09 مارس 2015 بقلم
الحسان شهيد قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:تمهيد: في سؤال المقال
هل نعيش اليوم من حيث الأصل حضارة الدين وتاريخه الزمني؟ أم حضارة غيره من المفردات التي تجعل من نفسها متمردات ضد هيمنة الدين الزمنية وسيطرته الأبدية المتعينة؟ أم أنّ الدين هو إحدى لحظات التمرد والثورة على ما هو سائد من تلك المفردات الإنسانية التاريخية؟
هذا السؤال الإشكال يحيلنا حتمًا على ثنائيات متعددة طالما نظر إليها من زوايا تقابلية محضة، كثنائية الدين والعقل أو ثنائية الأخلاق والنفس ثم القيم والعلم، وغيرهما من الثنائيات الجدلية المركبة التي تترجم حقيقة التدافع الكوني بين الزمن الديني وغيره.
أنطلق هنا من قناعة مؤسسة على مبدإ قيادة الدين للإنسان والكون اللامنتهي في الزمن، لأقرأ في هذه الورقة القصيرة أصل الزمن الديني الممتد واستثناءات المكونات الإنسانية في مواقع وجوده المحدودة.
ولبيان ذلك سوف أعرض العناصر الآتية:
أولاً: في تأسيس الدين على الزمن، وفيه حديث عن الضرورة الوجودية للدين في ثبات الإنسانية وهيمنتها على باقي اللحظات المتقطعة.
ثانيًا: في لحظات التمرد الإنساني، وفيه بيان لتلك اللحظات المتقطعة في الوجود الإنساني على حساب الزمن الديني الممتد.
ثالثاً: الزمن الدين وفقاعات التاريخ، وفيه كشف للآثار الزمنية للحظات "الفوقعة" التاريخية واستحالة خرمها الزمني للدين.
رابعًا: الزمن الديني والزمن الإنساني، وهو امتداد لما سبقه من حيث حضور النزعات الإنسانية باعتبارها خلفيات مؤسسة للحظات التمرد.
أولًا: في تأسيس الدين على الزمن
إنّ من جهات الاستحالة ووجهاتها بداية الخلق وافتقارها لمبدأ الرعاية والتوجيه المفضيين إلى سلامة البقاء وصلاحه، ذلك ما نعتقده في حقيقة الوجود البشري وخلقه الأول، إنّما لحظات تمرد ذلك المخلوق الغريب وانفلاته قد تتصرف فيها وجهات، وتتألف فيها متحيَّنات تلتقي عند أحد مكوناته الذاتية، مادية كانت أم معنوية، أو عند بعضها، هي الحالة التاريخية الوجودية للإنسان في علاقته بالكون والحياة، فما الأصل في الحياة الإنسانية هل الدين؟ أو غيره من مكونات الإنسان؟
ليس من اليسير الإجابة على سؤالين في علاقات الإنسان بالوجود والكون والحياة
الأول: حول مبتدأ البداية هل الدين أو غيره؟
والثاني:حول منتهى النهاية هل الدين أو غيره؟
لكن الافتراض المبني على قناعة متعينة يتطلب بناءً واستدلالاً ويستوجب برهانًا تاريخيًّا على الأقل لحل ذينك الإشكالين الفلسفيين.
وليس الأمر ببساطة نظرية يسيرة حسم الأمر بالقول: إنّ الإنسان تفاعل عبر التاريخ مع مكوناته الوجودية، أو خضع لتطورات نظرية فكرية صنع بها تاريخه المجيد والخالد، حيث انتهى به الأمر إلى ما يعيشه اليوم، لأنّ الوجود الإنساني المجرد لا يفي بحقيقة الاستمرار التاريخي لذلك الإنسان؛ في غياب قوى خارجية متحكمة في السياق؛ وحضور سلط ذاتية تضمر الهيمنة الذاتية والسيطرة الخاصة.
لقد جاء الدين ليحسم سيرورات الزمن وينهي أدوار الإنسان المطلقة بشتى أبعادها المادية أو المعنوية، ويغير من سطوة بعض الميولات الذاتية للإنسان؛ حتى لا يكون قوة عليا على نفسه، بل قوة مثلى لنفسه، لأنّه قد ولى زمن الإنسان المطلق الذي تساوى فيه مع باقي المخلوقات، حيث الهيمنة النفسية وقواها الشريرة.
لم يمنع الدين قط، ولم يمانع من امتلاك الإنسان لقوات خاصة في نفسه، دائرة تحت يده في تحريك الصراع بينه وبين الكون والوجود، ولم يمانع من نجاحه في ذلك الامتلاك وترشيد استثماره وتوظيفه، إنما وجهه إلى ما يضمن استمرار ذلك، وبلوغه سبل النجاة في قيادته لتلك السفن عبر الأزمان المتوالية، وضمان مستقبل أفضل لوارثيه في الزمن القادم. لذلك لا يمكن التذرع بحالات الاستمرار المتوالي حتى الحاضر في الاستدلال على صدق منطلقات ذلك التوجه وكذب أو خطأ غيره، لأنّ المسألة أعمق وأعقد بكثير، ولأنّها لا تتعلق بالغايات بل ببقائها، ولا بالوسائل بل باستمرارها. ثم لأنّها أيضا لا تفي بذلك التقرير لكون زمن التقييم والمراجعة لم يبدأ بعد، بل لأنّ الإنسان أيضًا بكل سلطاته لا يقوى على ذلك الاعتبار لأنّه طرف في المعادلة أو القضية.
ولما خلق الإنسان بقصوره وعجزه عن معرفة حاله ومآله؛ كان بالأولى توجيهه لمعرفة صلاحه، فكان ارتباطه بقوة أعلى مسألة طبيعية وضرورية ومصلحية وحيوية، فهي طبيعية لأنّ المخلوق محتاج إلى إتمام خلقه الثقافي كما تم خلقه الطبيعي، وضرورية لأنّ الإنسان المقدر والمسوَّى مفتقر إلى منهج الحفاظ على ذلك التقدير وتلك التسوية، ومصلحية لأنّ احتياجه في الخلق أصل احتياجه للعقل الموجه للصلاح والفضل.
ومهما تظافرت الاتجاهات في تكريس زمنية الإنسان ودهرية أبعاده الأقوى في الوجود، فإنّ مسألة الدين والارتباط الذاتي والاجتماعي والنفسي بقوة الخالق وتعاليه تبقى أشدّ إلحاحًا وتكريسًا في الزمن الحاضر، كما هو عبر سياقات الأزمنة الغابرة، لذلك فإنّ زمنية الإنسان التاريخية وإن طفت ووردت فإنّها زمنية بالدين وفي الدين، بمعنى التحاكم إلى قوة خالقة له ولمساره التاريخي، وليس زمنية تاريخية على الدين وضد الدين.
ونحن لا ننفي ورود ما يعاكس هذه الفرضية القناعة، وإن وجد ذلك وتأكد عبر التاريخ، فلا يعدو أن يكون ما نسميه لحظات زمنية تمردية من جوانب وأبعاد جزئية في الإنسان، لم تستسغ الوضع السليم الذي نتلمسه ونعيشه. ولأنّ الدين ألحق بالإنسان ليقوم مقام جمع شمل تلك العناصر الأربعة في الإنسان؛ التي إن انفرط عقدها ثارت إحداها وتمردت، وكذا لينظِّم أدوارها المتداخلة والمتشابكة، وهذه الأبعاد هي العقل والنفس والجسد ثم الروح.
ثانيا: في لحظات التمرد الإنساني
لا تعدو اللحظات التاريخية الذي غاب فيها الدين عن بسط سلطه الزمنية والأخلاقية إلا طفرات نوعية استثنائية؛ تفلت فيها الإنسان من عقال الدين وانتصر فيها لأحد الأبعاد الذاتية فيه، فهي بذلك لحظات تمرد جزئية تحاول دفع الزمن الديني إلى التوقف، مثيرة يافطات العقلانية حينًا ولائحات العلمانية لحظة وأشرعة الليبرالية تارةً ورموز الإباحيات تارةً أخرى.
فسلطة العلمانيات بمعناها إبعاد الدين عن الحياة الإنسانية ليست حديثة عهد بالزمن الديني كما يتوهم الكثيرون، بل هي قديمة قدم الدين وملازمة للإنسان في التاريخ، ولا تعبر في حقيقتها إلاّ عن تمرد استثنائي وظرفي من جانب مكون العقل في الإنسان على الحياة الدينية وزمنيته، والأمر نفسه ما شكلته أشكال الحداثيات القديمة ومابعد الحداثيات المعاصرة، التي طورت وحدثت من مشروع العلمانيات لإيقاف الزمن الديني ولو للحظات.
وكذا نزعات الشهوانيات والاقتتالات بين الناس بصورها المتعددة المتصورة في الحروب المتوالية، والجرائم والاعتداءات الفردية والجماعية، وكذا ما اصطلح عليه الحروب "الكولونيالية" لا يمكن تفسيرها إلا بطغيان جانب النفس على باقي المكونات الأخرى في الإنسان، واقفة في وجه الدين ومتمردة على قيمه الإنسانية العليا.
كما ظهرت تظاهرات تمردية للأبعاد المكونة للإنسان في شقها العقلي أو النفسي نجد صورًا تمردية أخرى في شقها الجسدي، ثائرة في مقابل الدين الذي قوض اندفاعاتها التاريخية والإنسانية، ونظمها بالصورة التي تحفظ وجودها الإنساني والاجتماعي المنسجم، فتجسد ذلك في التجمعات الإنسانية كالمثليات والإباحيات وغيرها من الصور الجاعلة من الجسد قمة اهتماماتها، وعناياتها المتمركزة حول التعبيرات الجسدية.
أما حركة الروح المنفلتة من عقال الزمن الديني؛ فقد اتخذت لنفسها محورية خاصة في التمظهر في صور سلوك روحي مغالٍ أحيانًا، ومتطرف أحيانًا أخرى إلى أبعد الحدود، فشكلت بذلك قيمًا بديلة للدين، فتشكلت في التطرف والتشدد المغالي وفي صور شاذة كالانتحارات، والاكتئاب والأمراض الإنسانية الغريبة أحيانًا أخرى.
إنّ هذه النتوءات التاريخية كلها أشكال تمردية على الزمن الديني، ما فتئت تظهر اليوم وسوف تظهر من جديد في المستقبل، كما ظهرت من قبل هذا الزمن المعاصر، أو قل تمرد وعصيان تناسلت صوره وأنواعه التعبيرية في مواجهة زمن الإنسان السوي وإيقافه.
ولو كان للعقل وغيره من تلك الجوانب المكونة للإنسان قوة صلاح الإنسان وزمنيته التاريخية لانتهى إليه ذلك، لكن الصراعات المتوالية والتداخلات المتواترة بين تلك الأبعاد تكشف عن قصورها مفردة السيادة أو ناقصة الريادة، لأنّ الإنسان كما خلق سويًّا متكامل الأبعاد لا يمكن استمرار زمنه إلا بتآلفها مجتمعة، وذلك ما أراده الدين وعمل من أجله بل ما جاء لقصده.
ثالثا: الزمن الديني وفقاعات التاريخ
إنّ الانفلات التاريخي لأحد تلك المكونات الأساسية للإنسان (العقل، النفس، الروح، الجسد)، أو لبعضها متحدة لا تمثل إلا طفرات لحظية بالميزان التاريخي للكون والوجود والحياة، وليست في حقيقة الصراع إلا في مواجهة الإنسان على طولها النسبي وامتدادها المقياسي، لأنّ الأصل في الوجود الإنساني المستمر والباقي هو الزمن الديني، وغيره معتبر في عداد الفقاعات الحضارية الزمنية التي تعصف بالإنسان بين الفينة والأخرى في علاقته مع الدين.
إنّ احتدام الصراع بين تلك المكونات الكبرى للإنسان، ومحاولات سيطرة بعضها على البعض الآخر هو ما يعرض رغبتها في السيطرة على التاريخ، ومن ثم على الزمن، وتلك نزعات حاصلة مع حضور الإنسان، وذلك ما منح الدين قوته في الاستيعاب التاريخي لذلك الصراع وامتصاصه في أعتى اللحظات.
وسواء ترك الأمر التاريخي والوجود الإنساني لتلقائية الزمن، وتحولاته المتغيرة والمتبدلة عبر التاريخ، أو لدائرات الاستهداف الفكرية، أو التقصيد المنطقي للتدافع الإنساني في خضم تلك التمردات الناتئة، فإنّ الأمر سيان والمآل واحد، وهو انتصار الزمن الديني على تلك الأزمنة المتغايرة بلحظاتها المتحولة، أو قل الشريرة.
لقد تواترت قوى لحظية تاريخية إما فكرية أو إيديولوجية أو سياسية على المسار التاريخي للإنسانية في محاولة منها استيعاب الوجود الإنساني، فاستقوت لحظة الديموقراطية وتمكنت العلمانية وحضرت الحداثة وامتدت إلى مابعد الحداثة، ثم إلى حيث العولمة، وغير ذلك من المفردات السياقية، إلا أنّها لم تلبث أن عبرت عن لحظيتها المدوية في الميزان التاريخي الإنساني الوجودي، بله الكوني الخلودي، لأنّ تواليها في نوباتها برهان نسبيتها الزمنية، ثم لأنّ سلطة الدين الزمنية متعددة الواجهات لا تستطيع معها تلك القوى صبرًا في مواجهتها عبر الامتداد في الزمن.
إنّ تمكن بعض القوى الحاكمة في الإنسان من لحظات بعض الزمن الديني وقيادتها للإنسان في مرحلة من مراحل التاريخ، لا تعدو إلا صورة من صور استيعاب الزمن الديني لها من جهة، ثم لأنّه مهما بلغت تلك الأشكال التمردية من طول قرن أو قرنين أو ثلاثة، فهي ما تزال في الميزان الزمني الديني سوى لحظات متعينة، وفقاعات تاريخية لا تلبث أن تنتهي صلاحيتها لصالح الهيمنة الزمنية للدين.
إنّ هذا التدافع الخالد بين الزمن الدين ولحظات التمرد هو محض تقويم للإنسان، وكشف عن مدى قدرته على الانتصار لتوازن قواه المتعالية وسُلطِه المتجاذبة، وذلك ما يتحيَّز في مجال الدين الذي تنتهي مقاصده العليا في كلية الجمع بين تلك العناصر المكونة للإنسان. وقد علمنا التاريخ على امتداده؛ أنّ السيطرة المتأصلة في بعض تلك المكونات دخلت بالإنسان في متاهات حضارية غارقة في الحيرة والتيه، من الحروب والصراعات والدمار، وكلما انتهت صلاحية الأولى انحنت حتمًا لرياح الزمن، لتبدأ الأخرى من جديد.
لذلك فإنّ آثار تمكن تلك القوى الثورية في الإنسان ضد القيم والأخلاق والمبادئ الروحية في أحايين كثيرة؛ لم يكن لها كبير قيمة اعتبارية في ميزان الزمن، فأضحت فقاعات حضارية ولحظات قصيرة في الميزان التاريخي الكوني، ولعل ما يشهده العالم المعاصر مثلاً أو الحديث أو الماضي بقليل من تجاذبات سياسية في مجالات بشرية متعينة؛ يحيلنا على ذلك التدافع الكوني الذي ذكرناه سلفًا، وما هي في حقيقتها الجوهرية إلا ترجمات مصغرة ومجهرية للصراع الأبدي بين الزمن الديني وباقي الأزمان النسبية، أو بالأحرى لحظات التمرد الأخرى.
رابعًا: الزمن الديني والزمن الإنساني
إنّ دراسة العلاقة بين الدين وغيره من القوى الإنسانية المنتمية إلى السلط اللحظية؛ تستدعي استحضار معطى الإضمار الكلي لتلك القوى والسلط في المرجعية الدينية الزمنية منذ بداية تاريخ الدين، وكل التقاطعات الحضارية والتاريخية التي خرمت هذه القاعدة إنّما كانت نشازًا على استعصاء وتعسف، وحتى الخطابات الحديثة أو المعاصرة ذات المرجعيات المختلفة لا تتمنع من استحضار ذلك، وإن بدرجات متفاوتة ومتغايرة.
لذلك، فإنّ افتراض الثنائية التقابلية بين الدين وغيره على أساس المشكلة في الدين وبالدين دون سواه غالبًا، فيه محاولة لتحجيم سلطة الزمن الديني وتقليصه لفسح المجال للحظات التمرد العقلي أو الجسدي أو النفسي أو الروحي، لأنّ افتراض التقابل الجدلي الصراعي بين الثنائيات التي يحضر فيها الدين باعتباره جهة معنية لا يفتأ كونه اصطفافًا لتلك القوى إما منفردة أو مجتمعة في مواجهة الدين، وهذا ما يعزز من موقع المفردات الأخرى بصورة تفاضلية، وهذا لا يسلم من تحيزات إلى أنماط وصور حضارية معينة. الأمر الذي بالغت فيه الدراسات في موقعة الدين في جانب الخصومة مع تلك المتقابلات المفترضة؛ كالسياسة والدولة والمدنية والديمقراطية...
إنّ طغيان ميزان تلك المفردات على قوتها كالسياسة والدولة والمدنية والديموقراطية والحداثة وغيرها ما هي إلا لحظات تؤثث المشهد الديني والزمن الكامل، تعاقبت تترى في محاولة منها لإيقاف الزمن الديني الذي تكون هي جزءًا منه.
إنّ التمايز المطلق بين الدين وغيره من تلك المفردات على سبيل التعيين يفترض تمايزًا ماديًا على أساس المنهج والفكرة، بمعنى أنّ تلكم التدابير المختلفة المشارب لها تمامية صحتها باعتبار الفصل المطلق بين الدين مرجعًا وتصورًت، وغيره منها تدبيرًا ومنهجًا، وقد حاول البعض افتراض ذلك النظر على المستوى الإسلامي، ومن داخل مرجعيته مستندًا على قراءات تاريخية سيرية وتأويلات نصية، أسس بها لنظرية مفارقة لما هو مألوف ومتداول، ومشكلاً بذلك صدمة فكرية لنظرية الاتحاد والجمع بين الدين وغيره، كما قام البعض الآخر بالاعتبار التفريقي الصلب بينهما على المستوى العلماني، ومن خارج المرجعية معتمدًا على التجارب الإنسانية عمومًا، نظر بها لتصور مغاير ومفارق للبنية الثقافية السياسية في المجال الإسلامي.
يبدو من خلال ما سبق، أنّ أغلب المفردات الإنسانية المفترضة خصمًا متمردًا على الدين ومواجهًا له؛ إنما تنتمي إلى المجال التداولي المتوالي للدين، ولطبيعة الانتقال التاريخي والزمني للإنسان، لأنّه محور الصراع، أي أنّها مفردات ذات حمولات طارئة في أشكالها وليست في قيمها ومبادئها، فهي مستوعبَة في الدين منذ نشأته القيمية، -لكونها تثور في حقيقتها من داخل الدين المشكل للزمن الإنساني_ لكنها تستصعب استيعابه لأنّها تحتكم إلى آليات ووسائلَ ووسائطَ دون قيم، فتقف عصية على استيعاب الدين، وتلك هي المشكلة الحقيقية، فالإشكالية في غالب عروضها المتفرقة كما تقر بتخصيم المفردات مع الدين، تعترف بثبات الدين أيضًا وأصليته، كما تقر أيضا بتغير تلك المفردات وفرعيتها. وذلك سر انتصار الدين في كل معاركه وخصوماته معها وإن استقوت عليه بسلطاتها الزمنية المحدودة.
وإن احتدم الصراع بين ما هو ديني وما هو مرتبط بباقي القوى اللحظية في السياقات الحضارية، فإنّ السيطرة لم تتجاوز جانب الفعل دون جانب القوة، لأنّنا أمام سياق تصارعي بين سلط معرفية وثقافية اجتماعية أكثر مما هي زمنية كلية، وإن استطاعت تلك القوى أن تتجاوز الدين وتحصره في الكنائس والأديرة أو المساجد، فإنها لم تقو على منع نفوذها الاجتماعي، وسلطتها الرمزية الثقافية من المجتمع أو الشعب وفق التعابير المختلفة، لكن من جهة أخرى، فإنّه مهما تطورت محاولات الإصلاح الديني في أوروبا وخاصة مع مارتن لوثر من تقليص دور الكنيسة وتقويم سلطتها، والاقتصار على سلطة النص محل سلطة رجال الدين الاكليروس، فإنّ ذلك لم يعد بالقوة على سلطة الدولة إلا بالقدر الذي تتيحه السلطة العميقة للكنيسة.
إنّ الخصومة مع الدين مفترضة وسياسية لها تاريخ مع الإنسان، وكل الافتراضات المدفوعة في المراجعة والنقد ليست على قلب صورة واحدة، فتارة يعرض الدين أحكامًا إلهية وتارة أخرى معتقدات خاصة وسلوكاً معينًا، وحينًا آخر طبيعة حدود وقوانين جنائية، وأحيانًا فلسفة في الحياة وليس لمنهجية التدبير السياسي صلة بالموضوع، لأنّ الدين وخاصة في المجال العربي الإسلامي لم يكن عداء أو خصومة مع الآليات والوسائط السياسية، لأنّها قابلة للتبيئة والاستدعاء في مجال خصب لم تتعين فيه الرموز ولا الدلالات القطعية.
إنّ قوة الدين الزمنية خلفت من ورائها خصومات طبيعية، تجسدت إما في صورة نزاع فردي من جانب واحد، أو جماعي تآلفي حاولت الدخول إليه من أبواب متفرقة، لكن إمكانية افتراض مقاربة بين الزمن الديني وبين غيره من تلك الخصوم المفترضة غير سليمة، لأنّ تحقيق النظر في الدعاوى المرفوعة ضد الدين لم تكن ضد الدين باعتباره قيمة؛ بل باعتباره سلطة ومنهجية حكم، أو في أحسن الأحوال باعتباره لحظة وليس زمنًا، ومن ثمّ فالمقاربات الثنائية الأكثر تناسبًا وبلاغة في التعبير عن تلكم الإشكالية هي في علاقة الدين بالهيمنة الزمنية، أما اختزالها في خصومة مع السياسية أو الديمقراطية أو الدولة أو غيرها فذلك غير لائق وغير مجد، لأنّه اختزال لصراع غير موجود وغير وارد في أدبيات الدين خصوصًا في المجال الإسلامي، لدلالات التضمن التي تحكم الدين في علاقته بتلك المفردات، سواء من الناحية النظرية النصية أو العملية التاريخية.
ختام المقال
وخلاصةً لما سبق، نستطيع القول إنّ انتقال التاريخ الإنساني عبر مراحل متغايرة؛ من هيمنة جزئية لأحد الخصائص المكونة له إلى أخرى، إما نازعة إلى السيطرة الجسدية أو لائحة إلى السلطة العقلية أو جاذبة نحو هيمنته النفسية أو مرتبطة بالقوة الروحية، إنّما كلها لحظات انتهى رسمها عبر التاريخ إلى أن بدأ الزمن الديني الذي صنع من العنصر البشري إنسانًا آخر، كانت الكلمة فيه المهيمنة لاجتماع العناصر الأربعة كلها وتكاملها في الوجود، فكان منذ ذلك الحين للزمن الديني كلمته؛ دون أن يترك المجال للتمردات الجانبية لتلك المكونات لإيقاف ذلك الزمن، وإن تمكنت للحظات فدون تأثير حقيقي في ميزان الزمن الديني.
لذلك، فإنّنا نعتقد أنّ حقيقة الهيمنة الزمنية للدين في الحياة الإنسانية بشتى أبعادها تستوجب فقها حقيقيًّا لخلفيات كل تلك التمردات اللحظية المذكورة، لاستيعاب ذلك الحضور الكلي للدين، وقياس تمردها وثورتها على إيقاع الزمن الديني الممتد.