12 مايو 2015 بقلم
عبد الرحيم العلام قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:يَفرض التوضيحُ نفسَه عندما يتعلق الأمر بتعريف مثل هذه الكلمة المثقلة بالدّلالات، في اللغة الشائعة، كما في الاستعمالات العلمية. فبِقدْر ما تستعمل كلمة "أيديولوجيا" في المجالات الإنسانية المتعددّة، يحفّ بها اللّبس والغموض. فالأيديولوجيا تُوظّف في السيّاق السياسي، كما في السياق الاجتماعي. أما الجانب العلمي للكلمة، فإنّه، كما يقول فيلب برو: "لم يتحقّق بعد، إجماع غير قابل للنّزاع حولها"
[1]، وإن كان وجودها ضمن دائرة التداول يُحقّق بعض التواصلِ، ويكشف عن المُبتغى من الحديث في غالب الأحيان، لأنّه كثيرًا ما لا تُسعفنا العبارات من أجل التعبير عمّا نريده، من غير توظيف هذه الكلمة التي توحي أحيانًا بنظرة إيجابية وأحياناً أخرى تشير إلى معانٍ سلبية. فكيف ظهرت كلمة أيديولوجيا؟ وما المقصود بها؟ ولماذا هذا التمسك بها على الرغم من اللبس الذي يُحيط باستعمالها؟
يخبرنا أحد الباحثين، أنّ كلمة أيديولوجيا قد ظهرت سنة 1796م مع (دستوت دي تراسيDestutt De Tracy ) رائد الوضعية ووريث حسّية sensualisme (كوندياكCondillac ). وقد استعمل دي تراسي كلمة أيديولوجيا "لتسمية عملية تحليل الأفكار المأخوذة بصفتها شبيهة بعلم النبات وعلم الحيوان الطبيعيّين، بهدف دراسة أصول هذه الأفكار وعلاقتها بطريقة تجريبية ومنطقية"
[2]. ففي عِزّ النقاش المحتدم حول الثورة الفرنسية، وفي ظل الانتقادات التي وجّهها بعض المفكرين والفلاسفة الأنجليز وعلى رأسهم "إدمون بيرك" مؤسس النزعة المحافظة في بريطانيا ومؤلِف كتابَي "المدافع عن المجتمع الطبيعي" سنة 1775م، و"تأملات في الثورة" 1790م، ظهر كتاب من 10 صفحات لصاحبه "دستوت دي تراسي"، يرفض فيه أطروحات هؤلاء، ويصف مقترحاتهم بأنصاف الحلول، ليكون بذلك أحد المؤسسين لكلمة "أيديولوجيا"، وذلك بتأثير من أفكار كل من "جون لوك" و"كوندياك". فقراءته لهذين المفكّرَين ساقته، كما يقول، للاعتقاد في "مبادئ الأيديولوجيا" Eléments de l'idéologie، أي أنّه لا وجود لأفكار فطرية مادام كل الفكر مستمدًّا من الإحساس. وقد اعتقد أيضًا بأنّه "لاشيء يوجد بالنسبة لنا إلا بواسطة الأفكار التي نمتلكها عنه، لأنّ أفكارنا هي كينونتنا بأكملها، وهي وجودنا نفسه"
[3].
كان "ديستوت دي تراسي" يعتقد بأنّ التشكيك في وجود المعرفة الحقّة، هو الذي دفعه إلى ابتكار علم الأيديولوجيا من أجل تتبّع الأصول الحقيقية للأفكار. وعلى الرغم من أنّ هذا المفكّر لم يكن هو أول من فتح مجال دراسة علم الأفكار، إذ سبقه إلى ذلك كوندياك
[4]، إلا أنّ هذا المجال سيتميّز مع دستوت بأنّه أخذ طابعًا مؤسّساتيًّا في قسم مجمع فرنسا الذي كان يُدرّس العلوم الأخلاقية والسياسية، وأطلق عليه اسم الأيديولوجيا أو علم الأفكار
[5]. لكن هذا العلم لم يكن ليرحَّب به من قِبل الامبراطور الفرنسي نابليون الذي حاربه بشدة، وحارب كل دعاة الأيديولوجيا، وذلك خوفًا من كشف الأيديولوجيا القناع عن الأهداف الوضعية وراء احتضان نابليون للفاتيكان. لقد وُلد التصوّر الحديث للأيديولوجيا، حينما اكتشف نابوليون أنّ هذه الجماعة من الفلاسفة تُعارض طموحاته الأمبراطورية، فأطلق عليهم باحتقار اسم "الأيديولوجيون". وبهذا اتخذت الكلمة معنى تحقيريا، واحتفظت به حتى اليوم
[6].
واضح، أنّ كلمة أيديولوجيا لم تكن في بدايتها تحمل أيّ معانٍ سلبية، أو إيحاءات تحقيرِية، بل نشأت الأيديولوجيا في الأصل علمًا شارحًا أو ما بعد علم méta-science أي علم العلم. وقد ذهبت إلى أنّها قادرة على تفسير من أين جاءت العلوم الأخرى، وعلى تقديم تسلسل أنساب علمي للفكر. لقد زَعم هذا العلم لنفسه أنّه قادر على تأسيس قواعد ولغة تتخذ من الرياضيات أنموذجًا... يخصص فيها لكل فكرة علاقتها اللغوية المناظِرة. وسيكون من المستطاع استخدام هذا النسق لدراسة العلاقات بين الأفكار وكذلك لتحديد أصولها
[7]. لكن كيف تبدّلت المعاني، حتى صارت كلمة "أيديولوجيا" تفيد عكس ما نظَّر له مؤسسوها؟ ومتى حصل تغيير المضمون العلمي للكلمة؟
يَبدو أنّ الوقت لم يَطُل كثيرًا حتى انتقل الاستخدام العلمي للأيديولوجيا، إلى توظيف سلبي، فمع نهاية القرن الثامن عشر فرضت كلمة أيديولوجيا نفسها من أجل الدلالة، تحقيريًّا، على المذاهب التي كانت تطمح للتفكير بالنظام الاجتماعي. وفي المجادلات السياسية، كان يُندَّد بـ "الأحلام المسبقة الأيديولوجية"، أو يُتباهى "بإدارة الظهر للأيديولوجيا"
[8]. وهذا يعني أنّ الأيديولوجيا أضحت تعبيرًا عن مجموعة أفكار خاطئة، مقطوعة عن الوقائع الملموسةِ، ويُدافَع عنها بميولٍ أو بأهواءٍ دوغمائيّة. وغالبًا ما تُوظّف للإشارة إلى الفكر الديني الذي كان يهدف إلى الشمولية وتغييب العقل، وهو الأمر الذي كان مرفوضًا من قِبل فلاسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
لقد فُهِمت الأيديولوجيا أيضًا على أنّها طريقة للتمييز بين الكذب المتعمّد وبين المغالطات التي تحدث للإنسان بسبب أوضاعه السياسية أو الاجتماعية، أو لكونه ضحية لتصورات فكرية مضلّلة ومخادعة. فالأيديولوجيا بهذا المعنى تدل على "ظاهرة تقع مباشرة بين الكذب البسيط من جهة، والخطأ الناتج عن جهاز مفاهيمي مشوّه أو سيء من جهة أخرى. وهو يشير إلى مجال أخطاء ذات طبيعية سيكولوجية، تختلف عن الخداع المتعمّد لكونها غير مقصودة، ولكنها تنجم، بصورة حتمية ودون معرفة بقيامها، عن عوامل سببية معينة"
[9].
وكان كارل ماركس أبرز من حمّل الأيديولوجية معاني مغايرة لما دَرجَ عليه الاستعمال الأول للكلمة؛ ففي تعارض مباشر مع الفلسفة الألمانية التي تهبط من السماء إلى الأرض، تكون المسألة عند ماركس معاكسة أي الصعود من الأرض نحو السماء: "إنّ الأطياف المتشكلة في أدمغة الناس هي بالضرورة أشياء مصعدة من عملية حياتهم المادية. والأخلاق والميتافيزيقيا وبقية الأيديولوجية بأكملها وكذلك أشكال الوعي المناظرة لها، لا تحتفظ بمظهر الاستقلال... فليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي"
[10].
فبحسب مُنظّر الاشتراكية، الأيديولوجيا ما هي إلا مجموع التمثلات (الخاطئة) التي ينتجها المُسيطرون، بطريقة مُغرضة، بُغية تبرير استغلالهم الطبقي، مما دفع ماركس إلى الدخول في مواجهة فكرية مع "النزعة الإنسانية" للبرجوازيّين اليبراليّين الذين كانوا يُمجّدون المساواة بين المواطنين على مستوى حقوقهم، لكي يَحجبُوا بشكل أفضل، وراء هذا الوهم من المساومة الشكلية، حقيقة الانشقاق بين الرأسماليين والعمال. ويعارض ماركس الأيديولوجية (المخادعة) بالعلم (البروليتاري) الذي، بقيامه ينسف المظاهر الخادعة، ويُعيد الوضوح للعلاقات الواقعية بين البشر. ولكن ماهي هذه العلاقات؟ إنّها علاقات الإنتاج القائمة على اغتصاب القيمة الفائضة على حساب العمال"
[11].
فماركس كان يرى أنّ الانسان يُضَلّل، في حالة الأوهام، بالمظاهر الخارجية لترتيبات السوق الرأسمالية، فيُخفق في إدراك الاستغلال الذي تُخفيه تحتها، بينما الخِداع يشمل معتقدات زائفة أو غير معقولة يقبلها، أو قيمًا شاذة ولا إنسانية يُقرُّها، وفي كلتا الحالتين، على الإنسان، من الوجهة البسيكولوجية، أن يكون له دور في المجتمع وأن تعمل مؤسّساته الأساسية بشكل مناسب
[12]. يكتُب ماركس في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية إنّ "التفكير والوجود متميزان يقينًا، ولكنّهما في الوقت نفسه داخلان في وحدة كل مع الآخر" ومن الواضح أنّنا ما كنا نستطيع أن نشكل مفهوم دائرة "مثالية"، ما لم نكن قد تصورنا أيضًا مجالاً "ماديًا". فقطبا التضاد يخلق كل منهما الآخر ويحدده، وتتشكل تلك الحقيقة في الممارسة الإنسانية التي تضم معًا الفكر والفاعلية المادية"
[13]. هذه الرؤية الماركسية للأيديولوجيا تم نحتها وتطويرها مع مجموعة من المفكرين الماركسيين، خلال القرن العشرين، ومن أبرز هؤلاء ظهر اسما "ألتوسير" و"غرامشي".
ولئن ركّز غرامشي على الجانب الهَيمني للأيدولوجيات الحاكمة، فإنّ ألتوسير قد ألحّ على وجهين من وجوه الأيديولوجيا: أولاً، كيفية فرض النظام الحاكم، وثانيًا كيفية عمل الأيديولوجيا على مستوى الفرد. بالنسبة إليه، تعتبر الأيديولوجيا وسيلة لرؤية الحقائق الأخرى. معنى ذلك في نظره أنّ الأيديولوجيا وهمٌ مُضلّل بالرغم من أنّها تشير ضمنيًّا إلى الحقيقة. من خلال هذه الفرضية يقوم ألتوسير باستكشاف الظروف التي يَسعَدُ من خلالها الناس في مثل هذا الوهم، بالرغم من أنّه يساعد في تكوين أدوات استعبادِهم وقمعِهِم من دون أن يدركوا أنّه يفعل ذلك. فهو يميّز بين نوعين من أجهزة الدولة التي تمكن الطبقة الحاكمة من ممارسة سلطتها على الشعب؛ أما الجهاز الأول فهو النوع التقليدي والمعروف أي الجيش والشرطة والسجون.. إلخ. في حين يُسمّي ألتوسير النوع الثاني بأجهزة الدولة الأيديولوجية من قبِيل: المدارس والأسَر والكنائس ووسائل الثقافة...إلخ. فهذه الوسائل هي ما يُسهِم في تذويب السيطرة الأيديولوجية للدولة
[14].
إنّ الأيديولوجيا ليست معرفة خاطئة، في عرف مؤلّف "دفاعًا عن ماركس"، بل هي قبل كل شيء "ليست معرفة، ولأنّ وظيفتها العملية المجتمعية تفوق أهمية وظيفتها النظرية المعرفية... فالناس لا يعكسون ظروف عيشهم الواقعية ولا عالمهم الحقيقي في التمثلات الأيديولوجية. إنّهم يعكسون، قبل كل شيء، علاقتهم بظروف عيشهم"
[15]. يحاول ألتوسير في هذا النص نفي أن تكون الأيديولوجيا منتمية لمنطقة الوعي، أو أن تكون لها علاقة كبيرة بالوعي، سيما وأنّ الوعي ليس له معنى واحد "إنّ الأيديولوجيا لاشعورية في جوهرها (...) حتى وإن قدمت لنا نفسها في شكل واع".
[16]لم تعد الأيديولوجيا وفق هذا التصور المتطوِّر عن الماركسية، مجالاً للإبهام والإخفاء، أو محاولة للتلبيس على المواطنين، بل هي وُثوقية إلى حدّ الحسم، ونازعة نحو تجميل الذات ضدًّا لكل انتقاد، ففي "ظل مجتمع يوجد نشاط اقتصادي في الأساس وتنظيم سياسي وأشكال أيديولوجية، وبهذا تشكل الأيديولوجيا جزءًا عضويًّا في كل وحدة مجتمعية (...) ليست الأيديولوجيا إذن ضلالاً، ولا شيئًا زائدًا عرضيًّا بل هي بنية ضرورية للحياة التاريخية"
[17].
وفي سياقٍ مشابهٍ، تأتي أطروحة إرنست كاسيرر، وذلك ببحثه علاقة السياسة بالأيديولوجيا، حيث رأى أنّ "الأساطير السياسية الحديثة هي في منتهى الغرابة والتناقض، لأنّها تجمع بداخلها بين فاعليتين تقصي إحداهما الأخرى". فبحسب هذا المفكر يتوجّب على رجل السياسة الحديث أن "يشغل في الوقت نفسه وظيفتين مختلفتين وغير متلائمَتيْن؛ إذ عليه أن يتصرف باعتباره إنسانًا صانعًا وباعتباره كذلك إنسانًا ساحرًا. يتوجب عليه أن يكون كاهن ديانة جديدة لاعقلانية، ومع ذلك عليه أن ينشرها بطريقة منهجية وألا يترك أي شيء للصدفة"
[18]. وبهذا تصبح الأيديولوجيا "نقطة التقاء أسطورة العقل وأسطورة الحياةle logos et le bois، ونقطة اندماج العقلاني والطبيعي وتداخلهما. ولتدارك سلبيات الوعي الأيديولوجي الزّائف، يقترح جون راولز العقلانية والتفكير الجيد، لأنّ من شأن ذلك أن يفيد في فضح الأوهام والخداع
[19].
لاحظنا كيف أنّ الأيديولوجيا خضعت للسيرورة التاريخية التي صَيّرتها رؤية ازدرائية، بعد أن كانت فكرة علمية يراد منها دراسة الأفكار وتقييمها، وقد احتفظ تاريخ مفهوم الأيديولوجيا، منذ نابوليون حتى الماركسية، وعلى الرغم من التغييرات في محتواه، بالمعيار السياسي نفسه للحقيقة والواقع
[20]. كما استعملت الأيديولوجيا من جانب جميع الأطراف السياسية سواء التي في الحكم أو التي في السلطة، فلم يلبث إلا وقت قصير حتى أضحت الكلمة التي رفضتها، لكن "توسع وانتشار المدخل الأيديولوجي هو نفسه الذي سيؤدي في آخر الأمر إلى نقطة يستحيل فيها على وجهة نظر واحدة أن تهاجم غيرها وترميها بتهمة الأيديولوجية دون أن توضَع هي نفسها في مركز يرغمها على مواجهة ذلك التحدي وتلك التهمة"
[21].
يقول ماكس فيبر "ليس التصوّر المادي للتاريخ سيارة أجرة يدخلها المرء ويخرج منها كما يشاء، فإنّ من يدخلها يفقد حريته في مغادرتها، حتى ولو كان من الثوريين"
[22]. إنّ تحليل الفكر والأفكار على أساس أنّها أيديولوجيات، أوسع في التطبيق وأهم، باعتباره سلاحًا، من أن يصبح امتيازًا احتكاريًّا مقصورًا على طرف واحد أو حزب واحد. وليس ثمة ما يمنع خصوم الماركسية من هذا السلاح وتوجيهه ضد الماركسية نفسها. وهذا بالفعل ما حصل على مرّ العصور وفي كل الأوساط، فغالبًا ما تبادلت الأطراف اتهامات "الأدلجة"، وتزييف الوعي، وتغييب العقل النقدي، وكل ذلك في إطار نسيان الأصل العلمي للكلمة، والدور الذي اضطلعت بها دراسة الأيديولوجيا المتمثل في كشف الأقنعة عن المخادعات الواعية المقصودة، وتمزيق الحجب التي تستر المصالح البشرية، خاصة مصالح الأحزاب السياسية، والأنظمة الاستبدادية كما هو حال نظام الامبراطور نابوليون بونبارت الذي سعى دي تراسي ورفاقه إلى مواجهته، وكانت النتيجة أنّ العلم الذي حاول تتبع أصول باقي العلوم، والبحث عن ادّعاءات رجال السياسة، أمسى ضحية لهؤلاء، كما تحول مؤسّسوه إلى مجرد "أيديولوجيين" يسعون إلى تضليل المواطنين، وبث الشكوك في صفوفهم. ولأنّ الحديث عن الأيديولوجيا ممتدٌّ ومتشعّب، فإنّ حسبنا هذا الإشارة الإجمالية للموضوع، التي مكّنتنا من إطلالة مقتضبة على مفهوم أو كلمة تُستعمل كثيرًا، ويكاد لا يخلو نقاش في السياسة كما في الفكر من توظيفٍ لها.