إن ما نستفيده من أفكارهما حول ترتيب العلاقة المعرفية والتاريخية بين الدين والفلسفة هو أنهما كانا يدافعان عن أسبقية الفلسفة والتفكير الفلسفي على الدين والتفكير الديني، كل وفق مذهبه الفلسفي الخاص؛ وهو ما يمثل اتجاهاً معاكساً تماماً للاتجاهات الأنثروبولوجية والثقافية والسوسيولوجية الحديثة التي وضعت الدين والتفكير الديني في مرحلة سابقة على نشأة الفلسفة؛ وموقفاً أكثر راديكالية من كل النظريات التي تبنت الترتيب المعاكس.
تركز هذه الدراسة على رصد كيفية وضع الفارابي وابن رشد للتراتب الأنطولوجي والمعرفي والتاريخي للفلسفة والدين. فعلى مستوى التراتب الأنطولوجي بين الفلسفة والدين، أو العقل والوحي، تنص الرؤية الفيضية للكون عند الفارابي على أن العقل هو أول كيان يصدر عن الواحد، أو الإله، وبالتالي فإن له الأولوية المطلقة على ظاهرة الوحي التي هي عنده فيض من العقل الفعال على مخيلة النبي. وعلى المستوى الإبيستيمولوجي فإن العقل عند الفارابي يحتل المكانة العليا، تليه المخيلة وأخيراً الحس. فكان من الطبيعي لديه أن ينظر إلى المعرفة العقلية على أنها أعلى من التفكير الديني المستخدم للمخيلة. وأما على المستوى التاريخي فإن الدين متأخر على الفلسفة زمانياً، لأن الدين لديه يعلِّم الجمهور بالطرق الخطابية ما توصلت إليه الفلسفة بالطرق البرهانية.
أما ابن رشد فقد اتفق مع الفارابي في تبني الأولوية الأنطولوجية والإبيستيمولوجية والتاريخية للفلسفة على الدين، لكنه خالفه في الإطار الذي وضع فيه هذه الأولوية والذي كان الرؤية الفيضية للكون عند الفارابي والمتأثرة بالأفلاطونية المحدثة. وفي المقابل تمسك ابن رشد بإطار أرسطي يضع فيه أولوية العقل على الوحي. فعلى المستوى الأنطولوجي فإن الإله عند ابن رشد عقل محض، فاعل للنظام والترتيب الذي في الطبيعة. وبالتالي، فإن الوحي عنده مجرد وسيلة لإيجاد نظام وترتيب في الاجتماع البشري. ولذلك فإن الوحي عنده ليس ظاهرة عجائبية فوق طبيعية، وكل الفرق بينه وبين العقل هو الطرق الخطابية والشعرية التي يستخدمها النص الديني مع الجمهور مراعاة لأفهامهم. وعلى مستوى الأولوية التاريخية للعقل على الوحي، ذكر ابن رشد في (تفسير ما بعد الطبيعة) وفي (تلخيص السماء والعالم)، وفي رسالته (في إمكان الاتصال بالعقل الفعال) أن العلم ظهر أولاً في الحضارات القديمة ثم اختفى، ولم يبق منه إلا بعض الرموز والأمثال التي كانت مستخدمة لتعليم الجمهور آنذاك، وظلت هذه الحكايات الرمزية منتشرة بين الجمهور في كل أمة وظهرت في نصوصها الدينية. أما الجديد الذي أتى به ابن رشد فهو أولوية سياسية للفلسفة على الدين. ففي شرحه لجمهورية أفلاطون، ذهب ابن رشد إلى أن واضع كل شريعة في حاجة إلى الأسلوب الديني في التفكير كوسيلة لمخاطبة الجمهور وأداة لتنظيمه وصلاحه. وبالتالي فإن الطريقة الأصلح في تنظيم وحكم مجتمع من العامة هي الطريقة الدينية حسب ما توصل إليه العقل نفسه.
ومن هنا نرى أن التراتب التاريخي بين الفلسفة والدين عند الفارابي وابن رشد قائم على نظرية في المعرفة تعطي الأولوية للعقل على الوحي، ذات أصول أفلاطونية محدثة عند الفارابي، وذات أصول أرسطية عند ابن رشد. وعلى الرغم من اختلاف الأصول إلا أن النتيجة لديهما واحدة، وهي فلسفة في الاجتماع السياسي تجعل الديني مُستوعَباً بالكامل في المدني.
وبذلك تنقسم هذه الدراسة إلى أربعة أجزاء. في الجزء الأول أعرض للرؤية التطورية الخطية لتاريخ الأديان والتي بدأت بسوسيولوجيا كومت التي وضعت الدين في مرحلة سابقة على الفلسفة، وذلك تمهيداً لتوضيح مخالفة الفارابي وابن رشد لهذه الرؤية. وفي الجزء الثاني أهدف توضيح الأولويتين الأنطولوجية والإبيستيمولوجية للفلسفة على الملة لدى الفارابي، واللتان نتجتا في أولوية تاريخية، أو بتعبير الفارابي، سبق الفلسفة على الملة بالزمان. وفي الجزء الثالث أثبت أن إشارات ابن رشد إلى اكتمال العلم لدى الأمم القديمة الغابرة ثم تحول هذا العلم إلى مثالات ومحاكيات وتخييلات لدى أصحاب الأديان التالية، يجد الأساس النظري له في فلسفة الفارابي في الدين. وكذلك يجد ابن رشد أساس إثبات عدم تعارض الفلسفة والدين في كتابه (فصل المقال)، مع التمييز بين خطاب الدين وخطاب الفلسفة، من الفاربي أيضاً. وفي الجزء الرابع أوضح أن هذا الترتيب الذي يعطي الأسبقية التاريخية للفلسفة على الملة، وعلى الرغم من أنه يقدم لنا ترتيباً مخالفاً للترتيب المعتاد بينهما في الدراسات الحديثة والذي يرجع بأصله إلى عصر التنوير الأوروبي، إلا أن ما يؤكد لدينا صحة هذا الترتيب هو دراسة توينبي للتاريخ، والتي اكتشفت السبب في الأسبقية التاريخية للفلسفة على الأديان الكبرى.
I. الموقع التاريخي للدين في الدراسات الحديثةترسم الدراسات الحديثة للأديان صورة خطية تضع فيها الأديان على متصل تطوري مستقيم، تبدأ فيه البشرية بالأسطورة والسحر والخرافات، ثم تتحول إلى الرؤى الدينية للعالم والتي تبدأ تعددية وتنتهي توحيدية، وبعد المرحلة الدينية تأتي المرحلة الميتافيزيقية التي تمثلها الفلسفة، وأخيراً تأتي مرحلة العلم في العصر الحديث. تدين هذه الرؤية الخطية التطورية لموقع الأديان في التاريخ البشري بأصولها الأولى لعصر التنوير (فولتير، ديدرو، كوندرسيه، كوندياك، على سبيل المثال)؛ ثم استمرت المدرسة التاريخية الألمانية في نفس هذا التوجه وعلى رأسها هيردر وهيغل. ووجدت هذه الرؤية صياغة أكثر انضباطاً في نظرية أوجست كومت في المراحل الثلاث
(2)، المرحلة اللاهوتية أو الدينية، والمرحلة الميتافيزيقية أو الفلسفية، وأخيراً المرحلة الوضعية أو العلمية؛ وكذلك نظرية جيمز فريزر في كتابه (الغصن الذهبي)
(3)، وماكس فيبر في نظريته في السلطة والكارزما.
لكن الحقيقة أن هذه النظرية مصابة بعيوب كثيرة. منها أنها لا تستطيع تفسير التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه الحضارات القديمة والذي سمح لها ببناء الأبنية العملاقة مثل الأهرامات والمعابد المصرية وفن التحنيط المصري والتقدم في المجالات الطبية والهندسية آنذاك؛ إذ تكشف الإنجازات المعمارية للحضارات القديمة عن درجة عالية من التطور العلمي والتقني لا يتناسب أبداً مع ما تصورته الدراسات الحديثة للأديان من مستوى بدائي للذهنية وللديانة. كما أن الاتجاه التطوري الخطي لهذه النظريات لا يستطيع تفسير ظاهرة التدهور التاريخي للأديان والعقليات والذي تتحول فيه العقائد إلى شعوذة ويتحول من خلاله العلم إلى سحر. وهي أيضاً عاجزة أمام تفسير حقيقة سبق ظهور الفلسفات العقلانية اليونانية للأديان الكبرى؛ إذ أن هذه الحقيقة تنهار أمامها نظرية كومت في المراحل الثلاث، وكل النظريات التي وضعت الفلسفة في مرحلة تالية على الدين؛ فالذي حدث بالفعل أن فلاسفة اليونان قد سبقوا المسيحية والإسلام، مما يقدح في صحة الاتجاه التطوري الخطي الذي يضع الأديان قبل الفلسفة.
والحقيقة أن النظرية الوحيدة في تراثنا الفلسفي والتي انتبهت إلى هذه الحقيقة، وهي أسبقية الفلسفة على الأديان تاريخياً، هي نظرية الفارابي التي اتضحت في كتبه (كتاب الحروف)، و(كتاب الملة)، و(السياسة المدنية)، و(آراء أهل المدينة الفاضلة)؛ وهي نفس النظرية التي تبناها ابن رشد وظهرت لديه في الكثير من أعماله.