02 مايو 2015 بقلم
اشريف مزور قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يحسن، قبل الشروع في تناول جنس الاستدلال الأرسطي بالحديث، البدء بمحاولة تحديد عوامل نشأة الفلسفة اليونانية اعتباراً أنّ المعارف لا تستقر عند وضع ثابت، بل تغتني وتنمو عبر تصويب وتشذيب، وكما أنها مستويات من حيث تكوينها المفهومي، فإنها كذلك من حيث بناؤها الاستدلالي(
[1]).
تعددت التفسيرات والتأويلات بمناسبة ظهور حكمة الإغريق بين قائل بضرورة ربطها بمنابتها الشرقية، وبين زاعم بوصلها فقط بشروطها المحلية، لعل أظهرها متجلٍ في العنصر السياسي المرتبط بالدولة المدينة (Polis)(
*) التي رهنت وجود عقلانية فلسفية بالسماح بمناقشة القرارات المتعلقة بالمصلحة العامّة علنياً وسجالياً(
[2])، في السياق ذاته، واسترشاداً بما يعلمنا إيّاه الدرس الإبستمولوجي المعاصر مع رائده
باشلار Bachelard
، نرى أنّ الفلسفة اليونانية تنامى منسوب إبداعها في قطيعة تامة مع بادئ الرأي الذي لا يفكر البتة عندما يترجم الحاجات إلى معارف، وبتعيين الأشياء حسب فائدتها يمتنع عن معرفتها، الرأي إذن أول عائق لزم تخطيه لبناء معرفة علمية وفلسفية نسقية(
[3]). وهنا نفهم سر بقاء أفكار الحضارات المشرقية القديمة دون مرتبة النسق العلمي الفلسفي نظراً لارتباطها بالحاجيات المادية للإنسان العادي.
لعل من نافلة القول أن نؤكد أنّ ازدحام الساحة الفكرية اليونانية في مرحلة وجيزة بمدارس عدة، قد يكون مردّه إلى مقاربتها الإشكال نفسه المرتبط بأصل وطبيعة الوجود (العالم عدد، ذرات، فراغ، أشياء طبيعية، صراع الأضداد، الوحدة والثبات...)، بيد أنّ تياراً من تلك المدارس تميز بالفرادة في بنيته وتصوراته، إنه الحركة السوفسطائية، ومعلوم أنه ليس هناك سوفسطائية بمعنى المدرسة أو المذهب (كما هو الشأن مع الفيتاغوريين والأيونيين...)، هناك سوفسطائيون فقط، "واحد سوفسطائي لا محتوى له إلا ما صدقه"(
[4])، لأنه يأخذ معاني متباينة من واحد لآخر. ومما يزيد الأمر صعوبة أمام مؤرخي المعرفة هو أنّ إرث السوفسطائيين وصلنا مكتوباً بأقلام خصومه (أفلاطون، أرسطو) الذين صوروهم "على أنّ قلوبهم أجدب وألسنتهم أخصب"(
[5])، فمحاورات
أفلاطون Platon مثلاً قدمتهم بوصفهم عوامل سردية Actants narratifs مهزوزة سرعان ما كان يستدرجها التهكم السقراطي إلى لهيب المنطق فتتهاوى حججهم على بوابة التعريفات: ما الحق؟ ما الجمال؟ باعتبارهم كائنات ورقية تكتفي بإنجاز الأقوال لا الأفعال، لذلك لا تملك المؤهلات لوصف العالم وصفاً منطقياً صحيحاً(
[6]). يعود الفضل
لبروتاغوراس Protagoras في تبويء الإنسان مرتبة سامية في المعرفة عندما قرر أنّ "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً"(
[7])، مما يعني بداية مرحلة فقدان الآلهة الإغريقية مشروعيتها التأويلية في تفسير الظواهر الطبيعية، إذ أصبح المجتمع الأثيني الديمقراطي يجنح إلى العقل لمقاربة المجهول والمعلوم محدثاً بذلك ثورة ميتافيزيقية تعيد مساءلة حيثيات الوجود. لكن وراء هذا الجانب الإيجابي تجثم قضايا ذات صبغة سلبية، يقول
جورجياس Gorgias: "أولاً لا شيء موجود، ثانياً لو وجد شيء فالإنسان عاجز عن إدراكه، ثم أخيراً حتى لو أمكنه إدراكه فهو لا يستطيع أن يصوغه، ولا أن يبلغه للآخرين"(
[8])، فبحسب هذا الرأي، الوجود باطل، وفهمه أو التواصل حوله مع الأغيار محال لا سبيل إلى إدراكه، ولا يخفى على الفطن الأريب ما يترتب على هذا التصور من آثار عملية اجتماعية وأخلاقية، إذ تغدو كلّ الحقائق وكلّ الأبنية النظرية والعملية التي تقوم عليها محط شك وارتياب، بما في ذلك القيم الخلقية وقواعد الحياة المجتمعية لنسبيتها وتغيرها. ورغم ذلك فقد اشتهرت أثينا ق 5 ق.م باعتبارها المكان الـذي شهد ولادة المنطـق الصـوري والجدل والخطـابـة. يقـول
ج.ب. فيرنـان (J.P Vernant): "لم يكن مفهوم الفعل بالنسبة إلى أثينا ق5 ق.م يعني صناعة الأشياء أو تحويل الطبيعة، بل كان يعني بالأحرى التحكم في الناس وغلبتهم والسيطرة عليهم، ففي إطار الحاضرة، كانت الأداة الضرورية للفعل التي تمكن من السيطرة على الآخر هي الكلام. إنّ فحص السوفسطائيين للتقنية الإنسانية ولوسائل بسط قوتها ولتطوير أدواتها لم يخلص إلى فكر ولا إلى فلسفة تقنية، لقد خلص إلى البلاغة وأنشأ الجدل والمنطق"(
[9]).
بعد هذه الفذلكة التي نعتبرها توطئة ليس إلا، ننتقل إلى الحديث عن طرق الاستدلال عند اليونان "والتي هي من الشساعة بمكان لدرجة أنها تضم ألوان البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة(
*)، فالاستدلال جنس تحته أنواع متعددة من التصنيفات التي تتعدد بتعدد مستوياتها في القوة والوثاقة"(
[10]).
فبعد أن أجاز السوفسطائي الإقناع بما اتفق، وبرهن على القضية ونقيضها في الآن نفسه، وتكوثرت الألفاظ التي تقال باشتراك وتشكيك أزف موعد تقعيد العقل على مبادئ التفكير انطلاقاً من حدود ومقولات تطلق بالتواطؤ(
**)، مناط ذلك ضمان تقدّم العلم والبحث الإنساني عامة، وإذا كان
أرسطو Aristote قد حاز قصب السبق في تفصيل القول وتدقيقه في أنماط ومنازل الاستدلال المعرفية والإقناعية(
[11])، فإنّ الأمانة العلمية تقتضي العودة بمسائل المنطق إلى أصولها كما ترسخت مع جدل
زينون Zénon(
*) وتساؤلية
سقراط Socrate(
**)، وقسمة
أفلاطون، فمن الإثباتات التي يعرضها علينا تاريخ الفكر البشري، بما في ذلك تاريخ العلم، أنّ الناس يبدأون في ممارسة فن من القول أو نمط من المعرفة قبل تسميته وتقنينه، تماماً مثلما تواصلوا باللغة قبل تدوين قواعدها، فإعطاء اسم لجملة من المعارف غالباً ما يأتي في مرحلة النضج والتراكم.
قام تلامذة
أرسطو بجمع أعماله المنطقية وترتيبها في منظومة واحدة تحت اسم الأورغانون الذي يتألف من أجزاء تسعة كما يلي (ترتيب أجزاء الأورغانون مسألة خلافية قديمة: هل يرتب طبقاً لقاعدة كرونولوجية أم موضوعاتية؟): نجد بداية مقدمة وضعها
فورفوريوس Porphyre وتتضمن تقديماً عاماً للمنطق إضافة إلى توسيع قائمة كليات
أرسطو بالنوع (الجنس والفصل والخاصة والعرض) الذي اعتبره المعلم الأول الموضوع نفسه من حيث إنّ الأحكام العلمية صادرة على الأنواع لا على الأفراد(
[12])، ثم يليها كتاب المقولات المحددة في عشر (الجوهر، الكم، الكيف، الإضافة، المكان، الزمان...)، وتحمل المقولات التسع على الجوهر ولا يحمل عليها، لكن الجوهر أول وثان، الأول هو الجزئي الموجـود في الواقـع مثل سقراط، والثانـي هو النوع والجنس مثل إنسان وحيوان ويحمل على الجوهـر الأول مثل سقـراط إنسان، ولم يذكر
أرسطو المبـدأ الذي اعتمد عليـه في تقسيم واشتقـاق مقولاته؛ فذهب بعضهـم إلى أنه جمعها جمعـاً تجـريبـياً(
[13])(
*)، بعد ذلك هناك كتاب العبارة الذي عالج فيه مسألة التقابل بين القضايا (التداخل، التناقض، التضاد، الدخول تحت التضاد)، والقضايا المستقبلية، وتأليفات القضايا الموجهة (
**)، فكتاب القياس أو التحليلات الأولى حيث تناول فيه نظرية القياس من خلال دراستها صورياً (الأشكال والأضرب المنتجة وطرق الرد...)، ثم كتاب البرهان (التحليلات الثانية) الذي يعالج فيه شروط المعرفة العلمية المتمثلة في المقدمات الضرورية اليقينية والأولية (
***)، وبعده نجد كتاب الجدل أو المواضع الجدلية، وهو تطبيق لنظرية القياس في مجال المعرفة المشهورة على اعتبار أنّ مقدماتها مقاربة لليقين يغلب احتمال صدقها على احتمال كذبها، وزيادة في التمحيص النظري، وضع أرسطو مصنفاً في السفسطة الذي رام منه معرفة الحيل التي يلجأ إليها السوفسطائيون حتى يكون المرء بمنأى عن الوقوع في شراكهم، وذلك بأن يقتدر على التمييز بين الأقيسة السليمة والمقدمات المشروعة عن غيرها ممّا يدخل في باب السفسطة، وعموماً فصاحب المخاطبة السوفسطائية يكون دائراً بين خمسة أمور منها: إلزام المخاطب أمراً شنيعاً معلوم كذبه، إيقاعه في الشك، تبكيته، والأخير هو أهم مقاصد المخاطبة السوفسطائية (القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيض النتيجة التي وضعها المخاطب)، وتجنباً لهذه الحيل المغلطة تتبع أرسطو المواضع التي يحصل بها التبكيت السوفسطائي فخلص إلى أنّ ذلك يحصل إمّا من جهة الألفاظ أو من جهة المعاني(
[14]). وإضافة إلى ذلك نجد الخطابة التي قنن فيها مسالك الإقناع، والقياس الخطابي "مقدماته ظنية ظناً غالباً، ولكن تشعر النفس بنقيضها وتتسع لتقدير الخطأ فيها"(
[15]). وأخيراً كتاب الشعر الذي تكون غايته الإمتاع، ففيه نصادف نوعاً من التحليل السيكولوجي عندما تناول
أرسطو الأصل المحتمل لفن الشعر في النفس البشرية والذي عاد به "إلى ما طبع عليه الإنسان من ميل للمحاكاة (Mimèsis) والتذاذ بها"(
[16])، لذا عدّ هذا المؤلف تتمة لأجناس القول التصديقية (البرهان والحجاج) بأخرى غير تصديقية تتغيا التطهير Catharsis (في التراجيديا) والتغيير (في الكوميديا) من منطلق ما يبدو لنا أو كما نود أن يكون.
إنّ فن الشعر لأرسطو يتعذر فهمه إذا لم يوضع في إطار المؤسسة السياسية الحاكمة في أثينا باعتباره أداة لتكوين المواطن الحر والسوي(
[17])، عكس البيان الأفلاطوني -الجاثم في الكتاب العاشر من الجمهورية- الذي أقصى الشعر من المدينة لعلتين: علة ميتافيزيقية: الفنان يحاكي العالم المحسوس وليس المعقول فيأتي إبداعه في الدرجة الثالثة بالنسبة للطبيعة الحقة للأشياء(
[18])، علة تربوية: الفنان المقلد يخاطب في النفس الإنسانية الجزء الغضبي والشهواني فيها، وبذلك لا يساعد على التحكم في الرغبات والأهواء بل يثيرها(
[19]).
يمكن التمييز في تحليل
أرسطو للقول الحملي (أولى عناية شديدة للقول الخبري القابل للتقويم الصدقي واستبعد ما دونه) بين مستويين: مستوى أول اهتم فيه بدلالة القول ودلالة مفرداته وطرق تأليفه وتركيبه، ومستوى ثان تداولي من خلال الإحاطة ببلاغة القول وجودته وعلاقتهما بكل من الإفادة والإقناع والإمتاع(
[20])، الشيء الذي يجعل المعرفة تتخصص بطبيعة مبادئها (معرفة علمية، ظنية، متخيلة). بل إنّ اكتساب المعرفة العلمية على هذا الأساس متعلق بالمعارف القائمة (المقدمات التي يبنى عليها استدلال برهاني ما تنبثق من المعرفة القائمة سلفاً(
[21])(
*).
تحصل مما تقدم أنّ آلة أرسطو شملت كلّ أجناس القول بشكل تدرجي وارتقائي: من التصور الساذج إلى الاستدلال عبر الحكم (تركيب التصورات).
وبما أنّ بحثنا له تعلق بميدان الحجاج والتفاعل الجدلي، حري بنا إلقاء الضوء على مراتب الإقناع عند أرسطو بعد أن نميز بين الحجاج والبرهان.
"إنّ معظم الاستدلالات مما يجري في عالم الناس تتم صياغته في اللغة الطبيعية -شئنا ذلك أم أبينا-، وبالمثل فإنّ كثيراً من استعمالات اللغة الطبيعية يستخدم الاستدلال بوجه ما"(
[22]). بناء على ذلك يكون الحجاج أوسع تطبيقاً من البرهان، لا سيما بعدما بان أنّ الحجاج في الدرس اللساني المعاصر (الحجاجيات اللسانية عند Ducrot وAnscombre) "مؤصل في الأنسجة القاعدية للغة"(
[23])، بل إنّ الخاصية الحجاجية للغة هي الأصل، أمّا "الإخبارية" فما هي إلا ظاهرة متفرعة عنها(
[24]).
بغض النظر عن الفروقات التي رصدها عدد من الدارسين بين البرهان والحجاج(
*)، نستطيع القول إنّ برهانية الاستدلال تنبني على قوانين منطقية رياضية، أي على صور منطقية صحيحة، لا تعلق لها البتة بمضمون القضايا ولا بالمقام التداولي، اعتباراً أنّ الصور المنطقية الصحيحة تبقى ملزمة في كل مقام، وبالنسبة لكل فرد. أمّا حجاجية الاستدلال فتنبني على قوانين منطقية طبيعية لها تعلق بمادة الاستدلال الحجاجي ومضمونه والمقام التداولي الذي تحقق فيه (انخراط الأفراد في التفاعل اللغوي محملين بكامل انفعالاتهم واعتقاداتهم، كما أنّ اللغة هنا لم تهذب بعد من ضروب الإيحاءات والاشتراك اللفظي بخلاف لغة العلم ذات المعنى الأحادي Sens univoque).
من المعلوم أنّ قواعد التدليل الأرسطية الحجاجية تتجسد في مصنفاته الجدلية والخطابية، ومن الثابت أيضا أنّ
أرسطو أجرى تعديلاً على مبحثي الخطابة والجدل من بعد ما أراد لهما
سقراط و
أفلاطون أن يكونا علماً(
[25])، فإذا كان
أفلاطون يقيم تمييزاً حاسماً بين نوعين من الخطابة: خطابة معلولة Logographie في محاورة "جورجياس" ومرفوضة لقيامها على التنكر للعقل واعتماد الآراء الناتجة عن الأهواء والمصالح، وخطابة معقولة Psychagogie في محاورة "فيدر" ذات الأرومة شبه المنطقية والعلمية، منهجها الجدل وغايتها البحث عن الحقيقة من خلال مخاطبة الإنسان قوتها العاقلة(
[26])، فإنّ
أرسطو قد جعل من الخطابة الوحدة الأساسية للجدل "بوصفها قوة بها نكتشف نظرياً المقنع في كل أمر معطى"(
[27])(
*). يتميز الاستدلال الخطابي عن نظيره الجدلي بطبيعة النتيجة فيهما، "فوظيفة الجدل تقنين المناظرة حول أي مطلوب إثباتاً أو إبطالاً بالاعتماد على مقدمات محتملة وشبيهة مع تجنب التناقض الذاتي، والمطلوب الجدلي دعوى حملية يكون محمولها إمّا حداً لموضوعها أو خاصة أو عرضاً أو جنساً (...) أمّا وظيفة الخطابة فتقنين الإقناع بأي مطلوب، إثباتاً أو إبطالاً بالاعتماد على مقدمات محتملة وشبيهة مع تجنب التناقض الذاتي، والمسألة الخطابية دعوى حملية يكون محمولها صفة من مجموعة سداسية من الصفات، يكون كل زوج منها جنساً خطابياً: النفع والضرر (الجنس التداولي والاستشاري). العدل والظلم (الجنس الشرعي)، الحسن والقبح (جنس الثناء)"(
[28]). بقدر ما ترتبط الخطابة بالجدل، فإنها متجذرة في السياسة والأخلاق، يمثل العلم التحليلي والجدل المستوى الصوري فيها، بينما علم السياسة وعلم الأخلاق يمثلان مادتها. وتتوقف القدرة الإقناعية للخطيب على حسن امتلاكه لما سمّاه
أرسطو بالمواضع الخاصة (المحاميل الخطابية السداسية السابقة الذكر)، وكذلك للمواضع العامة (موضعا التداخل، مواضع الفصل التخييري، موضعا المقدم والتالي...)، وبإجمال، تنحصر المقومات الحجاجية الأرسطية في الخطابة في عناصر ثلاثة:
الإيتوس Ethos، ومما يدعو إلى بعث الثقة في الخطيب أمور ثلاثة: السداد والفضيلة والبر(
[29])، وترتبط الخطابة المشورية به أيما ارتباط، فما يكسب السعادة أو بعضاً منها هو ما ينبغي أن يفعله وينصح به الناصح، والعكس في الحالة المعاكسة(
[30]).
الباتوس Pathos: هناك نوازع في المتلقي وجب على الخطيب معرفتها حتى يسهل عليه التحكم فيها بسهولة (الغضب والسكينة، الحب والكراهية، التخوف والثقة...)، وبدهي أن يتناسب كل جنس خطابي مع زوجين من العواطف المذكورة سلفاً، ففي الخطابة القضائية يكون المطلوب هو إثارة الغضب على الجاني والشفقة على الضحية، وفي هذا الجنس يكثر استخدام القياس الإضماري(
[31]).
حجج اللوغوس Logos المتضمنة للضمير والمثال بنوعيه(
[32]) (الشاهد التاريخي: إيراد أحداث متقدمة، والشاهد المبتكر المحتمل كالخرافة) والتفخيم (التعظيم أو الحط من شأن شخصية ما) عند مشهد احتفالي(
[33]).
جدير بالإشارة أنه عند الافتقار إلى القياسات المضمرة لا بدّ من استخدام المثالات كبرهان، أمّا إذا وجدت القياسات المضمرة فينبغي استعمال المثالات كشهادات بتوظيفها كنتيجة للاستقراء(
[34]).
الخطابة مجرد قطعة من إمبراطورية عريضة هي الجدل الذي يقوم على الخلوص إلى استنتاجات انطلاقاً من آراء محتملة، ولا غرابة أن يطلق بعض مشاهير المشتغلين بمبحث الحجاج من المعاصرين على مبحثهم هذا اسم الخطابة الجديدة.
وختاماً "وفي المسافة التي تفصل الكيفية التي يوجد بها العالم، والكيفية التي بها يتصور الناس ذلك العالم هنالك مجال فسيح للتفلسف"(
[35])، ذلك ما تنهض به التفسيرات الأسطورية والشطحات السوفسطائية والقياسات المنطقية دليلاً قاطعاً على غنى مواقف الذات الإنسانية حيال الموضوع المدروس.