هل يستحق الله العبادة؟
مسألة وجود الله مِن عدمهِ تبدو للكثيرين وكأنها مسألةٌ محسومةٌ للغالبية العظمى من البشر. فهو إما موجودٌ غيبياً دون الحاجة لطرح السؤال كما تعتقد الغالبية العظمى من المؤمنين على مختلف أديانهم المتناقضة. أو هو على الغالب غير موجودٍ لغياب أي دليلٍ يدل على وجوده كما تعتقد الغالبية العظمى من العلماء والمثقفين. أو، وهذه المجموعة نادرةٌ جداً في البلدان التي تنتشر فيها ظاهرة الهستيريا الدينية، وهي المجموعة التي لا يعنيها وجود الله من عدمه أساساً، مادام يقع خارج نطاق حياة البشر ولا تأثير له علينا فلا داعي إذن للتفكير بهِ أساساً. أي أننا نتحرك بين ثلاثة اتجاهات دائماً، الأول يقول بوجود الله، الثاني لا يعتقد بوجوده، والثالث الذي لا يعنيه الأمر بتاتاً. ومهما كان توجّهك أو انتمائك لأيٍ من المجاميع هذه فاسمح لنفسك بأن تذهب في رحلةٍ فكريةٍ قد تنعش بعض الأفكار لديك أو ربما تجد فيها جواباً لبعض الاسئلة العالقة في ذهنك.
لنفترض جدلاً، بأن الله موجود. لا حاجة لنا للاستدلال عليه أو الإشارة لوجوده لكن تبعاً لفرضيّتنا هذهِ فإن وجود الله أمرٌ واقعٌ لا نريد التشكيك فيه، تماماً كوجود الأرض تحتك أو هذه الحروف أمامك. الآن، بعد أن افترضنا وجود الله، فالسؤال الذي لا مفرّ منه هو، هل وجود الله في حد ذاته سببٌ كافي يدفعنا لعبادته؟ الجواب في طبيعة الحال سيكون، لا لسببٍ بسيطٍ جداً وهو أن قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا. وكي يكون التأثير بهذا الحجم الهائل كما تفترض الأديان للوصول الى مرحلة العبادة والشكر الهستيري المتواصل الذي يمارسه المؤمن فإن قيمة التأثر يجب أن تكون على درجةٍ عاليةٍ جداً. للمقارنة نستطيع أن نرى بأن الشمس مثلاً أو القمر أو البحر كانت في بعض الحضارات من المعبودات كما يكشف لنا التاريخ نظراً لدورها المباشر والمركزي في حياة تلك الشعوب. فما هو مدى تأثير الله على الإنسان في واقع الأمر؟ هل التأثير الأكبر لله علينا هو أنهُ من المفترض أن يكون خالقنا؟ هذا يعني بأن نزع صفة الخلق عن الله تجعلهُ عارياً تماماً عن استحقاقه للعبادة؟ أليس كذلك. لكن مرةً أخرى، هل صفة الخلق بدورها سببٌ كافي للعبادة؟
إذا كان وجود الله أزلياً أبدياً واقعاً خارج حدود الزمان والمكان، فإن قيامهِ بعملية خلق الزمان والمكان الواقع تحت قدرته والتي تم تنفيذها بإرادته بكل ما فيها من عيوبٍ وأخطاءٍ يجب أن تنطلي على هدفٍ معينٍ ذو غايةٍ عُليا تليق بكائنٍ مُترفعٍ ونبيلٍ مثله. الاحتمال الثاني بالطبع هو غياب أي سببٍ أو هدفٍ أو غايةٍ للخلق وبهذا تكون عملية الخلق عبثيةً لا طائل منها. المُشكلة التي تواجهنا في كلتا الحالتين هي أن كلاهما مُبررٌ كافي لسحب الاستحقاق الإلهي عن الله. ففي حالة وجود هدف، فإن الهدف في حد ذاته، مهما كان، ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله، وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق فإن ذلك ينفي عن الله كل الصفات الأخرى التي ألصقها بنفسهِ وببساطةٍ لم يبقى سوى كائنٍ عبثيٍ يقوم بإخراج مسرحيةٍ مليئةٍ بالكوميديا السوداء. فلماذا سنعبده؟
لكن… ربما عظمته وجلاله في حد ذاتها سببٌ كافي يدفعنا للعبادة لاإراديًا تماماً مثل الانذهال الذي أصابني عندما رأيت البحر لأول مرة، وقفت مدهوشاً في حالة تعبدٍ حقيقيةٍ لهذه الروعة العظيمة والجمال الخلاب. مِثالٌ آخر عندما لمحتُ السماء عن قرب من خلال منظاري الفضائي، أصبت بالذهول الحقيقي لمدةٍ تتجاوز الساعة وأنا أحاول استيعاب كل هذه المساحات اللامتناهية والمجرات الهائلة والبعيدة. لكن، أين هي عظمة الله وجلالهِ التي ستصيبنا بالذهول وتدفعنا للعبادة اللاإرادية؟ قد يعتقد أحدهم بأن عظمة البحر والسماء من عظمة الله، لكن إذا كان الله هو كل شيءٍ في الطبيعة فعلى نفس المبدأ نستطيع أن نقول بأن قبح ذبح طفلٍ حيٍ هو من قبح الله؟ والرائحة النتنة في جثةٍ عفنةٍ هي رائحة الله وإلى آخره من الأوصاف الأخرى التي نلصقها بالله ذهاباً وإياباً. فما الداعي إذن لعبادة الله إذا اجتمع فيه كل شيءٍ ثم أصبح لا شيء؟
ربما السبب الأكثر منطقيةٍ لعبادة الله والأكثر شيوعاً بين المؤمنين هو أن الله بنفسه طلبَ مِنا عبادته. بل حتى قام بشرح طريقة عبادتهِ بالتفصيل المُمّل بعض الأحيان وماهي الكلمات التي سنرددها وأين سنتوجّه وكيف سنحرّك أطرافنا ونهزّ رأسنا. طلبه من خلائقه التي قام بخلقها بنفسه يعتبر فريضةً غير قابلةٍ للنقض يجب علينا جميعاً الخضوع لها. لكننا للأسف نكتشف سريعاً بأن طلبه هذا جاء من كائنٍ في موقع قوةٍ تجاه كائنٍ آخر في موقع ضعف. بكل بساطةٍ فإن الله يستغل قوته وقدرته السحرية في ايذائنا ليفرض أحكامهِ علينا حتى دون أن يشرح لنا سبباً واحداً مقنعاً يدفعنا للقيام بهذه الفرائض. بل يلجأ للتهديد والترغيب (قانونياً هذه جريمة ابتزاز) لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها أو غايةً معينة. فلا هو يستفيد منها أو يحتاجها ولا نحن، بل إن ضررها في أغلب الأحيان أكثر من فوائدها لما تثيره من تبلدٍ للفكر (ترديد نفس العبارات مراراً وتكراراً) وإضاعةٍ للوقت وتبذيرٍ للجهد.
من ناحيةٍ أخرى فإن شعائر العبادة في الأديان جميعاً، خاصة الابراهيمية والمتوارثة تاريخياً كما نعلم من الأديان الوثنية التي قامت هذه الأديان بالقضاء عليها. هذه الأشكال من العبادات تعتبر إهانةً مُباشرةٌ وتسطيحٌ لفكرة الألوهة الحقيقية التي يتمتع بهِ الله كما يدّعي المؤمنون بهِ. فهذه الشعائر غالباً ما تحصره في مكانٍ معينٍ أو تعتقد بأنه يطالبها بقول كلماتٍ معينةٍ أو غسل أجزاءٍ معينةٍ من الجسد كي يسمع دعائهم. مِثال الذبائح في اليهودية مِثاٌل أكثر من واضح عن عادات النذور للآلهة التي كانت منتشرةً حينها في أرض كنعان. مِثال صوم الخمسين في المسيحية أو صوم رمضانٍ لدى المُسلمين ليست سوى بقايا للعادات والطقوس التي كانت منتشرةً في أرض ما بين النهرين ومصر لطقوس تلك الشعوب للاتصال بالأرواح وطلب رضاها وما يسبقها من تجويعٍ للنفس وتعذيبٍ وعزلة. كذلك تحريم نوعٍ محددٍ من الطعام جاء اعتقادًا من الشعوب الأولى أن الآلهة تأكل مثلهم وتحب أنواع محددة من الطعام وتكره أخرى. فهل ذبح الذبائح أو الانحناء أو رسم علاماتٍ على الوجه وترديد عباراتٍ معينةٍ هي رفعٌ لهذا الإله إن صحّ وجوده أم هي حطٌ وإهانةٌ له؟
كما أسلفتُ فإن وجود الله في حد ذاتهِ ليس سبباً كافياً لعبادته، كما أن عظمته وجلالهِ في حالة غيابها الواضح عن عالمنا الذي نعيش فيه تُسقط عنهُ الاستحقاق اللاإرادي. كما أن فشله في توضيح وجود أي سببٍ أو غايةٍ حقيقيةٍ من عبادته جعلت ممارسة العبادة ما سوى طقوسٍ عبثيةٍ وسببٍ كافي للشك في قدرته الحقيقية. بعد هذا وذاك، فإن تمتع الله بإذلالنا فقط لأنه خلقنا ينم عن عقدةٍ نفسيةٍ مرضيةٍ تحتاج لمراجعةٍ حقيقيةٍ لحسابات الله في الخلق كله ونحتاج معها لمراجعة استحقاقاته كلها لدينا. فإن التعبد لمريضٍ نفسيٍ لن يكون أسلم من عدم التعبد لنفس المريض فيما لو قام هذا المريض بتغيير رأيه فيما بعد.
ختاماً، فإن حاجة الله لعبادتنا تنفي عنه صفة الكمال لثبات حاجته. ولو افترضنا نحن حاجتنا لعبادته فإن تلك الحاجة تنفي التكليف الذي يفرضه علينا، لأن العبادة حينها ستكون حاجةً طبيعيةً مثل الحاجات الإنسانية الأخرى كالهواء والغذاء. لذلك حتى اليوم لم أجسد سبباً واحداً حقيقياً يدفع أي إنسانٍ للتعبد لله حتى لو افترضنا وجوده؟ فلماذا سنعبده حتى لو كان موجوداً؟