التطور الطبيعي و الثورة " ظهر كتاب " أصل الأنواع عن طريق الإنتقاء الطبيعي " في نوفمبر من عام 1859 و حقق نجاحا علي الفور , في نفس يوم صدوره تم بيع نسخ الطبعة كلها البالغة 1250 نسخة.
في كتب تاريخ العلم , و بوجه أخص في الكتب عن داروين, نقرأ دائما عن المعارضة المريرة التي أثارها الكتاب , و هذه مقولة بحاجة للتقويم . صحيح أن أصحاب الأسماء الكبيرة في العلم في ذلك الحين مثل لويس أجاسيز, العالم في الأسماك , و عالم النبات آسا جراي , و سواهما , عبروا عن تحفظات قوية علي أفكار داروين , لكنهم فعلوا ذلك ليس دون احترام , و علي أسس علمية خالصة . أشار أجاسيز إلي أن فحص بقايا الهياكل العظمية لعدد من انواع الأسماك القديمة أو البائدة قد أثبت وجودتقدم أفضل عن طريق التطور و قدرات أكثر علي التكيف , في صراعها من أجل البقاء بأكثر مما هو موجود لدي الأنواع التالية من الأسماك , و بالتالي فإن مبدأ " البقاء للأصلح " لا يسري هنا . لكن جوقة الأكاديميين المناصرين لداروين كان صوتهم أعلي , و سرعان ما تحول المشهد في الدوائر الثقافية نحو المسارعة للحاق بالفريق الفائز في المباراة . رأس الحربة في هذه الحركة تمثل في توماس هكسلي من إنجلترا و ارنست هاكل من المانيا , و أبقي داروين نفسه في الخطوط الخلفية , لكنه كان يقوم أحيانا بتحريض مقاتليه في الصفوف الأمامية لتدمير خصم علمي , غالبا من رجال الدين , و ذلك بالإلتفاف حول الحجج العلمية و مهاجمة الناقد علي المستوي الشخصي , علي غرار ما حدث مع حدث مع الراهب الفرنسي سان جورج ميفارت الذي قدم حججا قوية ضد نظرية التطور و الانتقاء الطبيعي . و في مراسلاته أشار داروين إلي لامارك , الذي سبقه في القول بالتطور , و الذي كان قد مات منذ زمن طويل , بأنه مؤلف " ذلك الكتاب التافه "كذلك فقد تجاهل داروين أعمال مؤسسي علم الجيولوجيا : سير رودريك مارشيسون , وليم باكلاند , آدم سيدفيك, من أوائل القرن التاسع عشر , و هم الذين أطلقوا الأسماء التي ما زالت مستخدمة حتي اليوم لمختلف العصور الجيولوجية : الكمبري , البرماني, الاردوازي , الطباشيري..الخ. كما أحاط بالصمت مؤسس علم حفريات الثدييات و علم الأسماك جورج كوفير . إن مؤسسي علم الأرض هؤلاء قدموا معطيات مستمرة تكشف أن أحداثا كارثية علي نطاق العالم كله قد قاطعت تدفق التاريخ الطبيعي علي نحو متكرر , إن داروين قد تبع تشارلس ليول , الذي كان محاميا بالتعليم , و قال بنظرية التماثل , لا كعالم و لكن كمحام , كان كتابه هو ما قرأه داروين و هو في رحلته علي ظهر السفينة " بيجل " و هو يعترف بأن هذا الكتاب كان إنجيله الخاص .
من الواضح أن داروين كانت لديه رغبة سيكولوجية أن يغمض عينيه عن الدلي المعاكس , و لكن كانت ثمة رغبة مماثلة لدي المجتمعين : العلمي و العلماني للتخلص من نظرية الثورة الطبيعية و تبني نظرية التطور الطبيعي , و إن المرء ليعجب لدرجة الحدة التي أباها العلماء في قبولهم نظرية داروين , فلم تستخدم أية حجة من الحجج التي كان يمكن استخدامها ضده من جانب معارضيه . و في يومياته المنشورة عن رحلاته في أمريكا الجنوبية , علي سبيل المثال , ثمة عدد من المداخل تشير لوجود إنقطاع كارثي لتدفق الصراع من أجل البقاء بين أشكال الحياة . لم يكن فيها فقط هذا النص عن ضرورة فحص إطار الأرض كلها من أجل تفسير الإنقراض الجماعي و المفاجئ لعديد من الأنواع الحيوانية , بل فيها أيضا الدليل المتمثل في إرتفاع ساحل شيلي لأكثر من ألف قدم في فترة أقصر من أن تتيح انقراض القواقع البحرية , و التعديات المتكررة من المحيط علي طول ساحل البرازيل حتي تلال سفح الأنديز . لكنه علي الرغم من عدم قيامه بإجراء أبحاث ميدانية جديدة بين تسجيله هذه الملاحظات و كتابته " أصل الأنواع " إلا أنه عارض في هذا الأخير فكرة التغيرات الكارثية لمحيطات الأرض و البحر , كما عارض كذلك فكرة حدوث انقلابات قارية , أقل كثيرا من أن تكون عالمية . و لم يثر أي من معارضيه هذه التناقضات بين الملاحظات التي سجلها في يومياه , و الأفكار التي طرحها في كتابه . كذلك لم يرتفع ضده القول بأنه لا يشغل مكانا أكاديميا في جامعة من الجامعات . أو أن درجته العلمية لم تكن سوي بكالوريوس في اللاهوت , أو أنه قد استبعد كل الهوامش التي تحدد مصادره , و من ثم يستحيل علي القارئ اختبار المادة التي يقدمها - كل هذه المآخذ لم يشر إليها أي من نقاده . هذا إضافة اعدم إهتمامه بالنتائج الصلبة التي توصلت إليها العلوم التي كانت شابة جدا في زمانه و هي علوم الحفريات و الجيولوجيا , و فشل داروين , هو و بطانته من الشمامسة , في معرفة شئ عن عمل معاصره جورج مندل الذي أثبت صحة القوانين الأساسية للوراثة و وضع أساس علم الجينات الحديث .
كان داروين روح العصر الفيكتوري : نظرية تطوري تزعم أنها ثورة و هي ليست كذلك . و أصبح داروين هو المرجع الأعلي , رمزا لحل جميع المسائل , و بديلا عن الخالق ذاته الذي أصبح متهما بأنه غير جدير بالثقة فالكتب الموسوية التي أوحي بها , و كذلك قصة الخلق , ثبت أمها جميعا زائفة !
إن نجاح داروين و القبول السريع لنظريته من جانب الأكاديميين , و تسرب هذه النظرية إلي كل الشئون الروحية و المادية , إنما يرجع لتأكيده أن إطار الأرض لم يتعرض أبدا لأي إهتزاز " .
من كتاب " البشرية تفقد الذاكرة ".