2014-11-02 يورجين هابرماس.. الأخلاق والتواصل
|
| |
تتجلى أهمية هابرماس في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص.
يدرس مؤلف هذا الكتاب أطروحات وأفكار الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، وخاصة تلك المتعلقة بالتواصل والفعل التواصلي والأخلاق، ويعرض للاتجاهات العامة لأطروحات المدرسة الفلسفية التي عرفت باسم فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية، من خلال عرض ما تناوله بعض الفلاسفة، أمثال كانط وهيغل وفيوروباخ وماركس وسواهم. ويعتبر يورغن هابرماس أحد أهم فلاسفة المدرسة النقدية وعالم اجتماع، ومن المنشغلين بشكل كلّي بالشأن العام، وينهل، في فلسفته، من التراث النقدي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت.
وتتجلى أهميته في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص، ومحاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة الإنسانية، وبالأخص محاولات تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم.
ويعتبر هابرماس التواصل مجموعة من الترابطات التي يتفق حولها المشاركون بغية تحقيق مخطط أعمالهم بطريقة فعالة. ويظهر التواصل، بالنسبة إليه، في شكل الفعل الذي يخرج الوعي من باطنه نحو الانفتاح على الآخر، لذلك أسس نظريته في مجال التواصل على نتائج نظرية أفعال الكلام والألسنية والتداول، وأعطاها تفسيرات اجتماعية وسياسية وقانونية.
ونقطة الانطلاق في تناوله مجال التواصل هي الفضاء العام وكيفية تشكل الرأي العام، حيث يرى بأن الفضاء العام كان مجالاً أو ميداناً للتعبير عن الرأي الفكري والنقدي، ثم جاءت وسائل الإعلام لتحتله وتشوهه، وتسيطر على مضمونه، كي تجعله دعامة للإيديولوجيا والمصالح.
وبات من الضروري، مع تحول العلم والإيديولوجيا إلى أدوات للهيمنة، مساءلة الفضاء العام والتفكير في التواصل من جديد، وذلك من خلال تأسيس نظرية اجتماعية وثقافية في التواصل تسمح بالشروع في تفكير عقلي ونقدي جديد ومستقل لقضايا عصرنا، وهو أمر لا ينهض إلا بواسطة نظرية الفعل التواصلي حسب هابرماز.
ويعدّ الفعل التواصل الإطار النظري والفلسفي لنقد العقل عند هابرماس، القائم على مفهوم تداولي للغة، حيث يماهي ما بين اللغة والعقل، من جهة النظر إلى اللغة بوصفها مبدأ العقل، وتمثل العقل بالفعل أو هي العقل في حالة فعل، لذلك يمكن اعتبار العقل التواصلي عقل لغوي، حيث تشكل اللغة الأساس والمحتوى لكل مجتمع إنساني، وتحقق ذلك بشكل تداولي.
غير أن فعل التواصل بين الأفراد والجماعات هو منطلق هابرماس لفك إسار علم الاجتماع من الأطروحات التقليدية، القائمة على الوعي، ويريده هابرماز أن ينهض على الفعل التواصلي، نظراً لتميزه بطابع محدد للعلاقات التواصلية التي لا ترجع أو تختزل إلى مجرد تبادل الأخبار أو المعلومات أو المعطيات بواسطة اللغة، حيث لا يقوم الفعل التواصلي فقط على تبادل المعلومات ضمن سياق أو ظروف اجتماعية معينة، بل يقوم بتأويل ما يحدث، لأنه يسهم في بناء العالم المعاش.
والفعل التواصلي هو فعل يستلزم المحاججة والمناقش النقدية، إلى جانب الحق في الرفض أو القبول، وقد وضع هابرماس مفهوم أخلاق المحادثة الذي يعتمد على اللغة العادية، بوصفه مبدأ معيارياً نموذجياً في البلدان الديموقراطية، معتبراً أن الإنسان ما أن يبدأ في الحديث أو الحوار أو في فعل التواصل حتى يكون قد قبل بالاحتكام إلى معيار أخلاقي يخضع جميع الاختلافات للحجج والأدلة التي تحقق الإجماع، لذلك تنهض المحادثة على قاعدة الكونية والديموقراطية.
ويقترح هابرماس التواصل الديمقراطي كي يؤكد على المؤسساتية في دولة القانون الديمقراطي وإجراءات التداول التي تُلزم تقديم الحجة لتبرير شرعية القرارات. فضلاً عن أن التصور التفاعلي يتمركز فيه التواصل ما بين الذوات المشاركة على حيازة تصور عقلاني كوني للإرادة العامة، وليس على المعتقدات الخاصة بكل جماعة.
ويمكن عقد مقارنة ما بين النموذج الديمقراطي الكلاسيكي والنموذج الديمقراطي التواصلي لإعادة تأويل موضوع حماية الحقوق الفردية، إذ أن الحقوق السياسية للتواصل والمشاركة، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن اعتبارها شرطاً وضمانات لا بد منها للاستقلالية الديمقراطية، والتي لا بمكن ممارستها إلا على قاعدة الشك الدائم وإعادة السؤال فيها باستمرار.
ويبقى التفكير في شرعية القانون في المجتمعات الديمقراطية، خاصة من جهة تفعيل مقتضيات المساواة والاستقلالية بمبادئ أخلاقيات النقاش، شيئاً ضرورياً لا بد منه. لذلك يتوجب تفعيل الديمقراطية نتيجة استمرار الصراع الدائر بين تعدد المصالح وجبروت قوى السوق والاستبداد السياسي القائم في مواضع عديدة من العالم، وخصوصاً في بلداننا العربية.
حيث تأتي الديمقراطية بوصفها سؤال الضرورة للخلاص من الاستبداد وفتح الطريق أمام مختلف القوى الاجتماعية والسياسية المكبوتة للتعبير عن ذاتها، فضلاً عن أن الديمقراطية التداولية ترسي حق المجتمع المدني بكافة مستوياته وتشكيلاته في تأسيس فضاء عام للتداول، يُقدم فيه الأفراد وجهات نظرهم والحلول التي تمكنهم من التحرر من منطق الأنظمة الشمولية المستبدة، بعد عجزها وفشلها في بناء دولة لجملة مواطنيها. في حين تتيح الديمقراطية للأفراد حق إحكام تدخلهم في محيطهم وإسماع صوتهم، وتوسيع مجال الحرية والمسؤولية والمحاسبة، وهي لن تستطيع ذلك من غير الاستقلالية والمساواة اللتين تعرّفانها.
ويكمن دور فلسفة التواصل النقدي، في نقد الديمقراطية التمثيلية، وفي محاولة تحرير مجال الاتصال الإنساني من قبضة العقل الأداتي والتشيؤ والاغتراب. وينظر هابرماس إلى اللغة بوصفها وسيلةً وسلوكاً اتصالياً، وقد استخدمها في نظريته في الفعل التواصلي، التي تنهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء.
وسعى في سياق ذلك إلى الكشف عن العقل العملي الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، من خلال الاعتراف بالتفاهم والحوار السلمي، وفي ظل ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي.
والهدف من ذلك كله هو مواصلة تقاليد الأنوار، من خلال نظرية اجتماعية نقدية، تنهض على ترسيخ قيم الحرية والعدالة في الذاكرة الاجتماعية، وتربطها بقوى دولية تمكنها من تفتح نواة الخير العام، والفضاء الذي يتسع للجميع.
كما ينظر هابرماس إلى الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل، بمعنى أنها لم تحقق بعد النتائج المرجوة منها، فمشروع الحداثة عانى الكثير من الانكسارات والتراجعات، الأمر الذي حال دون إمكانية تنقية فكر الحداثة من بؤر التمركز، وأدى إلى إرهاق وعي الإنسان الحديث بجملة متناقضات أدت إلى اختلال توازنه النفسي.
لذلك، انصب الجهد النقدي على «إمكانيات إخضاع ما يشكل لاعقلانية النظام لقوانين العقل الإنساني»، من خلال فهم جديد للحداثة وممارسة جديدة لعقلانية قائمة على الفعل التواصلي، لا تلغي الآخر، ولا تهمشه، بل تتحاور معه خطابياً، عبر عقل تواصلي يعبر عن نفسه في فهم انفك تمركزه على العالم.