16 يونيو 2013 بقلم
مولاي احمد صابر قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:الكتاب بعنوان "فتنة الحداثة صورة الإسلام لدى الوضعيين العرب" من الحجم المتوسط، يتكون من 208 صفحة، وهو من إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، والمركز الثقافي العربي في طبعته الأولى، سنة 2013. يسلط قاسم شعيب الضوء على موضوع الحداثة ومآلاتها، متوقفا عند افتتان البعض من المفكرين ذوي النزعة الوضعية العرب بالحداثة الغربية إلى درجة أنهم جعلوا منها مسلكا في فهم الإسلام؛ فقد جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان: الحداثة وما بعد الحداثة الفراغات والمآلات؛ ليعرف بالحداثة ويعريها، وينزع عنها طابع القداسة. أما الفصول الأخرى للكتاب، فهي قراءة في بعض مشاريع المفكرين العرب. يرى المؤلفأن الحداثة الغربية ما هي إلا اجتهاد، انطلق على أساس قيم محدودة، أنتجتها تصورات الإنسان الغربي؛ ولهذا فالحداثة الغربية لم تكن إلا نتيجة للعقلانية المادية التي تعتبر كون الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني؛ لتصبح الذات مركز العالم وفقا لتصورات كبار الفلاسفة الأوربيين، مثل سبينوزا، وفرنسيس بيكون، ودافيد هيوم...[1]
لقد استندت الحداثة في تصوراتها على مبدأ العقلانية والحرية، وقد ترتب عن هذه الأسس اتساع رسالة التنوير بخروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، ومن حالة العجز في استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، وفقا لتعبير الفيلسوف كانط.[2] ورغم أن الحداثة تتضمن جوانب إيجابية، فهي تتضمن جوانب سلبية قاتلة في حاجة إلى تبيينها وتسليط الضوء عليها من خلال الفصل بين الحداثة كمعطى فلسفي، وبين منجزاتها في العلم والتكنولوجيا وأدواتها في التنظيم الإداري والمؤسسات ... ويعتبر الفيلسوف نيتشه من بين النقاد الأوائل للحداثة؛ فنيتشه أول من رمى بسهم في صدر الحداثة بنبذه للعقلانية الوثنية اليابسة، وهاجم الفلسفات القائمة على أساسها، وهو الذي أسس لنقد الميتافيزيقا، وتفكيك الحقيقة والتمركز حول الذات، وانطلاقا من فلسفة نيتشه، ستواجه فلسفة الحداثة نقدا يأخذ اتجاهين: الأول؛ هو اتجاه إرادة القوة المؤسسة على نظرية السلطة، ويستخدم الأنثروبولوجيا؛ والثاني هو اتجاه نقد الميتافيزيقا الذي يعيد رسم ثقافة الذات مبتدءا من أصولها السابقة ويمثله هيديكر، ودريدا. كان نيتشه يقول: "احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته ... احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفراد طبيعيين خاضعين مستعبدين، يعيشون كالآلات...إن التقدم ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لإسعاد الإنسان".[3] لقد خلصت الحداثة في بعض من زواياها إلى تشيئ الإنسان بتزايد الانغماس في كل ما هو مادي، وإهمال كل ما يتعلق بالجوانب الروحية في الإنسان المرتبطة بقيمته العليا والتزاماته الدينية وأبعاده الأخلاقية... وهذا ما جعل الإنسان يضيع في الغرائزية المفرطة، وهذا يعني أن الحرية التي كانت شعارا لفكرة الحداثة، قد انتهت إلى سجن للذات وعبودية للغرائز، وخضوع للملذات المادية والمتع الجنسية... وقد لعب الإعلام دورا في تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك لا يفكر إلا من خلال جانبه البيولوجي؛ فانقلاب أسس الحداثة بتحول الحرية إلى عبودية، والعقلانية إلى غرائزية هو ما تعبر عنه فلسفة ما بعد الحداثة التي أصبحت تمثل الدعاية الفكرية للنزعات الفوضوية ذات الطابع التشاؤمي.
لقد وضع قاسم شعيب الحداثة في قفص الاتهام؛ فهي التي كانت من وراء إنتاج الأصوليات المدمرة التي كانت أوروبا أحد ضحاياها في الحرب العالميتين السابقتين...بل أن ما يجري اليوم في العالم من حروب تقودها أنظمة ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان... فضلا على تدمير الطبيعة باستغلالها البشع وغير الواعي. يرى قاسم شعيب أن فكر ما بعد الحداثة لا يمكن بحال أن يقدم نفسه بديلا عن فكر الحداثة؛ لكون فكر ما بعد الحداثة لا يقدم نفسه كمرشد أو ناقد للحداثة من مطباتها بقدر ما هو صورة عن سلبياتها. ويمضي بنا قاسم شعيب إلى أهمية استعادة قيم الإسلام ومبادئه في حل مشاكل الحداثة ليس على مستوى العالم الإسلامي فحسب، وإنما أيضا على مستوى العالم كله. فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بقدر ما هي تواصل معه، وهي كذلك ليست إلا تفاعل مع المنجز الحضاري الإنساني؛ فهي لا تنطلق من الصفر، بل تتمثل كل المنجزات العقلية والعلمية والثقافية في الحضارات السابقة لتبني عليها.[4] يتوقف بها المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب الذي بعنوان: طه عبد الرحمن ومأزق التكييف الحداثي. حول مشروع هذا المفكر المغربي من خلال كتابه روح الحداثة؛ فقد حاول طه عبد الرحمن من خلال هذا الكتاب أن يجعل منه مدخلا للفعل الحداثي في العالم العربي بعد فشل كل محاولات التحديث، إذ لم ترث العرب بعد نهاية الاستعمار سوى مزيد من التخلف والتبعية...[5] وقد ربط طه مشكلة التحديث في العالم العربي بعائق التقليد. ووفقا لهذا العائق، قسم المفكرين في العالم العربي إلى مقلدة للسلف، ومقلدة للغرب، بينما يرى نفسه بكونه مبدعا في نحت المفاهيم والاصطلاحات... في الوقت الذي يرى فيه قاسم شعيب، أنه يمثل النزعة السلفية التي ينتقدها[6]، ويرى فيه كذلك أنه يظهر بجلباب الحداثة الغربية[7] رغم انتقاداته لها؛ فهو لا يستحضر بأن المشكل يتعلق بخلل بنيوي في فكر الحداثة، بقدر ما يرى أن المشكلة تنحصر في تطبيقاتها الغربية، ومن ثم يدعو إلى الاعتماد على الذات في عمليات التطبيق. ومن أجل هذا المطلب، قعد لأولويات وقواعد في جلب الحداثة، وهذا مالم يتفق معه قاسم شعيب إيمانا منه بأن مشكلة الحداثة تكمن في مضمونها الفاسدة، وليس في تطبيقاتها.
الفصل الثالث من الكتاب، تم تخصيصه لموضوع النبي والقرآن في فكر الوضعيين العرب؛ وقد اختار المؤلف المفكر التونسي
هشام جعيط كنموذج من خلال كتابه
تاريخ الدعوة المحمدية في مكة؛ فهشام جعيط في نظر
قاسم شعيب لم يخرج عن مقولات الاستشراق في نفي نبوة محمد، والطعن في إلهية المصدر القرآني،[8] ومن ثم وضع نفسه في منزلق منهجي خطير مفاده استرجاع مقولات الفكر الوضعي. جاء الفصل الرابع والأخير من الكتاب تحت عنوان: الإسلام والحداثة، إذ حلول المؤلف، خلال هذا الفصل يقدم الصورة الحقيقية عن الإسلام؛ فالإسلام في نظره يملك رؤيته الكونية الخاصة من خلال ما يطرحه من حقائق تتعلق بمبدأ الوجود، وخلق العالم، ومصير الإنسان، والعالم الغيبي...فهو يقدم نفسه كوريث لكل أديان الوحي النبوي التوحيدية التي تعرضت للتحريف.[9] عندما يتحدث المؤلف عن الإسلام؛ فهو لا يقصد إسلام الفقهاء والمحدثين وغيرهم الذين يرى فيهم أنهم تحولوا إلى كهنة، يدعون احتكار الحقيقة، وتكفير المخالفين، وتبرير الواقع الفاسد، وحماية السلطان. لقد نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الله إلى درجة أنهم يرون في كل اجتهاداتهم أحكاما إلهية لا يجوز تجاوزها أو حتى الاستهانة بها.[10] والحل لهذه المعضلة في نظر المؤلف هو ضرورة قراءة الإسلام في نصوصه الأساسية بطريقة جديدة، تتوخى قراءة النص بشكل مباشر دون خضوع لتفسيرات المفسرين، وتأويلات المؤولين.[11] من خلال هذه الفصول الأربعة، حاول المؤلف أن ينبه إلى العمل على ضرورة نقد الحداثة في مضمونها، ويكون في نفس الوقت قد دعا إلى تجديد فهم الإسلام بقراءة نصوصه المؤسسة قراءة جديدة.