07 فبراير 2015 بقلم
ماجدولين النبيهي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:بدأ الناس يتساءلون في الآونة الأخيرة عن سبب نشأة ظواهر العنف لدى عدد من التيارات المنتسبة إلى الإسلام، وتناسلت الأسئلة الحائرة حول مفاهيم كالشرك والكفر والجهاد وغيرها. وهي مفاهيم كانت واضحة لدى عامة المسلمين في كافة بقاع الأرض، إلا أنها طالما استُغلّت لإشعال فتيل الشقاقات الطائفية لغايات أهمها طلب الحكم والسلطة. وينبئنا التاريخ أن أحداث العنف والاقتتال بين المسلمين ليست وليدة اليوم، بل عُرِفت منذ القرون الأولى للهجرة، وكان أساسها دائما تكفير طائفة أو جماعة أو فرد من أجل نزع المشروعية عنه وإكسابها لغيره طلبا للسلطة والامتيازات المادية المغلفة بالنهي عن المنكر وإصلاح الأمة.
وبالنظر إلى استمرار ظواهر العنف واعتداء المسلم على المسلم باسم الدين، ونظرا لكون هذه المظاهر قد عبرت القرون، تخبو تارة وتنهض أخرى، كان لابد من البحث في الفكر المحرِّك لها، ومحاولة التنقيب عن منشئها في القراءات المتعددة والمختلفة للدين الإسلامي طيلة القرون الماضية.
إن المتمعن فيما حصل من تراكم في العلوم الشرعية، يجد أنها في مجملها قراءات للإسلام شكَّلت، في كثير من الأحيان، فِكرا مغايرا لحقيقته، إذ هي اجتهادات لعلماء وفقهاء ومحدّثين ومفسرين حاول كل منهم استجلاء جزء من هذه الحقيقة. ولقد عرف التاريخ، بعد الصحابة رضي الله عنهم، علماء كبارا قادهم إخلاصهم الرباني وبُعدهم عن الأطماع المادية أو السياسية إلى إرساء اللبنات الأساس لكل للعلوم الشرعية الحقة، خاصة في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ومما طبع فكر هؤلاء العلماء من أمثال الأئمة الأربعة ومن سار في ركبهم أنهم ألفوا فيما يفَقّه المسلم في دينه ويعينه على فهمه، ولم يؤلفوا في العقيدة لأنها أمر بين العبد وربه، ولأنها حال قلبي لا يعلمه إلا الله.
لكن ابتداء من القرن الرابع الهجري، طلع على الأمة أناس أرادوا تنصيب أنفسهم أوصياء على عقائد الناس، فابتدعوا عِلما أسموه علم التوحيد أو علم العقيدة، حاولوا من خلاله تصنيف المسلمين إلى موحّدين وغير موحّدين، فكانت تلك نقطة تحول فتحت الباب على مصراعيه أمام جواز قتل المسلم للمسلم على أساس التشكيك في توحيده لله تعالى وفي عقيدته.
1. حول لفظ التوحدوإذا بحثنا في أصل هذه التسمية نجد أن لفظ "التّوحيد" بصيغته تلك لم يرد في القرآن الكريم، ولا في الحديث النبوي الشريف الذي ورد فيه الفعل "وحّد" فقط، في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى). فالتوحيد إذن لفظة مستحدثة حُمِّلت معنى مخالفا لجوهر الإيمان بالله وحده، لأن معنى "وحَّدَ الله" هنا هو: عرف أنه إله واحد لا شريك له، ولا معبود من دونه. والمعرفة هنا قلبية. وهو بهذا المعنى دال على حال معنوي لا على حدث حسي. ومعلوم أن الأفعال الدالة على الحالة ترد لازمة في اللغة العربية، وفي جل اللغات أيضا. وينتج عن ذلك أن الفعل وحّد ذو أصل لازم، وأن استعماله المتعدي استعمال مشتق لا أصلي. ولقد أدى الخلط في فهم البنية الدلالية لهذا الفعل ومصدره، من لدن أصحاب علم التوحيد إلى حدوث انزياحات في فهم أمور عميقة متصلة بعقيدة المسلم. وما استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الفعل "وحّد" إلا استعمال متعدّ، لأن الأمر يتعلق بمشركين ما زال المعبود بعيدا عنهم خارجا من قلوبهم. وهو لم يقصد بهذا الفعل الدلالة النفسية الساكنة التي تدل عليها أفعال الحالات غالبا.
أما مصدر الفعل وحّد، أي التوحيد، فلم يكن متداولا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن لغته صلى الله عليه وسلم كانت هي لغة القرآن. وبما أن اللفظ لم يرد في القرآن، فمن المستبعد أيضا أن يرد في كلامه صلى الله عليه وسلم.
ولغياب لفظ التّوحيد في القرآن وفي الحديث ارتباط وثيق بروح اللغة العربية وبعبقريتها، إذ أن التّفعيل صيغة تدل في العربية على الحركية والتكرار، ولذلك فهي غالبا ما ترتبط بأفعال دالة على أحداث حركية محسوسة وملموسة (مثل التسبيح، التقليد، التأييد، التقييد...)، بينما الإيمان بوحدانية الله فعل قلبـي وجداني لا يمكن أن يدل عليه إلا فعل للحالة[1]. ومن سمات فعل الحالة الامتداد في الزمن بصفة منسجمة دون تقطُّع، لكن صيغة هذا المصدر "توحيد" تدل على التقطع والتكرار كما رأينا أعلاه،وقد تدل على التكثير والتشديد أيضا. أما الإيمان بالله فهو فعل نفسي لا يقتضي جعل الله تعالى موضوعا خارجيا مفعولا به، بل يقتضي أن يكون المعبود حاضرا في قلب العابد وباطنه، مستقرا فيه، ولذلك وجدنا الفعل آمن فعلا لازما، أي لا مفعول له كقولنا آمن الرجُلُ، وآمنْتُ باللهِ على الإضافة لا على المفعولية، إذ لا يجوز قول آمَنتُ اللهَ. ولذلك فاستعمال المصدر "توحيد" لا يمكنه أن يكون دالا على حالة الإقرار القلبي بوحدانية الله لأن بنيته الصرفية والدلالية، التي هي بنية حدثية حركية تفيد التكرار أو التكثير، تتعارض مع هذا المعنى الساكن المستمر المنسجم. واستعمال التوحيد بهذا المعنى استعمال مستحدَث نشأ في بنية لغوية وعلمية بدأت تفقد معالم الدقة والضبط اللذين ميزا فكر السلف في القرون الفضلى.
2. إيمان التصديق وإيمان المقاملقد أدى الخلط في فهم البنى الصرفية والدلالية لعدد من الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم إلى خلق التباسات في فهم أمور أساسية تمس العقيدة، ومنها لفظة الإيمان ومشتقاتها. فالفعل "آمن" في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا" فعل لازم دال على حال التصديق القلبي برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو إذن فعل ساكن دال على حالة نفسية منسجمة غير حركية، وغير قابلة للتجزيء، بعكس الأفعال الدالة على الأحداث. والإيمان بهذا المعنى يرادف الإسلام، إذ أنفعل التصديق يكون واحدا غير قابل للتجزيء، وغير قابل للنقصان أيضا. وعلى هذا فقد خلطوا بين التصديق الذي هو شرط الإسلام، وهو حال مفرد منسجم وقطعي، وبين مقام الإيمان الذي هو مرحلة فيها ارتقاء وتدرج، وأدى بهم هذا الخلط إلى فهم خاطئ للحديث الشريف القائل "إن الإيمان يزيد وينقص"، قاصدا بذلك أن ما ينقص أو يبلى هو المقام الإيماني الذي يكون عليه المسلم، هذا المقام الذي يقتضي المواظبة على الذكر والاجتهاد في العبادة حتى لا تتسلل الغفلة إلى القلب فيتراجع الارتقاء الروحي في مراتب الإيمان. أما فعل التصديق الذي يكون أول شرط للإسلام فلا يبلى ولا ينقص ولو باقتراف الذنوب. وقد فهم البعض، أو أرادوا أن يفهموا، أن ما ينقص هو التصديق، فسقطوا في اتهامات باطلة تمس لمسلمين في إيمانهم وعقيدتهم، وفتحوا باب التفاوت بين المسلمين على أسس خارجية لا علاقة لها بحقيقة التصديق الإيماني التي يبقى الحكم فيها لله تعالى لا للبشر.[2]
وقد نتج عن ذلك تشكيكهم أيضا في صدق قائل عبارة "لا إله إلا الله"، التي أصبحت في نظرهم غير كافية لدخول قائلها في الإسلام، وقسموا التوحيد على هذا الأساس إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية، متعمدين ذلك لتصنيف المسلمين إلى مؤمنين وكفار، أو إلى موحدين ومشركين. والحال أن لا إله إلا الله تُجمِل كل معاني الإيمان بالله وحده، وحُرمتها تجعل مال قائلها ودمه حراما وإن قالها كاذبا. [3]
إن النقط المثارة السالفة الذكر تشكل الجوهر الأساس لنشوء فكر عنصري ميزي بين المسلمين، تولّد عنه نشوء جماعات نصبت نفسها وصية على العقيدة، وأجازت الاقتتال بين المسلمين. ولا بد في هذا الصدد من الإشارة إلى أن أي جماعة أو طائفة أو توجه يتبنى فكرة الإصلاح على الأساس المَيزيّ المذكور يكون مآله الانزلاق المحتوم نحو العنف. ولا عَجب أننا نجد الفكر العنيف المتطرف يخرج من رحم جماعات تدّعي نشر الدعوة بوسيلة سلمية، لأن الوسيلة ليست هي الأهم، بل الأهم هو الفكر الذي يقود هذه الوسيلة ويغذيها.
وبالنظر إلى كل ما سبق، علينا التأمل في سبب انتفاء صفة العنف والتطرف عن الاتجاه الصوفي عموما، بكل ما ينضوي تحته من طرق، لأن أساس هذا التوجه هو إصلاح النفوس بالذكر، وتهذيب القلوب بالمحبة. إذ يُدعى المريد إلى النظر في عيوبه لا في عيوب الآخرين، وإصلاح نفسه بالانشغال بالحق عن الخلق، ويتعلم أن المقامات لا يعلمها إلا الله تعالى، وأن الأعمال أسباب تتغيّى الإقبال على الله، وليست دواع للعجب والتباهي وجلب الإطراء، وأنه مهما عمل العبد فهو صغير ذليل، ومهما عبد فهو ضعيف حقير، وأن العبد الصالح هو الهين اللين المتحلي بالأدب مع الله ومع المخلوقات، لا الصخاب المدّعي. إن طريق التصوف تدعو إلى استصغار النفس وخضوعها في باب الله عوض النفخ فيها وتنصيب صاحبها داعية ومصلحا ووصيا على الآخرين لمجرد كونه مطلق اللحية مكتحل العينين...