2014-05-23 صاموئيل هنتنغتون والتقسيمات الثقافية
|
| |
في بداية التسعينات كان صنّاع الفكر الامريكي يتنافسون فيما بينهم لأجل الفوز بالنصر. فالاقتصاديون ركزوا على اهمية ( إجماع واشنطن ) ودوره في نشر السلام والازدهار حول العالم. اما السياسيون فقد انكبّوا على النقاش حول ( ثمار السلام ) وما اذا كان يتوجب توظيفها لإيجاد رعاية صحية كونية ام السماح لتلك المكاسب كي تأخذ طريقها الى جيوب الناس، ام الاثنين معا .
فرنسيس فوكوياما من جانبه ، جسّد رؤية متفائلة باعلانه عام 1992 عن " نهاية التاريخ " وعن النصر العالمي لليبرالية الغربية .
اعتقد هنتنغتون ان كل ذلك مجرد هراء . في " صدام الحضارات "، عرض هنتنغتون صورة اكثر قتامة واعتبر ان الانقسامات الايديولوجية للحرب الباردة حل محلها ليس الانسجام العالمي وانما التقسيمات الثقافية القديمة . فالعالم كان منقسماً وبعمق بين مختلف اشكال الحضارات ، وهذه الثقافات المختلفة تميل الى الصراع فيما بينها وهي بعيدة عن الالتقاء تحت سقف العولمة.
هنتنغتون اضاف بعداً اخراً الى نظريته بالقول ان الحضارة الغربية هي في انحدار نسبي: المتاجرون بالقوة الامريكية الذين اعتقدوا انهم مهندسوالنظام العالمي الجديد سيجدون انفسهم ضحايا القوى الثقافية التي لم يعلموا بوجودها . وهو يرى ان المستقبل تتم صياغته في مساجد طهران وفي لجان التخطيط في بكين وليس في مقاهي ساحة هارفرد. مقالته الاولى في عام 1993 في مجلة الشؤون الخارجية تُرجمت الى 26 لغة وانتشرت لتصبح من بين افضل المطبوعات المباعة .
كان كتاب " صدام الحضارات "اشهر محاولة للتعرض الى الثوابت، وهو ايضا المحاولة الوحيدة . وفي كتابه " الموجة الثالثة : الديمقراطية في اواخر القرن العشرين" عام 1991، رأى فيه ان الممارسة الديمقراطية التي قام بها مجلس الفاتيكان الثاني والتي تمكّن بها من نشر الديمقراطية في العالم الكاثوليكي كانت اكثر اهمية من انتشار الاسواق الحرة . وفي كتاب " من نحن ؟ التحديات للهوية القومية الامريكية " عام 2004، أشار الى ان الحضارة الامريكية هي نتاج للثقافة البروتستانتية الانكلوسكسونية ، وحذّر من ان التدفق الهائل لذوي الاصول اللاتينية يهدد بتفكيك تلك الحضارة عن جذورها . اما كتابه الاخير فقد اكسبه سمعة المقاوم للتغيير، وهو بالتاكيد اصبح عنصرا كريها من جانب اليسار وبطلاً في نظر العديد من المحافظين . غير ان سياسة هنتنغتون كانت في مجملها شديدة التعقيد . فهو كان ديمقراطيا على الدوام ،وممثلا لذلك الكائن المحتضر، وهو ايضا الليبرالي الصلب اثناء الحرب الباردة . كذلك كتب العديد من المقالات لـ آدلي ستيفنسون وعمل كموجّه للسياسة الخارجية لهربرت همفري . خدم لفترة قصيرة في ادارتي جونسون وكارتر ( هو كان صديقا مقربا لزيبيجينو بريزينسكي ، احد مساعدي باراك اوباما الاوائل) . كان معارضا حادا للمحافظين الجدد الذين اعتقدوا بامكانهم زرع القيم الامريكية في بلاد وادي الرافدين . هو اعتقد باهمية المزج بين المثالية الليبرالية وتشاؤمية تمتد بجذورها الى الفهم المحافظ للتاريخ . وهنتنغتون رفض الاختزال الاقتصادي الذي دعا اليه اجماع واشنطن ، واصرّ بدلا من ذلك على رؤية الشعوب كنتاج ثقافي وليس كنتاج لحسابات الربح والخسارة . هو ايضا رفض فكرة المخادعة ( قول البعض انه خدع الاقتصاديين ) بقوله ان جميع الاشياء الجيدة تسير مجتمعة ـ اي ان الاسواق الحرة تسير جنبا الى جنب مع التعددية والديمقراطية والطريقة الامريكية . شعر هنتنغتون ان امريكا تمثل التناقض الحي : حين حوّلت الثقافة الامريكية امريكا الى حضارة كونية ولكن تلك القيم كانت في الواقع تعود في جذورها الى نمط خاص من الظروف .
وبالنظر الى عمله الطويل وطاقته المذهلة ( كونه عمل في كلية هارفرد لمدة 54 سنة وكتب 17 كتابا في مختلف الموضوعات )، وهو يُقترن دائما بعبارة (صدام الحضارات )، فالى اي مدى تُعتبر هذه الآراء (التي استمرت 15 سنه ) صحيحة ؟
هي جيدة وسيئة في آن واحد . هو لم يكن وحيدا في التنبؤ باحداث 11 سبتمبر أو" الحرب على الارهاب "او في نقده الشديد للاسلام وهو ايضا كان قريباً من اي شخص آخر في التنبؤ بشقاء امريكا في العراق بتأكيده ان الديمقراطية هي نتاج لعمليات ثقافية شديدة الخصوصية . نظريته حول التحديث القائلة ( ان التحديث لا يعني بالضرورة التغريب ) هي ايضا قدرة استكشافية متميزة : لماذا تتبع الصين النموذج الاقتصادي الامريكي حينما يخلق لها مثل هذا الدمار ؟ ولماذا يجب على الانظمة السلطوية في الشرق الاوسط ان تطبق الديمقراطية حينما تعني تسليم السلطة الى الاسلاميين ؟ هنا برز الاستاذ افضل من تلميذه فوكوياما .
صحيح الى حد ما :
غير ان ما قُصد تصحيحه هو ذاته بحاجة الى تصحيح . دافع هنتنغتون عن رغبته في اوسع تنوّع ممكن على اساس ان بدون هذا التنوع سوف نُترك مع ما يسميه وليم جيمس" بالاضطراب الشديد الازعاج " ، ولكن اعلانه هذا شوّه الحققيقة بدلا من تاكيدها. هو انزلق لأننا نرى العديد من التصادمات الكريهة تحدث ضمن الحضارات وليس بينها : الكثير من المسلمين يموتون بايدي اخوانهم المسلمين وليس بايدي اليهود او الصليبيين ، والاوربيون خاضوا اكثر الصراعات دموية في القرن العشرين بين بعضهم البعض. هو ايضا قلّل من اهمية المدى الذي به تنجذب الشعوب للنموذج الامريكي : النخبة من رجال الاعمال الصينيين هم اكثر اهتماما بوادي السليكون من اهتمامهم بالماضي الكونفوشيوسي . ان افكار هنتنغتون يمكن ان تخلق سياسات بنفس سذاجة السياسات التي انتقدها بشدة : السياسات التي تدفع المسلمين الى التوحّد في جمهور موحد وغاضب بدلا من ان تحترمهم كمجموعة متميزة . والسياسات التي تشجع الشك الذاتي الغربي تماما كما تثير القلق لدى فريق التعددية الثقافية.
كان هنتنغتون رقما مهما لأسباب عدة، ولكن الاكثر اهمية هو رغبته بمحاكمة التفاؤل الكبير لليبرالية التسعينات. ربما افضل ثناء يُقدم له هو محاكمة التشاؤم الهنتنغتوني المفرط ، وهي محاكمة قد تستبدل ذلك التشاؤم