2014-12-04 القوة غير المستهلكة للمستضعفين
|
| |
اعتدنا النظر الى المستضعفين على أنهم عبئا ثقيلاً على الحراك الاجتماعى ونداءات الحرية والعيش الكريم، كونهم نادرا مايفكرون فى بذل الضريبة التى يتطلبها ذلك، ويفضلون بديلا عنه البقاء فى مربع التهميش ودائره الرضا بالواقع والتكيف معه، كتب فى هذا الشأن كثير من المفكرين والسياسيين والفلاسفه يعزون حالات التردى التى تمر بها الشعوب الى الاستكانه والحنين للعبوديه التى تغشى غالبية شرائحهم، ولعل أشهر من قام بتوصيف تلك الحاله والتنظير لها هو "إتين دى لابواسيه" فى رسالته الشهيره التى كتبها فى عام 1548 م تحت عنوان "مقالة فى العبودية الطوعية" فصارت منشوراً سرياً يتداوله النخب على نطاق واسع، محاولين فك طلاسم الحالة التى سادت أوربا حيث كانت وقتها تعيش فى أوضاع يرثى لها من الاستعباد وتكريس الاستبداد فى عصر كان شعاره العملى(لاشئ يجعل الآخرين يطيعونك مثل رأس مقطوع معلق على ساريه) وكان يؤسس له نظريا" فى المقابل العديد من المُنظٍرين ومفكرى السلطة من نوعية معاصره الشهير نيقولا ماكيافيلى الذى كان يشتغل بالتنظير لإسداء النصح وتوليد الافكار وطرائق التحكم وأساليب السيطره التى يمكن للأنظمة الأبوية المستبدة التترس بها والسير بموجبها لضمان إذعان رعاياهم من المستضعفين الذين لم يكن يرى فيهم ماكيافيللى سوى مجرد عوامل وأدوات مساعده لحمل الطغاه الى سده الحكم، حينما أطلق مقولته القاسيه فى الفصل الثالث من كتابه (الأمير) الذى أعده ليجعل منه كتيبا "إرشاديا" لأساليب التحكم فى الشعوب حيث قال ناصحا" للحاكم المستبد: إن المستضعفين لن يرثوا الأرض! ولكنهم إذا أصبحوا حلفاءك فمن المرجح أن يساعدوك فى إرثها منهم!، فجاء لابواسييه بأفكاره التحرريه محاولاً فتح الافاق ولفت الانظار نحو الانعتاق، مطلقا مقولته الشهيره التى ضمنها مقالته المُشار اليها قائلا: لم نولد وحريتنا ملك لنا فحسب بل نحن مكلفون بإنتزاعها والدفاع عنها، وليطرح بعد ذلك تساؤله التاريخى الذى يجب التوقف عنده طويلا، فهو من الاسئلة الحائرة التى مازات تبحث عن إجابة فى أوضاع وأحوال مأساوية تعيد إنتاج نفسها تاريخياً، كيف يستطيع شخص واحد التحكم فى رقاب ملايين من البشر يسوقوهم كالانعام؟
وتوالت محاولات المحررين ومساهمات المفكرين مع كل موجه من موجات التدافع الانسانى لإيقاظ الجماهير العاشقة للحرية ودفعها للحراك والتمرد من أجل المطالبة بحقوقها الانسانيه العادله فى ترسيخ قواعد العيش الكريم، قطعت خلالها الشعوب أشواطاً طويله فى طريق التحرر وإرساء العدل الاجتماعى والكرامة الانسانيه، حتى جاء عالم الاجتماع والحضارات الشهير غوستاف لوبون الذى حاول أن يدرس السلوك الجماهيرى على نطاق واسع، ويسجل مرئياته التى خرج بها عبر استقصاء تاريخى واجتماعى للعديد من شعوب الارض يرصد من خلاله تفسيرات عده للاحوال النفسية التى تمر بها المجتمعات التى تسيطر عليها النزعه التواقه لتحسين أحوالها والتمرد على أوضاعها،أو تلك الراضخه للسكونيه والحياة الدونيه على حد سواء،ففى كتابه الشهير"سيكلوجيه الجماهير" نراه يقرر أمراً مهماً ربما يساهم فى تفسير لغز التعلق بالزعامات الروحية أو السياسيه الملهمة، حتى وإن كان مستبدة.
يقول لوبون فى هذا الشأن: إن الجماهير لا تعقل، فهى ترفض الأفكار جملة أو تقبلها جملة واحدة من دون أن تتحمل عبأ مناقشتها، وإن مايقوله لها الزعماء والملهمون يغزو عقولها سريعاً فتتجه إلى أن تحوله حراكاً وعملاً أو خضوعاً وكسلاً.
يستنتج لوبون من ذلك قاعدة أصبحت بمثابة حجر الزاوية فى علم الثوران الاجتماعى مفادها أنه " لا جماهير من دون قائد كما أنه لا قائد من دون جماهير" هذه النتيجة الجوهرية رسخت الالتحام الذى ميًز ثورات القرن العشرين فيما بين القائد الكاريزمى والجماهير المستضعفة؛ المتعطشة للانقلاب على الأوضاع المعطوبة التى سادت دولها فى كافة أرجاء المعموره، وليتوالى الربط بعد ذلك بين تحريك الجماهير ووجود القاده الملهمين والثوار المحرضين، ولن نتحدث كثيرا عن دور العديد من القادة العظماء أمثال غاندى ومانديلا وغيرهم من الذين نجحوا فى انتزاع حقوق الاستقلال الوطنى والتحرر الانسانى لشعوبهم عبر أدوات نضاليه سلميه تبنت نبذ العنف واللجوء للعصيان المدنى مما ساهم فى إسقاط أعتى الديكتاتوريات التى استطالت ردحاً من الزمن.
وإستمر الجدل والاسهام المعرفى للمفكرين والسياسيين حول الادوار التى يمكن أن يقوم بها النخب فى تحريك وتوليد الوعى لدى قطاعات المستضعفين ومدى نجاعة ذلك الامر فى إنجاز التغيير، إلا أن هناك نقله نوعيه فى فنون الحراك الجماهيرى أحدثتها تلك المقالة التى كتبها "فاتسلاف هافيل" ملهم الثورة التشيكية فى أكتوبر 1978 عن القوه غير المستهلكة التى يتمتع بها المستضعفون الذين لاحول لهم ولاقوة !والتى تحولت فيما بعد الى كتاب منشور تحت عنوان (قوه المستضعفين)؛ ذكر فيه العديد من الفوائد الناجمة عن تلك القوة التى لا تحصى ولا تعد حتى ولو كانت فى ظل سلطات حاكمة شديدة القمع، شريطة أن تقررغالبية الجماهير المستضعفة الوقوف فى وجه الاكاذيب المحيطة بها وإتخذت قراراً ذاتياً للعيش بحق، ورغم أن كثير من الناس كانوا يعتقدون فى بادئ الامر أن مثل هذه الأفكار ماهى إلا توجهات دونكيشوتيه واهمة، تشن هجوما على طواحين هوائيه لا سبيل للإغارة عليها، إلا أن هذه الافكار التى كتبها هافيل نجحت فى إلهام جماهير المستضعفين فى تشيكوسلوفاكيا بعد 11 عاما فقط من تلك المقالة وتحديدا عام 1989نحو إزاحه أكثر أنظمه الحكم تسلطا وقمعا، والتى تكللت بتولِى هافيل نفسه رئاسه تشيكوسلوفاكيا حتى عام 1992ثم رئاسته لجمهورية التشييك عقب انفصالها عن سلوفينيا وظل بعدها رئيساً حتى عام 2003.
تكمن فاعليه مقاله هافيل وأثرها الايجابى فى كونها ماكادت تخرج الى النور حتى أُخضع هو نفسه للسجن لمده خمس سنوات متواصلة حتى عام1983، كما لم تكن حركة التضامن المعارضه التى قادت الحراك لاحقا قد خرجت الى حيز الوجود بعد،ومع ذلك لكى ندرك هذا الأثر ينبغى علينا الذهاب لتفاصيل التجربة التشيكية التى صمدت بقوه أمام تزايد يد القمع والطغيان التى بلغت ذروتها بقيام ليونيد بريجنيف الرئيس السوفيتى وقتها بإرسال أرتالا من الدبابات لمساندة الحكام الغير مرغوب فيهم هناك وللتصدى لموجات الغضب المتنامى، فلم يتمكن كل ذلك من إيقاف رغبه الجماهير المستضعفة فى الخلاص الحقيقى، وتمكن هؤلاء المستضعفون من تحقيق سلسلة من الانتصارات الباهرة فى معظم بلدان المنطقة تكللت كلها بالنجاحات عندما استمر التشيكيون والسلوفانيون فى تحدى ممارسات أنظمة الحكم العنيفة وتكفلوا بإحداث إنهيارسريع فى المعاقل التى كانت متحصنة بأساطير هائلة من الأكاذيب المحبطة فى سيمفونيه تمرد جماهيرى لم تستغرق أكثر من إسبوع!
ولقد كان من حسن الطالع لدى هافيل أن يعيش ليرى ثمرة رؤيته تتحقق فى أماكن متعدده من العالم التى هبت عليها رياح التغيير ومن بينها مصر وبعض بلدان المنطقه العربية التى استطاعت أن تسقط جدار الخوف الذى حال بينها وبين حقها فى العيش الحر الكريم، لكنها مافتئت أن تحاول الاحتفاء بهذا الانجاز التاريخى والاستمتاع بثماره على المستويات السياسية والاقتصادية حتى انتكست بها الاحوال من جديد،وتكاد أن تلوح فى الافق مؤشرات من شأنها أن تدل على ارتكاس الاوضاع وانقضاض اللحظة التاريخية على نفسها ومن ثم عودة (سياسات الخوف) لتطل من جديد محاوله نسج أساطيرها فى صورة مستعاده مره أخرى،لكنها تعود هذه المرة متمثلة فى طرفين متصارعين يُسخٍر كل منهما أقصى مالديه من قوة وعنف لاحكام السيطره أملاً فى بسط نفوذه والظفر بالتركة وأعنى بهما تحديداً:
- تلك الانظمة التى قامت عليها الموجات الثورية وأسقطتها لكنها تحاول العوده هذه المره بأن تتسربل بأردية مغايرة ومموهة عساها أن تحكم شباك خداعها وسيطرتها على الجماهير.
- أو جماعات العنف والارهاب الدينى والسياسى التى تحاول هى الاخرى فى عده بلدان عربية كما نرى من حولنا أن تتلقف زمام الامور، وتصارع باستماته واستقتال عنيف وعجيب من اجل السيطرة على الحاضر ومن ثم التحكم بالمستقبل.
اذن ها نحن الآن وبعدما تخيلنا أننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الخلاص والانعتاق من صور الماضى الكئيب نجد أنفسنا بإزاء إكراهنا على الاختيار بين أمرين كلاهما مُرٌ بما يذكرنا بمقوله الاقتصادى الامريكى الشهير "جون كينيث جالبريث" حينما سُئل عن تعريفه للسياسه فقال: إن السياسه باتت تتعلق بإكراه الشعوب على الاختيار بين الكارثى والكريه! مما يدفعنا للتساؤل: ألم يكن ذلك هو حالنا الذى ندور من خلاله فى حلقات مفرغه تدفعنا للاختيار كرهاً ما بين أنظمة قبيحة أو بدائل أكثر قبحاً.
ومما يدعو للدهشة والرثاء فى آن واحد هو أنه ليس هناك أحد يتعظ من تجارب من سبقوه، ولا أعنى فى هذا الصدد الانظمة التى تحاول استنساخ ذات المحاولات الخائبه بنفس تفاصيلها فحسب، وإنما أشير أيضا للتجارب الفاشلة لجماعات العنف والارهاب الدينى التى حاولت فرض نفسها بالقوة والاكراه على مراحل مختلفه من الزمن القريب وتم دحرها، ومما يثير العجب أيضا أن كلا القوتين المتصارعتين يتترس بسلسله من الاساطير والاكاذيب التى يتم الترويج لها من خلال سطوه الآلة الاعلامية الهائلة سواء الخادمة للانظمة أو المستقلة ظاهرياً والمنتفعة محلياً ودولياً من وراء ستار، كلها تحاول حصر الشعوب بين مطرقه الانظمة الحاكمه وسندان جماعات العنف التى تصارعها.
قد لايدرك هؤلاء الذين يحاولون إداره دفة الأمور نحو إعاده إنتاج ظاهرة الخوف والتدجين الاجتماعى أن تجارب التاريخ البعيد والقريب فى هذا الصدد لم يكتب لها النجاح أو الاكتمال على الاطلاق، والامثلة على ذلك أكثر من أن تحصى لكننى أكتفى بأشهر نموذج يمكن أن يُشار إليه تاريخياً وهو ذلك النهج الذى حاول أن يتبعه فلاسفه الثورة الفرنسية الذين تحولوا الى السياسة؛ أمثال روبسبير وسان جيست وكوتون وغيرهم ممن حاولوا توظيف تلك الظاهرة (أعنى ظاهره الخوف ونظريه ترويض العبيد) على نطاق واسع، عُرفت خلالها تلك الفتره من مارس 1793حتى يوليو 1794بعهد الرهبة، وتم أثنائها قطع رؤوس 40ألف شخص بالمقصلة وإعتقال 400ألف شخص آخر! فكانت نتيجتها كارثية عليهم أنفسهم حينما أعدموا جميعا فى مشهد درامى تاريخى على أيدى الجماهير التى ظن هؤلاء أن جدار الخوف يمكن أن يُعاد إقامته من جديد فى وجوه الطامعين فى الحرية.
إن الخلاصة الاساسية التى يمكن أن يخرج بها أى باحث من دراسته لأهم مفاصل التاريخ وأكثرها حيوية فى مسأله نزوع جماهير المستضعفين الى الانعتاق من أسر التخويف والتدجين والاسترقاق، هى أنه (لاأحد يستوعب الدروس) دروس التاريخ التى تتكرر بتفاصيلها مره تلو الأخرى؛ فثقافة الخوف لم تعد مجديه على الاطلاق ويستحيل أن تًؤتى ثمارها مهما استطال أوانها أوأبدعت ميكانيزمات التحكم والسيطرة فى ابتكارأساليب جديده لايقاف حركة الزمن والتاريخ عند فاصلة ما، خاصه اذا علمنا أن قوة المستضعفين تبدأ غالبا فى جزر منعزلة وحراك عبثى متشتت سرعان ما تلتئم مفرداته لتبدأ ظاهرة التراكم الخلاق وصولا الى نقطه الغليان والثوران البركانى الذى يمكنه أن يدحر فى طريقه كل شئ وأى شئ مهما بلغت قوته. عبًر عن ذلك الشاعر الألمانى المتمرد "أرنولد بريخت" بتلك الصورة التى رسمتها كلماته الجميله المؤثره (قال الصبى: لقد تعلمت كيف تنحت المياة الساكنه الصخور الصلدة، وبكلمة أخرى:إن تلك الصلابة الى زوال!)
لقد عرفت جماهير المستضعفين بقواها السلمية الهادرة طرائق التعبيرعن شعورها بالاسى والتهميش وعن رغبتها فى إكتساب العيش الحر الكريم بحق، وتعلمت كيف تنخر كالسوس فى بنيه الانظمة التى تتبنى الارهاب والتخويف فى نهجها السياسى، بما يقطع الطريق على سياسات التدجين واستنساخ صور الماضى الكئيب... فهل مازال هناك أمل فى أن نجد من يستمع لدروس الزمان ويستوعب تجارب السابقين