30 يونيو 2015 بقلم
عبد السلام بنعبد العالي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:سمة أساسية تكاد تطبع انشغالنا الفلسفي، هي حصر اهتماماتنا الفلسفية في مجال بعينه من مجالات البحث الفلسفي هو مجال تاريخ الفلسفة عربيّه وغربيّه. صحيح أن هذا الولع بالتاريخ، وهذا الحوار اللامتناهي معه، يكادان يطبعان الفلسفة المعاصرة في شتى أنحاء المعمور، إلا أنهما لا ينبغي أن ينسيانا قضايا الراهن.
فإذا كانت الفلسفة أساسا، مقاومة لكل أشكال التخشب الفكري، فإن ذلك التخشب لا يلحقنا فحسب من ترسّخ مقولاتنا في الماضي، ولا من ترديد بليد لمقولات "نستوردها"، وإنما أيضا مما نتشربه يوميا من أشكال اللافكر التي نتغذى عليها، والتي يعمل مجتمع الفرجة على تكريسها في أدمغتنا وترسيخها في تصرفاتنا.
أشكال اللافكر هاته، هي ما يتخذ عند بعض المفكرين المعاصرين اسم البلاهة bêtise. لن يكون من السّهل تحديد معنى هذا اللفظ، ولا حتى الاتفاق على أن تلك الترجمة هي النقل المناسب للكلمة الفرنسية؛ فنحن نعلم أنها لو استعملت في صيغة الجمع les bêtises، فإنها قد تعني مجرد الحماقات، أما في صيغة المفرد فقد كانت تردّ في البداية إلى الحيوانية وغياب الذكاء، وبالتالي إلى ردود الفعل الغريزية. ولعل لفظ "البهامة" الذي يقترحه البعض هو الأنسب لنقل المعنى في هذا السياق، وهو يعني التبلّد، وفي أقصى الأحوال الجهل وغياب المعارف، وهو الأمر الذي كانت تكفي التربية والتكوين لمقاومته.
استلهاما من عنوان كتاب غوستاف فلوبير "قاموس الأفكار الجاهزة"، ذلك الكتاب الذي عمد فيه صاحبه إلى جمع العبارات الجاهزة التي كان الناس يتفوّهون بها في محيطه كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، استلهاما من هذا الكتاب حاول ميلان كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث، فكتب: "إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة".
غير أن هذا التحديد الذي يجمله كونديرا في عبارته هذه يكاد يغفل جوهر المسألة، إذ أنه يقدّم اللافكر كما لوكان يعطينا نفسه في عرائه. فهو عندما يحدّد البلاهة بأنها لافكر، يبرئها إلى حدّ ما، ويرفع عنها كل "خطورتها"، تلك "الخطورة" التي كان جان كوكتو فيما قبل، قد ألحّ عليها عندما كتب: "إن مأساة عصرنا، هي كون البلاهة تفكر".
مأساة عصرنا، ومأساة البلاهة،لا تكمن إذن في كونها لافكرا، وإنما في كونها لافكرا يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يُتدارك عن طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملأه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدّم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر، من هنا اكتفاؤها بذاتها وصلابتها وتجذرها، خصوصا عندما ستزداد الأفكار الجاهزة ذيوعا مع انتشار وسائط الإعلام وتقدمها، وعندما تعمل "الصورة" في مجتمع الفرجة، على مخاطبة ملكاتنا جميعها، واستثمارها في غرس "البلاهات".
هاهنا يجد نداء نيتشه كل مبرراته، عندما يدعونا إلى "إزعاج البلاهة ومقاومتها Nuire à la bêtise". لا يستعمل الفيلسوف الألماني عبارة "ضرورة القضاء عليها"، إدراكا منه لصعوبة القضاء النهائي على البلاهة، وكونها ماتنفك تدفع الإنسان الحديث إلى أن يقدّ نفسه وفق ما تجري به الأمور، ويسعى جهده أن "يجاريها".
لا يكفي التفلسف، والحالة هذه، أن يغدو معارف فلسفية تنهل من تواريخ الفلسفة في مختلف أشكاله وحقبه. ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بتخطيء البلاهة وحملها على التفكير الصائب، فمسألة البلاهة اليوم، ليست مسألة صواب وخطأ، كما أنها لم تعد قضية جهل ومعرفة، وإنما هي قضية اللافكر الذي يحسب نفسه فكرا، غير أن هذا اللافكر لم يعد هو الخطأ الذي يكفي لمقاومته أن يعبد الفكر الطريق، ويضع "المنهج" ويسن "قواعد لتوجيه العقل"، كما أنه لم يعد مجرد توظيف للعقل في غير محله، وتخطّ للحدود التي ينبغي أن يحترمها، حيث يكفي لتقويمه إقامة نقد يحدد مجال "الاستخدام المشروع للعقل"، وربما لم يعد أيضا حتى ما وُسم بالرأي الأيديولوجي والوعي المغلوط الذي يكفي دحضه وتفنيده.
هذا الشكل الجديد لـ"اللافكر" يقتضي من الفلسفة أن تتعقب أشكال البلاهة التي تتغلغل في يوميّنا، ساعية لأن تقنعنا بأنها فكر وكل الفكر، فتجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها، "تجعلنا أكثر محافظة من كل المحافظين".