الدواعش إرهابيون، لكن فكرة الخلافة تعتبر مثلاً أعلى لدى المسلمين
جون كيزي - ترجمة إبراهيم قعدوني
2015 / 7 / 7
الدواعش برابرة- غير أنّ فكرة الخلافة تعتبر مثَلاً أعلى للمسلم.
جون كيزي*
صحيفة الاندبندنت البريطانية
قبل عدة سنوات في القاهرة كنت ألقي كلمة أمام الطلبة الخرّيجين وعدد من أساتذتهم في جامعة الأزهر، المركز الأبرز للدراسات الإسلامية وأحد أقدم الجامعات في العالم، وفي غمرة النقاش أورَدَ أحد الطَلَبة شيئاً عن "الرسالة الأممية للإسلام" وقد بدا جادّاً للغاية حينَ بادرته بأسلوب إنكليزي نمطيّ محاولاً تلطيف لهجتي قائلاً: «يبدو وكأنّك تتحدث عن استعادة الخلافة» وقصدي أن أكون مازحاً في مخطابتي له ومؤكّداً على صحة فهمي لما ذكره، حيث أنني في تلك الأثناء لم أكن أسمع بأي أحد على الإطلاق يجد مصلحةً في إحياء فكرةٍ كان الأتراك قد تخلّوا عنها للتوّ في مطلع القرن العشرين كما أنّ نسختها العربية قد اندثرت منذ قرون، غيرَ أنّ الشاب وضع يده على صدره قائلاً برسميةٍ شديدة: «إنّها أغلى الأمنيات على قلوبنا جميعاً»
إلاّ أنّ الجميع يدرك الآن أنّ الخلافة أصبحت طموحاً معلناً لداعش في العراق وسوريا، حتى أنّها نصَّبت خليفتها مما فتح الباب أمام «أغلى أمنيات» أولئك الطلبة طريقها لتتحقق عبر جزّ رأس في فرنسا وتفجيرِ انتحاري في الكويت وقتلٍ جماعي للسياح البريطانيين في تونس، وقد صوّر كاميرون مفهوم التعاطف مع فكرة الخلافة هذا على أنه أحد أركان سرديّة العنف.
في الأسبوع الماضي، توجّه برنامج "اليوم" التلفزيوني بسؤاله للجالية المسلمة في بريطانيا حول العدد الملحوظ من أفراد جاليتهم الذين يتوجهون الى سوريا للقتال، وقد جاء طيف الإجابات على النحو التالي: - «يتم غسل أدمغتهم، أو إغواؤهم»، أو «ليس لديهم فهم حقيقي للإسلام». وقال ذكر رجل مسن أنّه ببساطة لم يتمكّن من فهم السبب الذي يدفع بثلاث أمّهات للتخّلّي عن أزواجهن واصطحاب أطفالهما التسعة إلى منطقة حرب، كما وردت تفسيرات أخرى فحواها أنَّ- «هؤلاء الشباب يذهبون لممارسة الجنس»، أو «من أجل المال»، أو من أجل إشباع «ساديّتهم» حتى أنّه كانت هناك محاولات غريبة لإلقاء اللوم على الشرطة البريطانية في دفع بعضهم إلى التطرّف.
تلفّني الحيرة على نحو عبثيّ، ما السرّ إذاً؟ حين سقطت محاولتي العرجاء للمزاح في الأزهر أدركت بأنّ بعض الأفكار لم تندثر لأنّ فكرة الخلافة لازَمَت وجود الإسلام نفسه، والمسلمون في أنحاء العالم يشكّلون مجتمعاً واحداً يُعرَفُ بـ"الأمّة" وهذه ليست قناعة ثلّةٍ قليلة من المسلمين، إنّما هي مفهومٌ متأصّل في معظم التقاليد الإسلامية، حتى وإنْ جعلت الانقسامات داخل العالم العربي من فكرة الخلافة فكرةً مستحيلة، فإنّ لدى غالبية المسلمين حول العالم استجابة فطرية لهذا المفهوم كونه أحد المُثُل العُليا.
الزعيم الذي بمباركة الربّ ينشر القانون والعدالة في أرجاء البلاد الإسلامية ينشده الخيال الإسلاميّ كما نشده الخيال المسيحي في فكرة "ملكوت المسيح في الأرض" أو كما فعلت "مدينة القدّيس أوغستين" للأوربيين لما لا يقلّ عن 1500 عام، وما ظنَّ البروتستانت المتشددون أنهم يفعلونه في إنكلترا خلال القرن السابع عشر.
علينا التفكير في الدافع الذي حذا بعشرات الألوف للمشاركة في الحملات الصليبية للأرض المقدّسة ودَفع الباباوات ليَعِدوا بأنَّ كل من مات في سبيل تلك القضية سيذهب إلى الجنة شهيداً، كانت الفكرة تتلخّص باستعادة الأراضي التي كانت مسيحية يوماً ما وآلت إلى المسلمين ولاستعادة المدفَن المقدّس على وجه الخصوص، وقد ارتكب الصليبيون فظائع بطريقةٍ تشبه إلى حدٍّ الهمجية التي تمارسها داعش، وفي النهاية عندما استولوا على القدس ذبحوا قرابة 70.000 من المسلمين حتى وصلت الدماء للرّكب، كما أحرقوا اليهود في كنائسهم كذلك.
وعلى اعتبار أنّ الأفكار غير العقلانية تسري، يمكن لي القول بأنّ الخلافة ماتزال أقلّ جنوناً من قتل عشرات الألوف لأجل استعادة مكان دفن المسيح، -بل إنّ مداواة التفتّت الذي فرضته اتفاقية سايكس بيكو على العالم العربي إبّان الحرب العالمية الأولى والتي أوجد بموجبها الفرنسيون والبريطانيون كل من سوريا والعراق لخدمة أغراضهما، - لا يعتبر بحدّ ذاته طموحاً جنونيّاً.
بعد الحرب العالمية الثانية راح القوميون العرب ينتهجون نسخة علمانية للخلافة وقد أعلن جمال عبد الناصر الوحدة بين سوريا ومصر والتي هدفت لضمّ العراق إليها، كما أنّه غزى اليمن وراح يتدخل في كافة أنحاء العالم العربي.
يمكن فهم السبب الذي يدفع بالشباب للانبهار بفكرة الخلافة-بمفهوم يجسّد المُثُل العليا القديمة وينطوي على الثّأر من الإهانات الراهنة، وبالطبع فقد حصل انحطاطٌ فظيع عبر السنين لنموذج الشاب المهذّب الرائع الذي تحدّثت إليه في الأزهر باتجاه السذاجة والفظاظة الطالبانية مروراً بتنظيم القاعدة الأكثر شراسة وصولاً إلى سادية داعش العصيّة على الوصف.
وبالرغم من أنّ لاشيء من تلك الأفكار يبدأ بكل هذه الفظاظة أو الحماقة، غيرَ أنَ نهايته غالباً ما تفضي لنتائج على هذا النحو، ومن غير الجيّد اعترافنا فقط بأننا لا نفهم أي من تلك الأسباب ملتجئين لمعرفتنا بأنّه قد تمّ التخلّص من ظواهر كهذه منذ القرن السابع عشر إنْ لمْ يكن منذ القرن الثاني عشر.
تنطوي النوستالجيا على غواية طبيعية، فمِن فكرة الإغريق بأنّ لديهم ارتباط بأثينا بريكليس في القرن الخامس قبل الميلاد وبالتالي فإنّ عليهم استعادة منحوتات الرخام الإلجيني، إلى فكرة شاه إيران وأمله باستعادة أمجاد الإمبراطورية الأخمينية القديمة، إلى المحاولة اليائسة للقوميين الإيرلنديين لإحياء الغيلية كلغة للإيرلنديين، كما سبق لي وأن تحدّثت إلى بعض الملالي الإيرانيين وقد أخبروني بأنّه كان عليهم الانتظار لـ1500 عام لإقامة دولتهم الدينية، كما تحدثت لبعض المتصوّفة في حلب والذين رغبوا بإعادة المملكة العربية السعودية لآل بيت النبي محمد.
غيرَ أنّ ما يهمنا هنا هو أنّ لدى هؤلاء البرابرة في داعش في الواقع نواة لإمبراطورية فاعلة – مساحات واسعة في العراق وسوريا، كميات وفيرة من السلاح الحديث الذي تخلّى عنه الجيش العراقي، أموال طائلة منهوبة من البنوك، وحقول غزيرة من النفط (قبل أن يهاجمها الأمريكيون).
شخصياً أميل للظن بأنّ هؤلاء الشباب الذين يذهبون إلى سوريا ينظرون لأنفسهم على أنّهم روّاد في بناء المدينة الفاضلة- على الرغم من أنّ الأمر ينتهي بهم إلى "تعلّم حبّ الذبح".
لاشك بأنّه يجب القضاء على داعش، إلاّ أنّ لدى السيد كاميرون الحق حين يفترض بأنّ هذه الطوباوية هي ما يدفع الكثير من إخوةِ داعش في الدين للتغاضي عنه دون أدنى محاولة لمواجهة الآثار الناجمة عن محاولة وضعها موضع التنفيذ.
ترجمة: إبراهيم قعدوني – عن صحيفة الاندبندنت البريطانية – عدد يوم السبت 4-7-2015
*جون كيزي: زميل كلية غونفيل وكيوس في جامعة كامبردج ومؤلّف كتاب "بعد الحيوات-دليل إلى الجنة والجحيم والعذاب"
رابط المقال باللغة الأصلية: هنا
-;-
- See more at:
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=475338#sthash.sVwS5vvM.dpuf