16 يونيو 2013 بقلم
الطيب الحيدي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:غالبا ما ينتاب الأذهان أن الأقلية واقع مغلوب أو مرهوب، ويتعين نصرة حالها أو التحوّط من مكرها. وأحيانا كثيرة ما يعمد المنصبون أنفسهم مدافعين عنها إلى استدرار النصرة أو التعاطف استنادا على حال المغلوبية، أو تجدهم يستجلبون كرها لعلة التعصب الذي يتحكم فيهم. بيد أن تقديرا من هذا القبيل غالبا ما يبقى كميا مستندا إلى نسبة عددية، ولا ينظر إلى الأقلية من جهة قدرتها على امتلاك واقع قد لا يقل قوة وبأسا، حتى وإن كنا لا نعني بهذه الأقلية نخبة نافذة أو طغمة حاكمة. وأمام هذه المفارقة ألا يجدر التساؤل عن مكمن القوة التي يمكن أن تكون للأقلية متى توقف التقدير على الكميمنه؟
لعل تقديرا ينظر إلى الأقلية كأفق تحول أو تصيّر من شأنه أن يقوض كل مسعى إيديولوجي أو "نزوع زراعي" يفكر بمنطق الأصول والجذور، إذ حينما تغدو الأقلية ما لا نكونُه، والذي يجسد ما يمكن أن نتصيّر إليه، فإن ذلك يغير من نظرة الواعين بأقليتهم إلى أقليتهم. إن المطالبة لدى الأقليات غالبا ما تكون محكومة بمنطق استبدادي لأنها تطلب في الواقع وسائل التقوِّي على غرار الذي تراه لدى الأغلبية التي تتظلم منها. وتريد لذلك التواجد إلى الجوار منافسا أو ندا مماثلا لها في القوة. فيمكن أن ينعدم الإمكان الإبداعي الذي تمثله لأنها قد تشكل بوجه ما أفق تصيُّر للأغلبية (كما يقر دولوز بذلك). وإذا كان لأقلية ما من قوة ذاتية، فلعل الأولى لها أن تكون أقلية- تصيُّر؛ بمعنى أنها إمكان مغاير للوجود ضمن وحدة ما أو حتى ضمن هوية معينة، وليس تنوعا عدديا يمكن أن ينضاف إلى جوار نوع آخر. أو من شأنها أن تجسد قيميا أقلية كبيرة مقابل أغلبية صغيرة. فإن ذلك سرعان ما ينتهي إلى استعادة منطق الهيمنة والاستبداد الذي كانت تلك الأقلية ترفضه وتقاومه. ولا يتم ذلك إلا باعتماد مرجعية معيارية قد لا تكمن قوتها في ذاتها، مرجعية لتبرير منطق هيمنة، أي منطق أغلبية غالبة بحكم المقياس المعياري، وليس العددي وحسب.
قد نفهم من هذا التحليل الرد دوما إلى الأغلبية المتجسدة في شكل معيار أو واقع أغلبي، فتكون الأقلية بما تمثله من إمكانات تصيُّر مشروطة لما يعَدُّ محمدة لها في العلاقة بواقع الأغلبية ذاك. إلا أن الأمر هنا بخلاف منطق تقابل بين واقعين يمثلان لثنائية تناقضية أو حتى ثنائية زوجية (تكاملية). إذ حينما يقوَّض الأس الكمي العددي للأغلبية، ويُكشَف عن نسبيةِ ثابتتها المعيارية، ثم يعاد النظر في الواقع العددي للأقلية لتعتبر بمثابة "خطوط هروب" أو "مسارات انفلات" من أجل اختيار جهات ووجهات للعيش، فإن الزحزحة هي من أجل مقاربة الحياة بما هي مجال لفنون العيش، لا ينبغي أن تظل خاضعة "للوجود الفعلي" للواقع مقابل "الوجود الإمكاني" للأفق. إن الأقلية المعنية هي أقلية اختيارات مشروعة تبدأ من "الشاذ" والاستثنائي الذي يضطلع به أفراد أو زرافات، والذي يجسد نواة أو بذرة أو نتوءا على درب التغير، فالتحول. وحين تكون كذلك فهي ليست أقلية في الحقيقة، إنها تمثل مشروعيةَ أن تشرئب الأشخاص والشرائح البشرية إلى أشكال وجود مغايرة لما هو قائم من شروط عيش. وبذلك، فهي تجسد طاقة إبداعية تسعى إلى صنع كيفيات جديدة للوجود الفردي والجماعي.
وحينما ينتزع الواقع الأقلّي زمام المبادرة، ويتحول شيئا فشيئا إلى اختيار(وجود وسلوك)، فإنه يشرع في "تشريع" يتعدى مجال القانون والحق الذي قام بدءا لمناهضته. قد يُفهم من الأمر تبادل الأدوار بين الأغلبية والأقلية من حيث تحديد الواقع المرغوب، لكن الحاصل أن الأقلية حينما تصير واضعة لما يلزم سلوكه وفق معيارية ثابتة، فهي تفقد تحددها كأقلية بالأفق الإبداعي الذي يلازمها، إنها تتصيَّر حينئد إلى أغلبية مهما قلّ عددها. لا تنتِج الأقلية ذات الأفق الإبداعي الواقعَ الأغلبي المعيِّر، بل الإمكان الأقلي المُغيِّر. فإنها مجال الانفتاح والحرية على إمكانات لا حصر لها للوجود والسلوك. وبهذا تنأى عن السلط قدر نأيها عن التحول إلى ثبات الواقع ومعياريته. ولعل ذلك هو الشرط الرئيس لتحددها كأقلية تحمل طاقة تصيُّر إبداعي؛ لأنها الأفق المضاد لكل سلطات الواقع ومؤسساته. هكذا، تقوم كل أقلية تجسد لآفاق تغيّر وتغيير ضد كل قاعدة أو معيارية أغلبية. ومتى مثّلت هاته المعيارية لما سمّاه دولوز "بالثابتة"، فإن الأهم هو الطاقة الدافعة إلى إمكانات واختيارات لما لا حصر له من الحيوات أو أوجه العيش، وليس الاقتصار فقط على تدشين أفعال التغيير، ذلك أن الشرط البشري يسمح دوما بالتصيُّر إلى الأفضل مهما بلغ الواقع مبلغه من مستوى الاكتمال، وليظل الكمال أبدا في حضن الأفق المآلي الذي يعد الشرطُ الأقليُّ طاقتَه ودافعته.