تمهيد
دراسة التاريخ هي ليست فقط دراسة أحداث الماضي، لكنها أيضًا دراسة كيفية وصول هذه الأحداث إلينا. إن الإجابة على التساؤل الثاني هي الإجابة الأهم بين كل الأسئلة عن التاريخ، فهي التي تحدد مدى مصداقية الروايات التاريخية وعما اذا كانت قد حدثت فعلا.
هناك نوعان من المصادر للحدث التاريخي:
مصادر أولى (رئيسية) primary sources ومصادر ثانوية secondary sources. المصادر الأولي (الرئيسية) هي أولى المصادر التي تذكر الحدث، وفي العادة تكون إما مصادر معاصرة أو مصادر بعد الحدث بوقت قصير. أما المصادر الثانوية فهي تلك المصادر التي تنقل الحدث معتمدة على المصادر الأولية. المصادر الأولية ليست بالضرورة مصادر صادقة والمصادر الثانوية ليست بالضرورة ايضًا ناقل أمين من المصادر الأولية، لذا فدراسة كيفية وصول الحدث الينا تحتم ان نحلل ونقيم كلا من نوعي المصادر.
هيباثيا Ὑπατία والتاريخ
ماذا عن هيباثيا؟ فيلسوفة الأفلاطونية المحدثة، عالمة الرياضيات، والتي تسبب كيرلس السكندري في مقتلها؟ تلك التي جسدتها راشيل فايس Rachel Weisz في فيلم أليخاندرو أمينابار Alejandro Amenábar أجورا Agora.
في مصادر التاريخ القديم، لا نجد سوى أربعة مصادر فقط من حيث الأهمية التاريخية تذكر هيباثيا أقدمها يرجع للقرن الخامس:
1. المصدر الأهم والثاني من حيث القدم هو المؤرخ الكنسي سقراط (389م-؟) ويذكر هيباثيا في كتابه تاريخ الكنيسة 6.5 (الكتاب السابع. فصل 15) ، يذكر سقراط ان هيباثيا كانت إبنة للفيلسوف ثيون، وانها أظهرت براعة في الأدب والعلوم وفاقت كل فلاسفة عصرها، وأنها كانت تشرح مبادئ الفلسفة لتلامذتها. وفي معرض حديثه عن مقتلها يقول سقراط: "لكنها سقطت ضحية للغيرة السياسية التي سادت في ذلك الوقت" ويضيف سقراط ان نتيجة قربها من الحاكم اوريستس صارت شائعات انها السبب في عرقلة المصالحة بين كيرلس واوريستس، مما دفع البعض ومعهم بطرس القارئ لقطع طريقها في اثناء عودتها لمنزلها حيث امسكوها وجروها وعروها وقتلوها".
لا يذكر سقراط شيئًا عن تورط كيرلس السكندري في قتل هيباثيا، كما لا يعطي اي تفصيلات عن انجازات هيباثيا العلمية او الفلسفية، كما انه يذكر ان سبب مقتلها كان سببًا سياسيًا. كانت العلاقة بين البابا كيرلس واوريستس الوالي سيئة للغاية، وتخيل اوريستس ان كيرلس كان منافسًا له، وأن شهرة كيرلس واحترام ومحبة الشعب له جعلت سلطته في خطر، لذا كان اوريستس ينتهز الفرص لإستخدام العنف مع المسيحيين. كان اوريستس هو المتسبب في اندلاع العنف فقد "اندلعت أول مظاهر العنف عندما أُعتقل أحد رجال كيرلس متهمًا بالتجسس... فقبض أوريستس على جاسوس القديس كيرلس المزعوم، ثم عذبه على رؤوس الأشهاد".
ملاحظات على سقراط[1]: من المرجح ان سقراط كان مواطنًا من القسطنطينية، ولد بعد حدث مقتل هيباثيا، ولم يسبق له زيارة الإسكندرية. برغم ان سقراط يأخذ يوسابيوس القيصري كنموذج يتبعه في كتابه تاريخه الكنسي إلا انه يتميز عن يوسابيوس في أنه لا يحاول تجميل أو إخفاء الصراعات داخل الكنيسة بل يعتبرها مادة مهمة لكتابة التاريخ، ايضًا لا يحاول ان يبدو دفاعيًا بنفس قدر يوسابيوس، وبينما لا يتسامح يوسابيوس مع الهرطقات يبدو سقراط متسامحًا بقدر كبير تجاها. وبرغم ان سقراط حاول دائمًا استخدام مصادر أولى لمعلوماته إلا انه في بعض الأحيان يقدم معلومات خاطئة.
أي: لم يكن سقراط معاصرًا ولا شاهدًا على حياة هيباثيا ولا مقتلها. لم يكن سقراط من الاسكندرية. من تقييم سقراط كمؤرخ لو كان كيرلس متورطًا او كان الصراع الذي ادى لمقتل هيباثيا عقائديًا لكان سقراط ذكر ذلك دون غضاضة.
2. المصدر الأقدم عن هيباثيا هو عبارة عن رسائل من سينثيوس القيرواني (الرسالة 154) والذي كان تلميذًا لهيباثيا ثم اصبح مسيحيًا وأسقفًا بعد ذلك (370م- 413م)[2]، الرسائل التي تحوي ذكر لهيباثيا من ضمن أعماله هي ستة رسائل: 10، 15، 16، 33، 124، و154. الرسائل هي الأقدم من الناحية التاريخية لكن ليس من ناحية المخطوطات، ترجع جميع مخطوطات أعمال سينثيوس إلى القرن الرابع عشر الميلادي[3] وما بعد ذلك (منها المخطوطات Harley MS 5566 بالمتحف البريطاني)[4]. هذه الرسائل في الاساس تحكي خبرته مه هيباثيا وفي بعض الاحيان اختلافه معها، لكن لا يمكن استباط الا القليل جدًا من المعلومات حول حياة هيباثيا. كذلك لا يذكر سينثيوس شيئًا عن كيفية موت هيباثيا.
هنا نتنهي المصادر القريبة زمنيًا من حقبة هيباثيا، المصادر التالية هي متأخرة عن ذلك بكثير:
3. يوحنا النقيوسي في القرن السابع (تاريخ النقيوسي 84. 87-103): يتحدث النقيوسي (نسب الي نقيوس في المنوفية) عن أنباديا (بحسب المخطوطة الاثيوبية 146ذات الرمز A ضمن كتالوج زونتبرج- رج تحقيق المخطوطة لعمرو صابر عبد الجليل ص127) أي هيباتيا: "إمرأة وثنية تخصصت في عمل السحر والاسطرلابات وادوات اللهو... كان حاكم المدينة [اوريستس] يكبرها كثيرًا لأنها خدعته بسحرها"؛ ثم يكمل النقيوسي متحدثًا على الصراعات التي حدثت بسبب اليهود ودور الحاكم اوريستس وتورط هيباتيا في التأثير عليه؛ "ثم قامت جماعة المؤمنين بالرب مع الوالي بطرس [في المخطوطة الأثيوبية الأخرى يُدعى بولس- رج تحرير مخطوطة النقيوسي لعبدالعزيز جمال الدين ص146] وذهبوا للبحث عن هذه المرأة الوثنية التي كانت تضلل حاكم المدينة... فأنزلوها عن الكرسي وسحبوها حتى اوصلوها الي الكنيسة العظيمة التي تسمى قيسارية... ونزعوا ملابسها وسحبوها حتى أحضروها الي شوارع المدينة حتى ماتت".
يبدو من رواية يوحنا النقيوسي أن سقراط كان مصدرًا رئيسيًا له، لكن تكمن مشكلة النقيوسي الرئيسية انه كان يجمع جميع الروايات تلك التاريخية مع الاسطورية، خاصة في الجزء الخاص بنشأة العالم وتاريخ العهد القديم. ومثلما يُشير د. عمرو صابر عبد الجليل[5] فيوحنا كان أحد رجال الدين والذي بلاشك تأثر بالرؤية المسيحة في عصره التي اعتبرت ان الوثنية هي من نتاج الشيطان وهو ما نراه واضحًا في روايته عن هيباثيا.
مشكلة أخرى تظهر في المخطوطات الحبشية (وهي المخطوطات الوحيدة) التي وصلت إلينا لتاريخ النقيوسي حيث تعرض لعبث من المترجم الحبشي في أجزاء عديدة.
ترجع أقدم هذه المخطوطات الحبشية إلى القرن السابع عشر (146 زونتبرج- المكتبة الوطنية باريس)،
تليها المخطوطة (818 شرقي-المتحف البريطاني) وترجع للقرن الثامن عشر ومكتوب عليها انها تُرجمت من العربية على يد جبرائيل المصري عام 1602 ويعني هذا أن الترجمة الحبشية هي ترجمة عن ترجمة عن الأصل القبطي مما قد يوحي إلينا بكم التحرير والعبث الذي قد يكون قد تعرض له النص،
ثم مخطوطة (31- كتالوج انطون العبادي للمخطوطات الاثيوبية)، وهي غير منشورة ولا يذكر الكتالوج تاريخ المخطوط. (راج
A. Antoine D’ Abbadie, Catalogue Raissone De Manuscrits Ethipoiens. Paris 1859, pp.37-40)
4. مدخل في معجم السودا Suda Lexicon Σοῦδα[6]: وهي موسوعة بيزنطية ضخمة ترجع للقرن العاشر الميلادي عن العالم القديم في البحر المتوسط، وهي تحوي ثلاثون ألف مدخلاً، وهناك جدل عما إذا كان المؤلف يٌدعي Suidas أم ان العمل هو لمجموعة من المؤلفين وجرى تجمعيه على يد مجهول (وهو الرأي الأكثر ترجيحًا الآن)[7].
تذكر السودا هيباثيا في إقتباس من كتاب "حياة إيسيدور Life of Isidore" لدماسكيوس Damascius فيلسوف الأفلاطونية المحدثة السوري (مات بعد 538م). يقول الإقتباس أن "إبنه ثيون عالم الهندسة والفيلسوف السكندري، كانت هي نفسها فيلسوفة معروفة. وقد كانت زوجة للفيلسوف إيسيدور، وزاع صيتها أثناء حكم الإمبراطور أركاديوس".
تعليق
تختلف إذًا دراسة التاريخ من مصادره الأولية عن دراسته من الكتابات الحديثة؛ إن النقل عن دراسات تاريخية تنقل عن دراسات نقلت بدورها هي الأخرى عن دراسات غيرها دون الرجوه أبدًا إلى مصادر التاريخ الأولى يؤدي إلى تيه المعلومة التاريخية وسط طبقات وطبقات من المعلومات المضافة والتحليلات النابعة عن رؤى شخصية والتزييف الناشئ عن عمد أو عن جهل.
لا مفر في دراسة التاريخ إلى الرجوع إذًا مصادره الرئيسية قبل التعرف الي الكتابات الثانوية ولنا في هيباثيا مثال.
[1] راجع محاضرتي "Nicaea and its Documents" في مؤتمر: مجمع نيقية ومصادره التاريخية بالإنجليزية على
[url=http://www.strengholt.info/images/stories/Nicaea Historigraphy%281%29.pdf]
http://www.strengholt.info/images/storie...phy(1).pdf[/url] [2] نص الرسالة على
http://www.livius.org/su-sz/synesius/syn...tters.html [3] Alan Cameron and Jacqueline Long, Barbarians and Politics at the Court of Arcadius, University of California Press, Berkeley 1993, p. 38
[4]
http://www.bl.uk/manuscripts/FullDisplay...ey_MS_5566 [5] عمرو صابر عبدالجليل، تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الاسلامي، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية 2003، ص29
[6] السودا متاحة على الانترنت بمحرك بحث، المدخل: Ὑπατία
http://www.stoa.org/sol-bin/search.pl?lo...psilon,166 [7] Eleanor Dickey, Ancient Greek Scholarship: A Guide to Finding, Reading, and Understanding Scholia, Commentaries, Lexica, and Grammatical Treatises, from Their Beginnings to the Byzantine Period, American Philological Association, Oxford University Press 2007, p.90
كلما كان منطقنا اقوى واوضح كان اضعف في الاقناع ....لاننا كلما تفوقنا على خصومنا بالحجة , كانت حجتنا اعجز عن اقناعهم ....لاننا حينئذ نثير حقدهم وخوفهم!