القرآني في علاقته بالنصوص التي سبقته، إذ ينطوي القرآن على تفكيكه لتلك النصوص وتقديم النموذج التركيبي الكلي حولها من داخله؛ أي كان مصدقا ومهيمنا عليها بمعنى الاستيعاب المنهجي والتجاوز لما هو أفضل. وليس بالضرورة في نظرنا أن نبقى حبيسي سؤال، كيف نتعامل مع التراث؟ إذ لا يمكن بحال أن نحسم الأمر في اتجاه معين، كما أنه ليس من المعقول أن ننتصر لاتجاه في التراث على حساب آخر سواء باسم العقلانية أو غيرها؛ فالتراث وما فيه قد خلا بخلو من صنعوه وعملوا به، وليس من المعقول أن نطمع في عملهم، وهذا ما نبه عليه القرآن " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)" سورة البقرة
ولكن يعترضنا إشكال لم يقرر فيه بشكل كبير، وهو إذا كان التراث قد تشكل إلى جانب النص المنزل "الوحي"، و لولا نص القرآن، لما تحدثنا عن شيء اسمه الحضارة الإسلامية أو التراث الإسلامي. فبعد عملية التفكيك هذه، والتي لا بد منها، لا يتبقى بعدها إلا النص المؤسس "القرآن"، الذي ينبغي أن ندخل عليه، وننسج معه علاقة تليق بالزمن الذي نحن فيه، حينها لا ينفعنا سؤال التفكيك بقدر ما نكون في حاجة ماسة لسؤال التركيب؛ وسؤال التركيب هذا ينطوي على بذل الجهد في الإحاطة بالأبعاد الكلية للنص القرآني، في علاقته بالكون والإنسان والزمن والغيب، وهذا يتطلب بسط مناهج تنسجم مع الزمن الذي نحن فيه في فهم و قراءة "النص المؤسس".
إن النص القرآني ينطوي على أبعاد تركيبية في نظرته للإنسان، وفي نظرته للوجود وللكون ... إذ من الضروري اليوم أن نطرح سؤال التركيب ونحن نمارس سؤال التفكيك، وإلا ما هي الفائدة من التفكيك؟ ألا ننتقد لنبني ونؤسس ونقوم؟ !
إن التساؤل الذي طرحه فضل الرحمن، كما أشرنا سابقا، يجد الإجابة في جزء منه في مشروع المفكر السوداني حاج حمد، إذ حاول الرجل أن يقدم الجواب التركيبي لسؤال محوري يلتصق بالوجود الإنساني، وهو سؤال جدل الإنسان والطبيعة، وقد حاول أن يستوحي الجواب الكلي لهذا السؤال من داخل النص القرآني. كما يجد بعضًا من الإجابة عليه كذلك في كتب المفكر الياباني توشيهيكو إيزيتسو وغيرهم.