04 يوليو 2013 بقلم
معـاذ بنـي عامـر قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر: شكّل الحدث الذي خرج فيه "رجب طيب أردوغان" رئيس وزراء تركيا الآن، أو كما يُمكنني أن اسميه بـِ (عُثمان الجديد)، استلهاماً لروح جدّه القديم عثمان في إعادة بسط السيطرة التركية على البلدان العربية، تحت مُسميّات دينية هذه المرة، وإن اتخذت أشكالاً حداثية وناعمة وملامسة للقضايا العربية، وثمة حدث مفصلي صادم، من أحد اجتماعات دافوس الاقتصادية الذي ضمّ الرئيس الإسرائيلي "شمعون بيرينز": مفصلي بالنسبة للإنسان العربي العادي، إذ شُعر على المستوى الجمعي أنَّ "رجب طيب أردوغان" هو بمثابة حصان طروادة الذي سيُدخله العرب إلى تل أبيب من أجل تفتيتها من الداخل، وتهديم أسوارها المنيعة من الخارج، وصادم، في ذات الوقت، لأن رئيس الجامعة العربية "عمرو موسى" بقي في ذات الاجتماع الذي خرج منه أردوغان، رغم الجرائم المُروّعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة نهايات العام 2008 وبدايات العام 2009.
لقد ارتفعت نقاط أردوغان على الخط البياني العاطفي العربي إلى حدود قصوى، وفي نوبة عربية اندفاعية اجترحت البطولة الأردوغانية بأدوات عربية هذه المرة؛ لقد انتصر لهم على أشرس عدوٍ لهم، في حين عجز ابن جلدتهم العربي عن فعل شيء، لذا تحوّل أردوغان إلى بطل عروبي صاحب مرجعيات إسلامية؛ فانتماؤه لحزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية منحه بُعداً عقائدياً لتثبيته في المخيال الشعبي العربي كمُخلّص جديد. ولقد بدت الحركات ذات الطابع المسرحي التي تجاوز فيها رجب طيب أردوغان الأعراف البروتوكولية في اجتماعات دافوس الاقتصادية، كنوعٍ من التطهير الوجودي بالنسبة للمتلّقي العربي؛ فلقد مُورسَت الاستراتيجية التركية العقلية بأدوات عاطفية، ولربما مما سهّل هذه المهمة هي التوجهات الإسلامية لشخصية "رجب طيب أردوغان"؛ فالإنسان العربي مُعبّأ باتجاه الاستمالات العاطفية، ولربما نجحت أية توجهات ذات طابع عاطفي في التأثير المباشر على الإنسان العربي أكثر من الاستمالات العقلية، وهذا ما يُبرز الدور التركي في تعاملاته مع الاتحاد الأوروبي ضمن سياق عقلي لا عاطفي، على عكس تعاملاته مع العالم العربي إذ يُغلّب العاطفي على العقلي؛ فمن السهل التأثير عليه ضمن هذه السياقات الوجدانية. وأربعة قرون أحكم فيها السلطان العثماني قبضته على عنق الجسد العربي تحت مُسميّات دينية يمكنها أن تُميط اللثام عن العاطفة العربية الجيّاشة تجاه مثل هذه مُنطلقات.
في سياقٍ موازٍ كان أسطول الحرية الذي حركّته تركيا في العام 2010 باتجاه قطاع غزة المُحاصَر، قد قصمَ ظهر البعير؛ فقد تحوّلت تركيا، تركيا "رجب طيب أردوغان" إلى نبرة عالية الصوت في النص العربي الرسمي الصامت. فتركيا هي الدولة الوحيدة التي أسهمت في كسر الحصار على قطاع غزة من منطلق قوي، فقد جاءت التصريحات التركية الرسمية وقتذاك بما يُشبه نوعاً من التهديد العلني، فلقد أعلنت تركيا عن تحريك أسطول بحري إنساني مُحمّل بمواد غذائية ومواد طبية لكسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة؛ فالأسطول ينطلق من منطقة تحمل إرثاً دينياً عميقاً في الوجدان العربي، وفي وقتٍ تستلم فيه دفّة الحكم في هذا البلد المُعلْمَن على يد أتاتورك قوة إسلامية ضاغطة، آنَ لها، على مستوى اللاوعي والكمون في المرحلة الأولى، استعادة مجد غابر مُرِّرَ فيه الحُكم التركي في وقتٍ سابق باسم الدين على منطقة عربية أُشِبِعَت عقائدياً عبر تراكمات أُسَّسَ لها عبر أنظمة قرأت النص الديني قراءة سياسية بطريقةٍ تُثبّتها في الحياة الدنيا ثباتاً نهائياً، وفوق هذا تمنحها بُعداً لاهوتياً يتجاوز منظومة الدنيوي إلى منظومة الأخروى، بصفتها تجسيداً أخيراً للنص الديني، وأي خرق لهذا التجسيد هو اعتداء على شريعة الله وخرق لناموسه؛ فالوصاية السياسة هي وصاية لاهوتية في جوهرها العميق.
وأعتقد أن "رجب طيب أردوغان" تحوّل إلى شخصية بطولية على المستوى الوجداني بالنسبة للإنسان العربي بعد حادثتي دافوس وأسطول الحرية. ويُمكنني أن أشير هُنا إلى المشاهد التي علقت في ذهن الإنسان العربي بالنسبة لرجب طيب أردوغان يوم أن ماتت والدته في العام 2011، لا سيما صورته، وهو يبكي على والدته؛ فهذا الرجل ليس رجلاً بطولياً على المستوى السياسي والديني فحسب، وإنما هو بطل إنساني شعبي، فهو يُشارك الناس العاديين عواطفهم الجيّاشة تجاه أحبائهم{1}.
وضمن استعادة تاريخية أمكنني اعتبار أردوغان مُعادل موضوعي لجدِّه القديم عثمان مؤسّس الإمبراطورية العثمانية، فالمؤسّس الأول تمدَّد في المنطقة العربية تحت مقولة دينية، استنهضت المخبوء في الذات العربية المُستلَبة آنذاك تجاه شعار الخلافة الإسلامية والتاريخ التليد، فـَ عُثمان الأسطوري؛ عثمان الأول، وإنْ كان غير عربي؛ فهو مُخلِّص جديد للأمة الإسلامية، وطالما كان شعوره شعوراً وحدوياً على المستوى الإسلامي، فلا عبرة في كونه تركياً غير عربي، فالأهم إسلاميته.
ولقد كان للأمة العربية أن ترزح تحت هذه الوطأة الاستلابية الجديدة لأربعة قرونٍ مُتلاحقة، أدَّت تراكماتها إلى ما يُمكنني تسميته بالشعور الانتحاري للذات العربية على المستوى الحضاري؛ فلسنين طويلةٍ تراكم الجهل تراكماً مخيفاً، وانتشرت الأمية التعليمية انتشاراً مهولاً، وتراجعت قيمة العلم إلى درجة الصفر، وتحوّلت الحواضر العربية إلى أوابد تاريخية ومدن أشباح، إذ تعمّق الحس الديني الاستلابي، تحت وطأة مذابح واقعية وتهديدات لاهوتية ميتافيزيقية تستنطق الفتاوى المُحرِّمة للخروج على ولي الأمر وتُهدّده بعذابٍ أليم يوم القيامة، بالركون إلى الهدوء والاستسلام الانتحاري للحاكم التركي، ولي الأمر والمُمثّل الشرعي لله على الأرض، طالما هو يحكم بشرعية الله، ثمة جهاز فقهي سلطوي اشتغل قديماً، ويشتغل حالياً على الربط التلفيقي بين شِرعة الله والنظام السياسي القائم، بصفته نور الله على الأرض، وكل القيم المضادة له هي قيم ظلامية كافرة.
ومراجعة فاحصة ودقيقة للتاريخ العربي إبَّان الحكم التركي، ستكشف أي مذبحة ثقافية مُروّعة ارتكبت بحقّ العرب باسم الخلافة الإسلامية؛ ففترة الحكم العثماني في المنطقة العربية تخلو من أسماء علماء بارزين، إلا ما ندر، أسهموا في بلورة مشهد ثقافي عربي مُتنوّر، لكن المشهدية العربية يومذاك كانت ضاجّة بالتكايا والزوايا الصوفية، إذ تمّ النزوح إلى الدواخل النفسية للذات العربية بسبب العجز عن الإمكان الحضاري، إذ تُستلْهَم في تلك المناطق المظلمة أشدّ حالات النور، وهذا الترويج لا زال يفعل فعلته في الذهنية العربية، وقد كان محمد عابد الجابري قد صنَّفَ هذا التوجه ضمن سياقات العقل المُستقيل، ضياءً وانبلاجاً دون أن يتحرّك المرء قيد أنملة. وبالتقادم تمّ تعميم ثقافة الاستسلام والرضوخ للأمر القائم بصفته قَدَرَاً إلهياً لا مفرّ من القبول به، وكل ذلك تحت شعارات دينية تُغيّب الحضور العقلي العربي على حساب عاطفة دفّاقة لا تفتأ تُبرّر وتقبل وترضخ.
ولا أعتقد أن ثمة اختلاف بين العثمانيْن؛ عثمان الأول مؤسس الإمبراطورية التركية وعثمان الجديد رجب طيب أردوغان، فالأخير يستلهم روح جدِّه القديم في بناء إمبراطورية جديدة، وفي التمدّد الأكبر باتجاه البلدان العربية، فمن السهل جداً الدخول إلى المنطقة العربية من البوابة الدينية، لا سيما أنها بوابة مُشرعة على عاطفة عربية جيّاشة تجاه القيم العقائدية. فعثمان الجديد إذ يستلهم روح جدّه من أجل إعادة مجد قديم، فإنه يُغامر مغامرة كبيرة في المنطقة العربية، وقد تكون هذه المغامرة مأثرة تركية جديدة، فالمُستعاد عربياً للإنسان العربي المُشبَّع بالقيم الدينية هو ما عُجِزَ عن تحقيقه بأدواتٍ عربية. ففي الوقت الذي عجزت فيه الأنظمة العربية عن الوقوف في وجه المدّ الإسرائيلي، قام أردوغان، مثل طائر الفينيق، من وسط الرماد العظيم، ووضع حدَّاً سيكولوجياً على الأقل، في حين بقيت التهديدات التركية لإسرائيل خصوصاً بعد الاعتداء على أسطول الحرية، حبيسة الأدراج ولم تُسوّق إلا إعلامياً، للغطرسات.
وعقب هذه المأثرات، انتشرت صور أردوغان بكثرة في العالم العربي {2}، بصفته بطلاً إسلامياً يحمل قيماً تحررية للإنسان العربي المستلَب، وصاحب مبدإ ينطلق من مرجعيات إسلامية.
ولربما أتى الانسياق العربي وراء هذا الوهم التركي، وأعتقد أن المشهدية المسرحية التي افتعلها أردوغان في دافوس بحقّ شمعون بيريز ودعمه لغزة وتسيير أسطول لنجدتها إنسانياً، هو قرار تركي مدروس لم يأتِ من فراغ عاطفي أو أنه أتى خبط عشواء، إنما هو قرار دُرِس على مهل وبصبرٍ رهباني، فتركيا المًستبعدة أوروبياً وتُقاتِل منذ سنوات عديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي المسيحي، إلا أنها تستبعد بسبب إسلاميتها، لذا لا مناص كخيار حضاري من التحايل على القوة العربية، ومجالها الجيوسياسي، إضافة إلى أسواقها الاستهلاكية الكبيرة ومواردها الكثيرة، كنوعٍ من التعويض الوجودي الخارجي نتيجة لنقصٍ حاد في الداخل العربي والتركي معاً، فتركيا، تركيا أردوغان تُحقّق نوعاً من التوازن العاطفي والوجودي بالنسبة إليها أولاً بسبب موقف الاتحاد الأوروبي منها، وبالتالي فإن أعني التوازن العاطفي والوجودي بالنسبة للإنسان العربي، فهو إزاء حالة من الفقد العظيم على مختلف الصُعُد، لذا يأتي الدور التركي لردم هذه الهوة.
السؤال المُلحّ هَهُنا هو: هل تتمكن تركيا؛ تركيا المُتأسلِمَة عبر شخصية "رجب طيب أردوغان" من استعادة مجدٍ قديم، ومن ثمّ بسط سيطرتها على العالَم العربي واستمالته عاطفياً عبر جرعات تراكمية تُقصي أية فعالية عربية بأدوات ناعمة غير عنيفة تجنباً لمواجهات ليست ذات جدوى مع العرب، وتُفعّل كل ما هو تركي في العالم العربي؟
قد لا تتخذ السيطرة التركية سُبلاً كذات السبل التي اتبعت قديماً في السيطرة على العالَم العربي، أعني التمدّد العسكري الجغرافي والسيطرة الفعلية عن طريق الحروب على البلدان العربية، وما إلى ذلك من وسائل عنيفة قد تحدث ردّات فعل عنيفة. ولكنها قد تتخذ أساليب ناعمة، وهذا هو المُرجّح والحاصل الآن، ابتداءً من افتعال إشكالات آنية غير ذات فعالية في المنظور الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي بين الفينة والأخرى، والزيارات التي يقوم بها أعضاء الحكومة التركية إلى بلدان إسلامية منكوبة مثل الصومال وبورما. إضافة إلى تعزيز القيم التركية من خلال الإقبال الكبير على المسلسلات التلفزيونية التركية، وتسابق دور الإنتاج العربي على دبلجتها بلهجاتٍ محلية لما تلقاه من رواج كبير في مختلف المجتمعات العربية. والسماح للمواطن العربي بدخول تركيا وزيارتها بدون تأشيرة دخول، في الوقت الذي تُمارس فيه الدول العربية بحق بعضها نوعاً من "المكارثية" فيما يتعلق بالانتظار في طوابير طويلة للحصول على تأشيرات لدخول الإنسان العربي إلى البلدان العربية، وما إلى ذلك من وسائل تواصلية ناعمة، تهدف إلى إحكام السيطرة على العالَم العربي وجعله حديقة خلفية للمجال الاستراتيجي التركي.
وبانتظار التراكمات وما سيرافقها من غياب لدورٍ ع