29 أبريل 2015 بقلم
كمال عبد اللطيف قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:أتصور أن جبهة المعركة القائمة اليوم في أغلب المجتمعات العربية معقدة ومركبة، تكافئها في التعقيد معاركنا الأخرى مع الآخرين، سواء في المستوى الإقليمي أو في المستوى العالمي. ونحن مطالبون بمواصلة خوض هذه المعارك مجتمعة بكثير من الحس السياسي والتاريخي، ومن هنا أهمية تنويع المقاربات في مواجهة كل أشكال الحروب المشتعلة في بؤر عديدة داخل العالم العربي.
وضمن السياق الذي سطرنا في الفقرة السابقة، نفترض أن المجال الفكري بالذات، يتطلب منا بلورة الرؤى والبرامج المساعدة على مغالبة التحديات التي تفرزها المعارك المشار إليها، لعلنا نتمكن من مواجهتها بأقصى ما يمكن من الترتيب المساعد على التقليص من حدة النتائج التي نتجت وتنتج عنها في الواقع.
وإذا كانت المقاومة السياسية تخاصم الآخرين وتخاصم إرادة الهيمنة الأمريكية الغربية، فإن المقاومة الفكرية المطلوبة ينبغي أن تتجه لمخاصمة الذات، مخاصمة تمجيد الذات والرضى عنها، ولا تتحرج من الإشارة إلى مواطن العطب فينا، فليس كل ما يقع في عالمنا اليوم من ويلات يحصل لأننا أمة مستهدفة فقط، فقد نكون كذلك بحسابات الموارد الطاقية والموارد الروحية الخام، لكننا مستهدفون أولاً وقبل كل شيء، لأننا لا نعرف أنفسنا معرفة تاريخية، ولم ننجز التواصل المطلوب مع مكاسب أزمنة نستفيد من خيراتها المادية والمعنوية، ولا نريد أن نعترف بذلك، بل إن من بيننا من لازال يحلم بالسيطرة على العالم بالبيان..
نتصور أنه ينبغي أن نولي معركتنا مع ذاتنا عناية خاصة، وهذا الأمر لا ينفي ولا يغفل مقتضيات معاركنا الأخرى مع الآخرين، إلا أننا نرى أن الأعطاب المركزية فينا، فتجارب القرن الماضي في مقاومة الاستعمار ومقاومة بؤر التقليد في حياتنا وفكرنا، لم تنجح في بناء مقومات الوجود المبدع والفاعل لا في فكرنا، ولا في حياتنا السياسية، ولا في أنظمة التربية السائدة في مجتمعاتنا، وكثير من تداعيات الثورات العربية تعود إلى فشلنا في بناء ذواتنا في ضوء مكاسب الأزمة الحديثة في الثقافة والسياسة والعلم.
لقد اعتدنا، ونحن نواجه مظاهر تأخرنا التاريخي العام، أن نُصَوِّب سهام نقدنا نحو الآخرين، اعتدنا تبرئة ذاتنا بغير حق، فقد مَجَّدْنَا ذواتنا المعلولة تمجيداً فاق الحدود المطلوبة، وأصبح مظهراً من مظاهر نرجسيتنا وتأخرنا..
فهل هناك عطب في التاريخ مثلاً أكبر من عطب عطالة الفكر النقدي في حياتنا؟
ويمكن أن نقف على سبيل التمثيل على عينة كاشفة لبعض مظاهر الخلل في واقعنا المعاصر في الفكر والسياسة، لنتأمل منتوج مدارس الفكر الإسلامي المعاصر، وبعضها يقف وراء تيارات تمارس الاحتجاج على الظلم القائم في العالم نيابة عنا، سنكتشف أننا أمام نصوص فقيرة، تستعيد مأثوراتٍ متصلة بزمن لا علاقة بينه وبين متطلبات أزمنتنا.
لن نجازف إذا ما قلنا إن أفقر نصوص الفكر العربي المعاصر، تندرج ضمن النصوص التي أنتجها المصلحون الذي دافعوا عن أطروحة المستقبل الماضي، ولعل من الأسباب التي أدت إلى ذلك، أننا لم نتمكن في فكرنا المعاصر من تطوير حدوس ونظرات محمد عبده الإصلاحية التوفيقية، بل إن أعمال رشيد رضا ثم أعمال محمد قطب وسيد قطب وحسن البنا قد ركبت دروباً أخرى، وظفت فيها الرصيد الرمزي والروحي للإسلام توظيفاً ذهب به مذاهب قَلَّصَت من يناعته الروحية، وحولته إلى سلاح ضارب في مجال العمل السياسي، وهو الأمر الذي ساهم في فقر المنظومة الفكرية الإسلامية المعاصرة... وفي تيارات الإسلام السياسي اليوم، وهو التيار الذي يستخدم الدين بطرق لا علاقة لها برسالته، في هذه التيارات التي تملأ اليوم كثيرا من حلقات مشهدنا السياسي، الدليل الأكبر على عمليات التوظيف التي تكتفي بتحويل القيم الروحية الإسلامية السامية إلى آلية في التجييش والتسخير السياسيين، بدل بناء النظر المجتهد والمتفاعل مع قيم ومكاسب الأزمنة المعاصرة.. نحن هنا نشير إلى أعمال المودودي والندوي ومن تلاهما من شراح الضلال والجهالة من مروجي الفكر المعادي لفكر الأزمنة المعاصرة، وقد أصبحوا اليوم علامات كبرى في مشهدنا السياسي يملؤون الفضائيات والفضاءات الافتراضية.
لهذا السبب، تشكل المقاومة بمواصلة الإصلاح الديني الذي دشنته الحركة الإسلامية الإصلاحية في بدايات القرن العشرين، آلية فكرية مطلوبة في زمن الجمود الفكري والجمود العقائدي والتسخير السياسي، ولهذا السبب أيضاً، نقول إن جهود نقد العقل التراثي التي بدأت في فكرنا المعاصر، تُعَدُّ واحدة من السبل المساعدة على بناء تصورات أكثر تاريخية في مقاربة ظواهر المعتقدات بلغة التاريخ والمعرفة، بدل لغة المحفوظات المُغَيِّبَة لدور العقل والتاريخ في صناعة الأفكار وتطويرها. إن العمل على توسيع فضاء هذه المحاولات النقدية المستنيرة يساهم في تعطيل مفعول تيارات الفكر التقليدي، ويعزز دوائر المقاومة بالجدل النظري النقدي الذي يوسع دوائر الرؤية والفهم، ويُمَكِّن من تدبير أكثر تاريخية وأكثر عقلانية لإشكالات حاضرنا..
توجد الخطوط العريضة لبرامج متعددة في مجال الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر، وتوجد مغامرات رائدة في هذا الإصلاح يقتضي الأمر العناية بها، وذلك بتعميمها ونقدها وتطويرها لتوسيع دوائر المجتهدين من الباحثين في مختلف البلدان العربية، ولعل هذه المسألة المرتبطة بالتعميم والتوسيع تتصل بمجال آخر هو مجال الإصلاح التربوي، ففي أغلب الأقطار العربية تتعايش أنظمة تربوية متناقضة، ويهيمن عليها نظام تقليدي يكتفي فيه المشرفون على عمليات التربية والتعليم بمناهج في الحفظ والتلقين، تكتفي باستعادة الموروث وتحويله إلى سلطة كابحة لآليات الفكر النقدي والتحليل التاريخي، وهو الأمر الذي يترتب عنه تكوين شيوخ لا علاقة بينهم وبين واقعهم.. لابد إذن، من إعادة بناء أنظمة التربية والتعليم في ضوء متغيرات المعرفة ومتغيرات المجتمع في عالمنا وفي العالم المعاصر.