1
تَعِبَ الجنود طول الانتظار على الحدود، وسئموا من تَلَقِّي أوامر التقدم
والانسحاب. أخبرهم قائد المعركة أنّ الله نصير الصابرين. الصبر طال
واشْتَدَّتْ وطأة المسير. فالصحراء قاحلة والأفاعي، قبل رشاشات المقاتلين،
لا ترحم. القلق يتزايد في أوساط المُجَنَّدِينَ، فقد انفجرت قنبلة في كتيبة
حاولت التَّوَغُّلَ نحو الخط الدفاعي للعدوّ. جُرِحَ هشام وبعض الرفاق،
ولقي رشيد مصرعه بعدما اخترقت شَظِيَّةٌ جسده النحيف. تَوَسَّلَتْ أمه
المْقَدَّمْ(1)، قبل رحيله إلى الجنوب، أنْ يَعْدِلَ عن إرسال ورقة تجنيده،
لكنه فعل. ورقة التجنيد تعني للمْقَدَّمْ الكثير: علاوات مالية وارتقاء
على أدراج السلم الإداري. ثم إنَّ والد رشيد رجل لغط ومشاكل، ولن يُفْضِي
حَمْلُ زوجته إلا عن مشاغبين أمثاله؛ يضايقون الأمير ويسلبون الباشاوات
حَلاَلَ ما ورثوه عن أجدادهم. يوم جاء الحرس لأخذه إلى معسكر التدريب بكى
الجميع ونحبوا فراق الابن العزيز. أخبرهم فقيه المسجد، والسُّبحة في يده،
أنّ ولدهم سيعود بطلا. أمينة، أمّ رشيد، تصدق الفقهاء؛ فقد تزوّجت ابنتها
ربيعة بفضل دعواتهم.
رجع رشيد مُحَمَّلاً في عربة عسكرية كذخيرة فاسدة. قال والده للفقيه ساعة
دفنه : "لقد مات أملي في الحياة..ابني رشيد، كم أحببته". أجابه الفقيه
بِوَرَع وحَسْرَة : "إنّه شهيد. رشيد لم يمت، إنّه حيّ مع الأنبياء
والصدّيقين. يجب أن تفخر به"! زغردت أمينة فرحا وأخذ المُسَمِّعُونَ(2) ما
أخذوا من بركة الشهيد. أكل سكان الحي خبزًا بالزبدة والعسل في الفطور
وعادوا لأكل الكسكس عشاءً. عَسْعَسَ ظلام الغَمِّ واشتد حزن الأب التعيس.
كان يترجّى في ابنه خيرًا. أراده مهندسا أو بنّاءً على الأقلّ؛ المهمّ أن
يَعُولَ الأسرة بعد غيابه. - لم يعلم أنَّ ضريبة الحرية باهظة وأن الموت
بندقية بيد قنّاص أرْعن، لا وقت يُضَيِّعُهُ في انتقاء الضحايا، شيبا كانوا
أم شبابا- عاد هشام، صديق رشيد، من الحرب مبتورَ الساق وقَصَّ عليهم بعض
ما حدث: "أفردونا إفراد البعير المُعَبَّدِ. سرنا نقاتل الجوع وقساوة
الصحراء. بلغنا ساحة المعركة منهكين أذِلاَّءَ..فيما كنتم تسمعون على أمواج
الإذاعة أننا انتصرنا وحررنا الأرض". نَظَرَ الأبُ صديقَ ولده وتلعثم
باكيا : "ما كان آخر كلامه يا بُنَيَّ؟" عانقه هشام مجيبا: "كان رشيد صديقا
شهما. إنه أخي. لقد أحسنت الإنجاب يا عمي".
طلب الأطباء من أمينة ألا تخمّن بالمآسي مجددا وألا تُتْعِبَ ذهنها
بالتفكير في الأموات. لم تكترث لمزاعمهم. الفقيه أخبرها أن رشيد حيّ وأنه
سيشفع لها ولأبيه لدخول الجنة؛ إنه شهيد. وحتى الذين ماتوا جوعا وقهرا هم
مناضلو الوطن، ولهم نفس مرتبة الشهداء. أما ما أصابها من قرحة في المعدة
فأرجعته للمبالغة في وضع الطماطم بالشربة والإكثار من تناول المُخَلَّلاَتِ
بين الوجبات!
2
تحوّلت منازل البلاد بأكملها إلى دور عزاء. باع تجار الزّبدةِ والعسلِ
مخزون السنة خلال الأشهر الأولى من الحرب. وراح الناس يستفسرون الفقهاء عن
جواز إطعام المُعَزِّينَ خبزًا وزَيْتا. ومن قال إنّ الحرب لا تأتي بغير
الموت والدمار؟ إنها تصنع الرجال وتعلمهم كيف يتعاركون فيما بينهم؛ الحرب
تقوّي شهامة الشباب..وإنْ ماتوا وإنْ بُتِرَتْ السِّيقَانُ والأيدي؛ هم
أبطال التاريخ وحماة الملّة والتراب. الحرب تجدد الأجيال وتبيع، عندنا،
الكثير من الزبدة والعسل.
المْقَدَّمْ أصبح موظفا قارًّا ببلدية الحيّ، بمُرَتّب محترم ومكتب أنيق
وكُنَّاش ضخم يُدَوِّنُ فيه ولادات الذكور والإناث. والأطباء، مع الفقهاء،
يجوبون الأدْوَاحَ والبِطَاحَ لرفع همم الرَّعِيَّةِ وتبيان معالم
الانتصار. قال لهم الطبيب: "بالمواظبة على الممارسة الجنسية يتقوَّى البدن
ويرتاح البال..ويبقى الأزواج، نساءً ورجالا، شبابا على الدوام". وثَمَّنَ
الفقيه كلامه مضيفا : "نعم، التناسل واجب دينيّ وبه يزيد عددنا على العدو،
وبه ننتصر". ولأنهم يصدّقون الطبيب، ومعه الفقيه، راحوا يمارسون في اليوم
خمسا. وحدها فاطمة، جارة أمينة، رمقت زوجها مهزومة وسال الدمع فوق
خَدِّهَا. خافت أن تَشِيخَ أو تكون عاصية، للدين وللوطن، وهي عاقر. ضمّها
زوجها إلى صدره وهمس في أذنها : "سنمارس خمسين لنتذوّق لذّة الحياة". منذ
أن عاد هشام من الجنوب أقلع عن مجالسة أصدقائه؛ المقبلين على التجنيد.
يُذَكِّرُونَهُ بزملاء الخنادق الذين سقطوا أثناء القتال. ما زال يرى رشيد،
وهو يحتضر، بين عينيه. وتتبادر إلى ذهنه استفسارات مقلقة لم يجد لها
جوابا.
3
تقهقر الجيش وتتالت هزائمه. ارتفعت أعداد القتلى إلى عشرات الآلاف،
واضْطَرَّ تجار الزبدة والعسل إلى جَلْبِ كميات إضافية من منتوجات العدو.
فقد اختلف الفقهاء، هذه السنة، على جواز تقديم الزيت والخبز، فقط،
للمُعزِّينَ. وأجمعوا على سلامة اقتناء السلع من الأعداء ما دامت تصون
العادات. تذمّر ضابط، والرصاص يحوم فوق الرؤوس كلقالق الصيف التائهة، وخاطب
قائده : "نحن نقاتل هنا والإدارة المركزية تبيح للتجار استيراد ما ينتجه
العدو! لن ننتصر أبدًا". عَلِمَ قائده بأمر حَمْلِ زوجته فخاف على الصحة
الجِينِيَّةِ للطفل : أعطى أوامر بقطع لسان الضابط، في الحين، حتى لا يولد
له أبناء يثرثرون بلا فائدة! أمّا أمينة فلم تتوقف عن تناول المخلَّلاَتِ
بين الوجبات، رغم نصائح الأطباء، غير مكترثة من ضرر قد يلحق الجنين. كانت
تناجي نفسها : "ما معنى وَضْعُ طفل جديد يرى نور الحياة حينا وتسرقه الحرب
منا إلى الأبد! ألا يكفينا شهيد واحد، أنا وزوجي المسكين، لندخل الجنة
وليتحرر الوطن؟" وتمادت في رفع كميات الطماطم بالشربة وأعرضت عن أكل الزبدة
والعسل في مآتم الشهداء لأنها مستوردة من حيث ثأر ابنها رشيد. لم تعلم أن
الحموضة تُحْدِثُ انتفاخا في المشيمة ولم تكن تدري أن الفقيه والطبيب
والمْقَدَّمْ، الذي تَرَقَّى، والرؤساء في الإدارة المركزية؛ كلهم مساهمون
في رأس مال شركة الزبدة والعسل تلك. حينما تَطَلَّقتْ ابنتها ربيعة انفعلت
حتى انفجرت مشيمتها وانقطع الحبل السُّرِّيُّ وانقطعت معه الحياة عن الجنين
في أحشائها..قُدِّمَتْ في الأسبوع الموالي للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى:
"اغتيال شهيد". أخبرها الفقيه، في جلسة خاصة، أنها أفقدت الجيش مجاهدا
مستقبليا؛ وأنها لن تدخل الجنة! فكما تُذْهِبُ الحسنات السيئات، يمسح الخطأ
أثر الفضيلة. ولكي تتوب كان عليها إعداد الشربة بدون طماطم والإقلاع عن
عادتها السيئة : تناول الزيتون المُرَقَّدِ في الماء مع الملح والليمون.
الهوامش:
(1) المْقدَّمْ: عون من أعوان السلطة. شاع استعمال هذه المفردة زمن
الحماية الفرنسية للمغرب وبقي متداولا إلى الآن.
(2) المُسَمِّعُونَ: طلبة القرآن ومنشدو الأمداح الدينية.