رهانات الاختلاف في مجتمعاتنا: العراق نموذجاً
26 أغسطس 2014 بقلم
عامر عبد زيد الوائلي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:الحديث عن المختلف، سواء أكان فكريًا أم سياسيًا أم دينيًا أم اجتماعيًا.. إلخ من أوجه التباين في الرؤية والمصلحة بين الناس، هو أمر طبيعي، ولكن في الوقت نفسه يُشكّل خطرًا داهمًا يهدد السلطات القارة والمصالح التي يتخذها البعض وسيلة للهيمنة على مقدّرات الآخرين تحت مظلة أحد تلك المشروعيات الدينية أو الأخلاقية أو السياسية، والكُلُّ يدّعي أحقيته في احتكار المعنى والذود عن تلك البلاغة التي يدّعيها، ممّا جعل الحق أكثرَ المعاني تيهًا بلاغيًّا؛ لأنّ الكل يدّعي امتلاكه، حتى تاه معناه في فيض استعارات السلطة وبلاغتها. لكن يبقى هاجسنا هنا هو وعي الإنسان الذي أجده كصورة الجبل الثلجي الغاطس أكثر مما هو ظاهر. وهنا تبرز مصداقيته بوجه التهويل وبلاغة التزييف. فالوعي رهان المثقف؛ لهذا أجد أنّه مهما اختلف المثقفون مع بعضهم بعضاً في وجهات نظر ثقافية أو سياسية، فستبقى مسؤولية وشرف أيٍّ منهم مقرونة بحرصه على توسيع مدى حرية زميله المختلف معه.. مثقفونا أو أغلبهم يشذّون عن هذه القاعدة الذهبية المقدسة التي قامت عليها فلسفة التنوير، بالمقابل انقلبت المقولة في زمن الصراعات المذهبية والإثنية. والدافعُ الحقيقي هو المصلحة وإنْ أخذت قالبًا يتنوع بتنوع الفكر السائد، فأصبحت المقولة اليوم: "أنت عدوي الذي ينبغي دحرُه وتسفيهه وتشويهه ما دمتَ مختلفاً معي". مقولةً تُخفي عقلية التغالب التي تشكل وجودًا عميقًا في واقعنا الثقافي والسياسي والديني الذي وصل إلى حدّ تجاوز ما استقرت عليه الإنسانية بكل أعرافها، فأصبح القتل سهلاً ومبتذلاً إلى حدٍّ متطرف. وفي زماننا صار للقتل أشكال وآليات متنوعة إلى حد بعيد تتعارض مع المعايير الأخلاقية التي تتنافى مع معايير الحوار والتعايش والتداول والعمل والمصالح الحياتية، وقد تحدّث سقراط في فلسفته الخلقية عن عدد من الفضائل التي تلي المعرفة، وهي رأس الفضائل عنده، ومن هذه الفضائل العمل. فالعمل هو السبيل لكي يحصّل الإنسان ما يحتاجه في حياته من أمور أساسية، وألّا يعتمد في ذلك على غيره. والعمل يجعل الإنسان في احتكاك مع معطيات وأحوال الواقع المعيشي مما يزيد معارفه في ما ينبغي أن يتعرّف عليه، وفي كل ما يرتبط بحياته وواقعه.
نعم العمل والحاجة إلى سدّ الرمق قد تكون مهمة في تجنب العنف والكراهية، أي لابد من التأسيس للتواصل الحياتي القائم على معايير العيش المشترك الذي من أهم ضرورياته الابتعادُ عن التوظيف الرمزي العنفي للخلافات السياسية والدينية التي تبدو كأنها صراعٌ وجوديّ، بل علينا النظرة العملية التداولية التي تجعلنا نتحول من أداة للعنف تجعلنا مجرد وسيلة في يد العقل الاستراتيجي للفِرَق والقُوى المهيمنة الأداتية إلى صانعي سلامٍ وممارسي آليات الحوار التي لا تجعل شيئًا يعلو على مصلحة الناس واستمرار عيشهم المشترك في فضاء عمومي رحب تداولي.
وجد أفلاطون من قبل في الحلم المثالي أنّ الإنسانية في هذا المجتمع لم تقصد بلوغ السعادة عن وعيٍ وإدراك؛ لأنها تفتقد الإرادة الحرة، فالإنسان في هذا العصر يكون فاضلاً لعدم معرفته طريق الرذيلة، بعبارة أخرى إنه لم يُمتَحن ولم يُعرّض لابتلاء وهذا هو مطلب أفلاطون، فهو يدعو الإنسان ليكون فاضلاً مع كونه مدعُوًّا إلى الرذيلة مع يسر طريقه إليها، أي يكون عفيفًا مع شهوته، أبيًّا عزيز النفس مع حاجته، باختصار أنْ ينجح في الامتحان ويجتاز العقبة، وذلك من خلال سيطرة النفس على شهوات الجسد.
بمعنى آخر إنّ الإنسان يجب أن يكون ميّالاً إلى التعامل الدينامي مع التحدّي المتمثل بصراع القوى والقراءات والمؤسسات لامتلاك الهيمنة على المجتمع والناس بكل الوسائل سواء أكانت سلميةً أم عنفيةً، هذه التحديات يجب أنْ تُعمِّق في الشعب بكل أطيافهِ الإرادةَ الحرة التي تقوم بإشاعة أهمّ شيء وهو التحدي والمقاومة وإزاحة هيمنة كلّ خطاب شمولي يريد أنْ يحتكر المعنى، ويفرض بلاغته بكل أطيافها واستعاراتها المهيمنة التي فقدت الحياة، وتحولت إلى رؤية منزويةٍ لا ترى في الوجود سوى بلاغتها وسرودها التخييليّة التي لم تُنْتِج سوى الدمار؛ لأنّها تعبّر عن أمراض اجتماعية ونفسيّة بحاجة إلى المعالجة حتى تجد لها حلًّا وصياغةً مختلفة تزيل حبستها النفسية والاجتماعية.
من أجل صياغة الحياة التي تعبّر عن معاني الفضيلة التي عرّفها أرسطو من قبل بالقول: "هي ملكة خلقية مرتبطة بالاختيار قائمة في وسط قابل للتحديد بناءً على مبدأ عقلي، وعلى أساس هذا المبدأ يحدده صاحب الحكمة العملية".
أي الفضيلة تقوم منذُ أمدٍ طويل في العقل الفلسفي على الركائز الأساسية "الاختيار، والوسطية، والعقلانية، والعملية، كم هي أفكار مهمة غُيِّبَت عن واقعنا عبر تغييب الوعي الفردي، وهيمنة الفكر الشمولي المفارق للوسطية الذي هيمن على الواقع العراقي، وذلك عندما هيمنت عليه الأفكار الشمولية التي غاب فيها الانتخاب الحر والوعي، ومن ثَمّ غابت الوسطية، وحلّ التطرف والهيمنة، وحلّت إرادة الحزب الشمولي بكل تنوعاته القومية واليسارية والإسلامية الميّالة إلى فرض قراءة معيّنة للتراث على الناس وتحويله إلى مُجرّد توظيف آيديولوجي نفعيٍّ يقوم على تحويل النخب من الناس من المكوّنات كافة إلى مجرد جماهير، هذا وقد أكمل التغييب دوره الخطير ليشمل أيضًا تغييب العقلانية والعملية، وحلّت محلها أفكار وهمية تعتمد التجييش والعنف اللذين يُحدثان حراكًا عاطفيًّا وتغييبًا لعقل الإنسان الحر الذي غُيِّب في السجون والحروب والمقابر الجماعية، أو هُجِّر بعيدًا يبحث عن الأمان في أوطان أُخَر كانت أكثر رحمة عليه من وطنه وأهله على الرغم من غربته فيها.
واليوم بعد كل هذا العنف الذي يذكرنا بكل التحولات العنيفة من الثورة التي مزقت الملكية وتمزيق الثوار بعضهم البعض وهم ينفون بعضهم بعضًا رمزيًا وفكريًا عبر بلاغاتهم الآيديولوجية: القومية أو اليسارية أو الإسلامية، بعد كل هذا العراك العنيف الثوري جاء التغيير عبر الخارج من أجل إشاعة قيم الديمقراطية، وقد جاءت الأفعال العنيفة للغزو وما تبعه من صراع جعلني أستنتج أنّ الموت أكثرُ الهدايا التي يزفها العالم إلى بلدي. لقد جعلت البلد يخوض في صراع عنيف على السلطة وصراع عنيف من قبل دول الجوار في توجيه سياسة البلد بما يتفق ومصالحها؛ لهذا دخل البلد في معترك صراع استراتيجي بين الدول الإقليمية والغرب في توجيه سياسة العراق واحتواء المكونات التي هي الأخرى لم تنجُ من تلك المتغيرات، وهكذا تشكلت كل تلك القوى مع إرادة الشعب الذي عبّر بقدر المتاح عن إرادته، في ظل انشطار الخطاب الإسلامي الثوري على أسس طائفية يعيش البلد بين سلطة منتخبة وبين قوى ترفض هذا الأمر في ظل فضاء إقليمي ودولي.
هنا علينا أنْ نبحث عن إمكانات من أجل تأسيس فضاء عمومي كما تصوره (كانت) و(هابرماس) قائم على التداول السلمي والعقلانية والحوار بين كل الأطياف من أجل صياغة حياة سياسية وثقافية تتسم بالتنوع والتعددية، وتؤمن بالتعايش في ظل أفق قانوني دولي يمثّل العراق جزءًا منه، وهو وريث القيم الحداثية القائمة على المواطنة وفلسفة القانون التي ظهرت مع الثورة الفرنسية. واليوم وقد تجلت عالميًا في - الإعلان العالمي لحقوق الانسان - وقد نصت المادة 19 من مبادئه: "إنّ لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير عنه، وهذا الحق يتضمن حرية اعتناق الآراء بدون تدخل خارجي، وحرية البحث وتلقي وتوزيع المعلومات والأفكار بكافة وسائط النشر والإعلام". وهو أمر أصبح ضاغطًا وله مرجعيته؛ لذلك علينا أنْ نصغي إليه ونحن نسعى إلى تأسيس تعاقد اجتماعي جديد، فعلينا تأكيد الإرادة الحرة والحريات، إذ هناك اليوم حاجة ماسة للتصدي إلى الأمور الآتية:
أولاً: (الحريات) هناك إجماع لدى المراقبين حول ما يدور في العراق وهو: أنّ حرية الرأي في العراق، سواء بالنسبة للصحفيين أم للأفراد ما تزال غير مكتملة، فهاجس الخوف ما يزال قائمًا من احتمال الاستهداف لكل من يريد إبداء رأيه إزاء قضية ما. وبعضهم على الرغم من اعترافه بهذه الحرية إلا أنه يصوب العوائق إلى ملكية وسائل الإعلام التي تهيمن عليها إرادة سياسية تابعة إلى أحزاب في السلطة أو خارجها، ومن الطبيعي أنّ هذه الوسائل الإعلامية تغض الطرف عن أخطاء أحزابها أو المسؤولين التابعين إلى تلك الأحزاب، موضّحًا أنّ الصحافة في العراق تنقسم إلى صحافة تنتقد الظواهر بشكل عام وأخرى تمجد الأحزاب التي تمولها. وهذا ما يجعلنا نرصد الواقع ونطالب بالمزيد من الحرية والنقد؛ لأنهما الوسيلة المثلى من أجل بقاء الوطن واستمراره كبلد ديمقراطي تعددي. هذا نقد علمي يبعدنا عن الانفعال؛ لأنّ الانفعال يجعلنا أقرب إلى العاطفة وأبعد ما نكون عن العقل والعقلانية.
الثاني: (الفساد) في توصيفنا للنظام الديمقراطي نجد أنه يقوم على عامل أساسي هو الجانب المعنوي في سلوك الأفراد القويم الذي يجعلهم يرهنون سلوكهم بمرضاة الأمّة التي يحتكرون تمثيلها، فلابُدّ من أفقٍ معنوي يصنع تلك الشخصيات، ويوجه سلوكها، ويجعلها تمتلك قيمة معنوية تقوم على نكران الذات ومحاسبة النفس، وكلما أوغل السياسي أو الممثل البرلماني في الجانب الشخصي والمادي كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية وقيمها؛ لأنه يغلّب مصالحه على مصالح الأمّة، وهذا يجعل النظام الديمقراطي يفقد المصداقية في عيون الناس. وهذا يتطلب نكران الذات إلى جانب المراقبة القانونية والإعلامية التي تحول دون توسع الفساد.
الثالث: (الرؤية التعددية) الأخلاق والقيم الضرورية للمجتمع الديمقراطي -إذا أردنا التوصيف- فيمكن أن نقول: إنّ الأخلاق الديمقراطية تتلخص بكلمة واحدة هي (السماحة)، فهي الصفة التي إن وُجدتْ في المجتمع حقّ لنا أن نسميه مجتمعًا متعاونًا؛ لأنّ السماحة وتقبّل الرأي الآخر هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن نتعايش مع الآخر ونتعاون معه على ما نتفق، وحتى إذا اختلفنا في الآراء والتوجهات تبقى السماحة هي صمّام الأمان الذي يضمن فضّ النزاعات بوِدّية مهما كانت حدتها. والتي تقتضي بالضرورة (التحمّل والمداراة) مِن الحكومة والأفراد تجاه الرأي المخالِف في الحقل السياسي أو الديني أو أي شيء آخر؛ لأنّ هذا الاعتراف الرسمي بحق الآخر في مشاركته الحياة السياسية العادلة يعني إشعار الآخر بالمساواة بعيدًا عن الإقصاء، لكن شريطة أن يتقبل الآخر النظام ويعترف به ويبتعد عن العنف والنظرة الشمولية التي تستبطن الإقصاء وعدم الاعتراف والتمرد. مما يعني الاعتراف بإرادة الأغلبية وترتيب الأثر عليها في دائرة العمل والتطبيق، فلابُدّ -إذن- من الأخذ بنظر الاعتبار الحقوق السياسيّة وغير السياسيّة للأقلّيات في ذلك المجتمع. لكن تبقى إرادة الأغلبية ليست أبدية، بل هي رهينة مقبولة بشكل مؤقّت وتكون معتبرةً إلى زمان الحكومة التالية، فربّما يتمّ استبدال مقرّرات بمقرّرات أخرى، فالمقرّرات السياسيّة ليست دائمة، بل هي رهينة الأمّة والفعالية الانتخابية، وهذه هي أهم القيم لنظرية "سيادة الشعب"، وخارج هذه السيادة يعني التبادل العنيف، ومن ثمّ النفي والمطالبة بالإزاحة الرمزية والوجودية على أسس طائفية تجعل المنتمي لوطنه غريبًا، والقريب للطائفة -وإن كان خارج الوطن- قريبًا، فإنّ هذا النفي لا يُولّد إلا سلب الآخر حقه على أسس المواطنة.
الرابع: (تأسيس للفضاء الديمقراطي) ومن أجل تحقيق النظام الديمقراطي في واقع الحياة يجب أن يتحلّى أصحاب القدرة أيضًا بهذه الأخلاق والقيم، فهذه الأخلاق والقيم ينبغي أن تجري في أوصال الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وهذا لا يتيسّر إلّا إذا تمّ تضمين هذه القيم والأخلاق الديمقراطيّة في مناهج التعليم، والتربية السياسية والاجتماعية للأفراد، سواء أكان في محيط الأسرة أم في المدرسة أم في الجامعة أم في حقول العمل الاجتماعي الأخَر، فالناس ينبغي أن يعيشوا هذا الجو، لأنّهم عندما يسلكون الحقل السياسي فإنَّ تحمّل الآخرين يبدو لهم أمرًا طبيعيًا، ولا يكون أمرًا صعبًا جدًا وغير عادي. فإذا تحمّل الإنسان المخالف له في المدرسة فعندما يصل إلى مقام سياسي يكون بإمكانه تحمّل المخالف له برحابة صدر، ولكن إذا كان ذهنه في المدرسة مشحونًا بعنصر التعصب والدوغمائية فإنّه لا يتحمّل من يجلس إلى جانبه في البرلمان والحكومة ويخالفه في العقيدة السياسية، فهذه الأمور يجب أن تتكرّس وتتوغّل في واقع المجتمع وتدخل صلب عملية النظام التربوي في المجتمع.
الخامس: (الإرهاب) ضمن حدود الممكن السياسي لكن في ظلّ حماية الدم العراقي فهو المقدّس الوحيد فوق الجميع حتى الوطن، يجب أن نعيد النظر في الخطابات القائمة على النظرة التضحوية الشمولية وإحلال الحرية والعدالة والوسطية حتى لو تعارضت مع بقاء الوطن كمكوّن بلا روح، فالوحدة لا تعني الهيمنة بل التعددية والمشاركة وألّا تحوله إلى كابوس؛ لأننا حينئذٍ علينا أنْ نبحثَ عن حل عقلاني يبعد عن الناس العنف المفرط الذي يهدد وجود الشعب العراقي وهو يتعرض إلى الإبادة، نعم الإبادة، علينا أن ندرك أنّ هناك حراكًا إقليميًّا من أجل إبادة مكونات معينة من هذا الشعب، فعلينا أنْ نفتح حوارًا مجتمعيًّا واسعًا لمناقشة المصير؛ لأنّ المهمّ هو الإنسان، وهناك مسؤولية أخلاقية وشرعية على من يتصدى إلى هذا الأمر أو يناقشه.