الحبيب بو عبد الله
ولم أجد في الأخير أبلغ من وصف إدوارد سعيد بأنه “مفرد بصيغة الجمع” مستعيراً عبارة أدونيس، ولا أجمل من وسمه أيضاً بـ”المتعدد المتفرد” على حد تعبير الشاعر محمود درويش، مع ما في العبارتين من تصاقب في المعنى وتقاطع في الدلالة..
إن الذي يقرأ إدوارد سعيد يثير فيه ألواناً شتّى من الانفعال والتفاعل.. وما يثير الإعجاب حقاً، أنه مفكر حرّ.. لقد كان إدوارد سعيد مفكراً وناقداً عربياً جريئاً، مناصراً لقضايا الحق والعدل، رافضاً لمظاهر الظلم والعدوان.. عاش حياته “خارج المكان” بحثاً عن هوية مفقودة مستلبة، ودفاعاً عن أرض محتلة مغتصبة.. عاش في المنفى، فاختار أن تكون الكتابة لديه وطناً يدافع بها عن وطن، ويناضل بها عن الشرق وحرية شعوبه..
لقد أثار سعيد في كتاباته وأفكاره ومواقفه اختلافاً كبيراً، وجدلاً حاداً في الداخل والخارج على حدّ سواء.. وليس يُخفى أن قيمة سعيد اقترنت في الساحة الثقافية العربية والعالمية بما كتبه عن الاسشراق. فقد شكلت كتاباته منعطفاً بارزاً في تاريخ الفكر العربي والغربي بما وظفه من مناهج علمية حديثة وآليات معرفية متطورة في نقد الاستشراق وتفكيك خطابه، وتحليله تحليلاً علمياً إبستيمولوجيا.. هي مقاربة تنهض على حفريات دقيقة عميقة في الأصول والمبادئ والآليات التي بواسطتها ينتج الاستشراق خطابه ويبني نظام معرفته..
من هنا شكّلت هذه المقاربة أو القراءة خطابا نقديا مضادا تركت آثارها واضحة في حركة الفكر العربي وأسهمت إلى حدّ كبير في تأسيس نمط جديد من المعرفة النقدية لحركة الاستشراق..
لقد كانت هذه الورقة ـ لحظة تبلّورت فكرة أولى في ذهن صاحبها ـ تطمح إلى التوقف عند أبرز ملامح هذا الخطاب النقدي المضاد كما تشكل في كتاب (الاستشراق)، وما أثاره من قضايا مختلفة ومواقف متباينة.. غير أن طول العهد على صدور الكتاب (1978) ـ وإن لم يفقده بلا ريب نضارته وثراءه ـ جعلني أبحث عن مدخل آخر للمسألة أحاول عبره ـ قدر الإمكان ـ ألاّ أقع في المكرور من القول في عرض رؤية سعيد النقدية للاستشراق…
لذلك عدلت عن سبيل العرض والتعريف بصورة مباشرة قد تكون من فرط بساطتها وسطحيتها مخلّة بالفكرة غير مؤدية للغرض.. ورغبت في المقابل، أن أقارب المسألة من زاوية نظر تتصل بقضية تقبل كتاب (الاستشراق) وما خلفه لدى بعض العرب وبعض الغربيين من سوء فهم وسوء تأويل، ترك في نفس صاحبه شيئاً من الحسرة والأسى.. وهو أمر اقتضى منه إعادة نظر في الاستشراق بتأليف مجموعة من المقالات والمحاضرات جمعت في كتاب آخر وسمه بـ (تعقيبات على الاستشراق)
[صدر في الطبعة العربية سنة1996]، ومثَّل مصدراً أساسياً في معالجة الموضوع..
إن مجمل المشاريع النقدية الكبرى والإنجازات الفكرية التي تحدث منعطفاً ورجّات في تاريخ الثقافة الإنسانية، غالباً ما تبدو في أول الأمر غير جديرة بالعناية والاهتمام.. كذا كان شأن كتاب (الاستشراق)، كما روى صاحبه قصة نشأته وقصة تأليفه وظروف نشره في الغرب، وكيفية تقبله في البداية باعتبار أن «المشروع بأسره قد لاح هزيلاً، وغير واعد في البداية، حتى أن إحدى المطابع الأكاديمية ترددت طويلاً قبل أن تقترح عقداً متواضعاً لقاء كتيّب صغير موجز..»
(1).
غير أن هذا الكتيب الذي بدا “صغيراً في حجمه” سرعان ما غدا استثنائياً في قيمته، فقد أثار ـ كما يقول صاحبه ـ «بمجرد صدوره في أمريكا وإنكلترا [حيث صدرت الطبعة البريطانية المستقلة عام1979] الكثير من الاهتمام، كان بعضه عدائياً للغاية ـ كما كان متوقعاً ـ، وبعضه الآخر غير متفهم، ومعظمه إيجابي وحماسيّ..»
(2).
ولست أريد من هذا الشاهد إشادة أو تنويهاً بقيمة الكتاب بقدر ما أريد إثارة مسألة التقبل وخطورتها في التعامل أو التفاعل مع منجزات الفكر الإنساني نقداً وتنظيراً، أو خلقاً وإبداعاً..
وأن يكون التقبل ردّ فعل غربي عدائي رافض للحقائق التاريخية وللمعارف التي تحاول إزالة الزيف والأوهام، وغير مستعد لقبول الأفكار الكاشفة عن مظاهر السلطة والقوة في علاقة الغرب مع الشرق، أو أن يكون هذا التقبل مجرد انفعال عاطفي وجداني يرى في نقد سعيد للاستشراق إما دفاعاً عن الإسلام وانتصاراً للعروبة، وإما ردّة أو خيانة لمبادئ الماركسية والتقدمية..، وكل ذلك يمثل ضرباً من التقبل المتعجل للخطاب أدى في نظر سعيد إلى الوقوع في «سوء الفهم والتأويلات الخاطئة»
(3).
وقد تنفتح قضية «سوء الفهم» على أسئلة نقدية وتأويلية تتصل بإشكالية
المعنى، باعتبارها إشكالية لغوية وفلسفية تصل بين فهم النص وفهم الوجود.. وكما يقول ماكس ڤيبر «إنه لدى المثقف، ولديه فقط، يتحول تصور العالم إلى مشكلة معنى..»
(4).
إن الوضع النظري لقضية المعنى لا يخلو من مظاهر التعقيد والتداخل الناجمة أساساً عن اختراق المعنى جميع الحقول المعرفية ومختلف العلوم الإنسانية.. وعلاقة المعنى بالنص تتنازعها عديد الاختصاصات، غير أن الذي نتوقف عنده بالسؤال هو التالي:
ـ أليس المعنى في بعض الأطروحات اللسانية المعاصرة «لا يكون له من معنى إلا الذي أسندناه اليه ، والعكس صحيح..»
(5).
ـ ألا يصمد المعنى أمام كل شيء..عدا الفهم؟
(6)ثم…
ـ أليس كل تأويل لنص ما ـ ومن منظور تأويلي تفكيكي ـ هو بالضرورة
سوء تأويل، وأن كل قراءة هي «سوء قراءة أيضاً»
(7).
إن هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابة نهائية وحاسمة في قضية معقدة وشائكة، شأن قضية المعنى ولوازمها واستتباعاتها..، وأنّى يكون ذلك والاختلاف رديف وجود المعنى وشرط من شروط تحقق قراءته وفهمه..
فإذا كنا ندرك إذن، أن الاختلاف أمر بديهي مرتبط بطبيعة النص الفكري أو الفني عامة، وما ينفتح عليه من ممكنات دلالية متعددة، فإن الذي نحاول استشرافه من تلك الأسئلة، وانطلاقاً من موقف سعيد النقدي لما وقع فيه البعض من
سوء الفهم و
سوء التأويل هو محاولة البحث والنظر في تلك الحدود الدقيقة الفاصلة بين
فن الفهم و
سوء الفهم، وخاصة في ثقافتنا العربية..
إن سوء الفهم هو إفراغ للنص أو للخطاب من معناه، أصلياً كان أو ممكناً، قصدياً أو مؤولاً..، بتحويل مداره نحو
اللامعنى.. ذلك ما سعى سعيد إلى نقده وبيان خطورته في كتابه (تعقيبات على الاستشراق)، والذي حاول فيه إعادة النظر في الموضوع توضيحاً لمواقفه ومقاصده التي تعرضت إلى التشويه عبر «سوء الفهم والتأويلات الخاطئة»..
انطلق سعيد من بيان كيف أن كتابه (الاستشراق) ـ رغم ما حظي به من عناية فائقة ولاسيّما في العالم الغربي تجلت خاصة في ترجمته إلى عديد اللغات ـ حيث أنه «مع صدور الطبعة الفرنسية عام 1980 توالت سلسلة من الترجمات وأخذ عددها يرتفع باضطراد حتى اليوم، وأثار العديد منها خلافات ونقاشات في لغات لا قبل لي باستيعابها..»
(8)، ثم يستدرك ليعبر عن شعوره ببالغ الأسف والحسرة لما لقيه الكتاب ـ غرباً وشرقاً ـ من ردود فعل، وإن كانت قليلة ومتفرقة، تراوحت بين رفض الكتاب واتهام صاحبه، وبين الفهم الخاطئ المشوه للمقاصد والمواقف..