القصيـــدة والجســد
هذان صنوان كانا رضيعي لبان منذ أزمان قد لا يكون أبعدها ذلك الزمن الذي وقف فيه الملك الضليل يبكي ويستبكي من ذكرى الأحبة والديار, كان الجسد حينها ممتلئا وكانت القصيدة كذلك ممتلئة في فضاء فارغ فوضوي حيث لا نظام ولا عمران.
كان إيقاع الزمن القديم بطيئا وكان بطؤه ملائما لنشوء وهيمنة الشعر ذي الإيقاع المتكامل, فالذي يستخدم اللغة استخداما جماليا, حين يسير مسافات طويلة على قدميه أو على مطيته, في صحراء شاسعة, سيدق إحساسه باللغة وعناصرها الإيقاعية, وإن ذلك البطء ملائم تماما للجسد الممتلئ لحما وأساور وحليا, إنها عناصر متساوقة ومنسجمة مع إطارها المكاني وسياقها الزماني وبنائها النفسي والثقافي, أما الإيقاع الكوني الحديث فإنه سيقلب كل هذه العناصر رأسا على عقب لتتجه نحو الانفصام والتمدد والسرعة والسلب.
إن سرعة إيقاع الشعر حديثا وبطأه قديما أمر مفهوم, فالناس يرقصون على إيقاع زمانهم, يقول الشاعر والخليفة العباسي ابن المعتز: إذا أبصرت في حظي فتورا وخطي والبلاغة والبيان
فلا ترتب بفهمي إن رقصي على مقدار إيقاع الزمان
وفي سياق كوني حديث تقلصت فيه أبعاد الزمان والمكان سيكون للرقائق أهمية متزايدة في حياة الإنسان المعاصر, وذلك في مناح عديدة كتقنية المعلومات والأدب والجسد والمائدة, من منا ينكر اليوم الحضور الحاسم لرقائق الحاسوب ورقائق البطاطا ورقائق السباغيتي؟ ولم لا نقول رقائق النساء؟
لا أريد أن أشيئ المرأة (أجعلها شيئا), إنما أصف ما هو موجود, بل يمكن الحديث عن رقائق الشعر, فالنص الشعري الحديث كالجسد الحديث, يسير سيرا حثيثا نحو التخلص من أعباء "الوزن" و "القافية".
لقد انتهى عهد المرأة البدينة والقصيدة البدينة التي ترفل في الأسلوب الفخم واللغة المكتنزة وتجر ذيل القافية تيها ودلالا.
ولقد توارى في بعض المجتمعات العربية أنموذج المرأة المكسال نؤوم الضحى, عظيمة الأرداف, المثقلة بالحلي من رأسها حتى أخمص قدميها.
وليس هذا الجنوح نحو إلقاء الجسد لأثقاله بحثا عن الأناقة والرشاقة سوى جانب من جوانب وعي الجسد بذاته واكتشافه إياها, وسيكون التخفيف من اللباس كنزع الحجاب وتقصير الثوب وجعل ما بقي منه لاصقا بالجسد عاكسا لتضاريسه مظهرا آخر من مظاهر تعرف الجسد الأنثوى على ذاته تعرفا سيتواصل ليقترب من العري ويرادف الشبقية وذلك في مجتمع استهلاكي وثني قارت (Omnivore).
إنه عصر الأيقونة الشاخصة والصورة الصنمية البازغة التي تتحرك بسرعة فتوجد في كل مكان, لا يحجبها شيء, إنه أيضا عصر "عبادة النجوم" الجديدة التي تتصل بنسب عريق بوثنية اليونان والرومان.
في هذا المضمار تتدافع الموجودات وتنسحق الأشكال وتتقارت الكائنات لاهثة وراء الإيقاع السريع لعجلة التاريخ.
إنه لمن الطبيعي أن تتخلف الأشكال الديناصورية الضخمة البطيئة جسدا ونصا ونظام إيقاع عن الركب السريع لإيقاع الكون الحديث, فقد أثبتت الإحصاءات أن الطويل والبسيط وهما أهم وأضخم الأوزان في النسق الشعري القديم قد تراجعا في الشعر العمودي المعاصر تاركين المجال لبحور أخرى كانت أقل أهمية منهما, لنتذكر ما قاله الناقد حازم القرطاجني من أن الطويل والبسيط بحران فاقا البحور القديمة في الشرف والحسن, ولنتساءل عن معيار الشرف والحسن في المنظومة القديمة ومعيارهما في المنظومة الحديثة, لقد انتقل هذا المعيار من الامتلاء إلى السلب ومن المركز إلى الهامش ومن التشابه إلى الاختلاف ومن الخاصة إلى العامة, ولم لا نقول من الديكتاتورية إلى الديمقراطية مادام أن هذه الأخيرة هي حكم العامة؟
انظر مثلا إلى مشهد القصيدة الحرة تجد أن السيطرة فيها للبحور الهامشية البسيطة (الرجز, الخبب, المتدارك) على حساب البحور المركبة المركزية (الطويل, البسيط, الخفيف).
وليس صدفة أن تبدأ الشاعرة نازك الملائكة في قصيدة "الكوليرا" التي هي بكر التجربة الحرة, من بحر الخبب: البحر الأخير المهمل في الدائرة الأخيرة أي من حيث انتهى الخليل بن أحمد الذي بدأ أولى دوائره من الطويل.
وليس صدفة أيضا أن سيطرة البحور الهامشية على القصيدة الحرة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي انتهى إلى سيادة قصيدة النثر على المشهد الشعري العربي في التسعينيات.
ويمكن القول إن قصيدة النثر هي إحدى المعادلات الرمزية للجسد الأنثوي النحيل شبه العاري الذي نشاهده في جل مدن العالم الحديث, حيث لا أثر "للوزن" ولا "للقافية", تماما مثل ما كانت القصيدة القديمة معادلا رمزيا لجسد المرأة ا لممتلئ (لنقرأ معلقة عمر ابن كلثوم).
هذه التحولات الشكلية التي طرأت على القصيدة والجسد معا والتي هي ترجمة للوعي السالب المفضي إلى إلقاء الحمل في بعض رهانات العصر الحديث, هذه التحولات تنسجم وتتناغم تماما مع مرحلة جديدة يعيشها الوجود البشري وهي تسارع إيقاع التاريخ حيث تسير الكائنات والأشياء بسرعة فائقة في ماراتون أممي يحاول كل طرف فيه أن يتخلص مما يعيق حركته من أثقال مادية ومعنوية, وكل موجود يبطئ السير سيتخلف عن الركب وستدوسه الأقدام.
ولا غرابة في الأمر فنحن نعيش عصر العلم, وهناك علاقة حتمية بين العلم والسرعة, قال تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك... الآية).