رحيل غونتر غراس..
بوصلة الوعي الألماني
اسكندر حبش
من الصعب علينا، في ما لو أردنا أن نتحدث عن الأدب الألماني المعاصر، أن نمرّ سريعا إلى جانب اسم غونتر غراس من دون التوقف عنده، ومن دون التوقف أمام هذه العمارة الأدبية التي أنجزها في حياته بدءا من روايته الأولى «الطبل الصفيح» التي صدرت في خمسينيات القرن الماضي، أي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي «أعادت» الأدب الألماني إلى الساحة الدولية بعد تاريخ حافل بمآسي الحروب، ما دفع الجميع إلى «تجنب» تلك الآداب.
لا يمكن لنا، بأي شكل من الأشكال، أن نتجاهل دور غراس في الأدب المعاصر، إذ شكل ظاهرة حقيقية تستحق التأمل فعلا مثلما هي تستحق القراءة، وإن كان القارئ العربي لم يدخل كثيرا إلى عوالم أدبه، وبقي بعيدا عنها. بمعنى أن أدب غراس لم يُشكل نقطة جذب إذ لم يُقرأ كثيرا في العالم العربي (على سبيل المثال، أكثر من عشر سنوات لنفاد الطبعة الأولى من رواية «الطبل الصفيح» مثلا، والتي جاءت بعد حيازته نوبل للآداب، في حين أن نسخ كتبه الأخرى لا تزال موجودة بأعداد كبيرة في مستودعات دور النشر)، وذلك على خلاف مواقفه السياسية التي كانت تجد أصداء عالية، وبخاصة إحدى قصائده الأخيرة ـ «ما يجب قوله» ـ التي نشرها في العام 2012 التي يتحدث فيها عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي، من دون أن ننسى بيانات بعض «المثقفين العرب» المتعددة التي تضامنت معه بعد أن أعلن في العام 2006 حين اعترف في مذكراته «تقشير البصلة» أنه انتمى إلى الشبيبة النازية.. إذ بعد ما أثاره ذاك التصريح من مواقف مهاجمة لغراس على إخفائه الحقيقة كل تلك الفترة على الأقل، اعتبر بعض المثقفين عندنا إنها حملة لتشويه «مواقفه النضالية»!!!
لكن، ومع ذلك كله، عرف غونتر غراس كيف يصبح «وعي ألمانيا التاريخي» ـ إذا جاز القول ـلأنه أرّق الألمان منذ نهاية الحرب الثانية. قد يكون «مُحرّضا»، لكن في العمق، لم يكن تحريضه سوى تساؤل عميق عن المجتمع وعن النسق السياسي القائم في بلاده. بمعنى آخر، تبدو كتابات غونتر غراس كأنها الانعكاس المباشر لآلية المجتمع وصيرورته في كلّ تجلياته. هذا الانعكاس الذي يستمر عبر «مراقبة ومعاقبة»، (في ما لو استعرنا أحد عناوين كتب ميشال فوكو)، هذه «البانوراما الغريبة» للتاريخ الألماني.
ضد التوحيد
من هنا أسمى البعض غراس «المتربص الجاثم فوق برج غوطي». ومن فوق هذا البرج عاد ليصوغ، على شكل بيانات «كاتب للعدل»، عالم سنوات النازية في «الطبل الصفيح»، و «سنوات الكلاب».. وربما أيضا لعب دور المؤرخ في كتابه «حقل فسيح» (1995) الذي تحدث فيه عن «مشكلة» إعادة توحيد ألمانيا التي كانت من أولى الروايات التي تعرضت لإعادة التوحيد هذه.
يومها، أثارت «حقل فسيح» الكثير من الحبر مثلما أثارت الكثير من الضجة. إذ بينما كان الجميع «يفرحون» بهذا «العيد»، خالف غراس كلّ التوقعات ليتحدث عن استعمار «ألمانيا الغربية» لألمانيا الشرقية، بمعنى أن سقوط جدار برلين لم يكن سوى الشرارة التي جاءت بنوع جديد من الاستعمار. ما دفع الغالبية لاتهامه بمعاداة الحلم الألماني الكبير. أضف إلى إن «بابا» النقد الألماني المعاصر مارسيل رايخ رانيكي ظهر على غلاف مجلة «دير شبيغل» وهو يُمزّق كتاب غراس هذا. وبعيدا عن الدعاية التي جلبتها هذه الصورة للكتاب، إلا أن كثيرين اعتبروها بمثابة فضيحة حقيقية، إذ كانت تصب رأساً في بلورة هذا المفهوم الذي أرساه المستشار الأسبق هلموت كول، الذي اعتبر نفسه صانع النصر التاريخي، وموحد ألمانيا في العصر الحديث. هذا «التاريخ» كان حاضرا أيضا في مجموعته القصصية «مئويتي»، إذ قدم في مئة قصة قصيرة، مئة حادثة تمتُّ بصلة وثيقة إلى المجتمع الألماني، معتبراً أن كلّ قصة تعود إلى سنة واحدة، منذ بداية القرن العشرين إلى نهايته. صحيح أن الكتاب تعرض للنقد، إذ لم يرضَ البعض بخيارات غراس أو اختياراته، لكنه بقي «نقد معتدل» إذا جاز القول، فالكتاب صدر بعد حيازته جائزة نوبل العام 1999، وجاءت احتفالات الفوز لتطغى على كلّ شيء، وبخاصة على النقد الذي يمكن أن يوجه إليه.
في خطو السرطان
لكن الجائزة وما صاحبها من تكريم، لم تدفع غونتر غراس إلى «التعقل» مثلما اعتقد البعض آنذاك. ففي العام 2002 عاد ليتبوأ الصفحات الأولى في الإعلام، بعد نشره رواية «في خطو السرطان». مرّة جديدة، كسر غراس في روايته هذه مُحرّما من مُحرّمات المجتمع الألماني وسياسته. عاد ليتحدث فيها عن السفينة «فيلهلم غوستلوف» التي غرقت يوم 30 كانون الثاني من العام 1945 في مياه البلطيق الباردة وعلى متنها تسعة آلاف شخص، بينهم 4000 آلاف امرأة وطفل، وغالبيتهم من المدنيين الألمان الذين حاولوا الهرب من تقدم الجيش الأحمر إلى الجبهة «البروسية الشرقية».
روى غراس قصة هذه السفينة، بدءا من عملية بنائها إلى وقت غرقها، عبر إعادة تركيبه تاريخ الشخصيات المتداخلة في هذه القضية من خلال كَمّ مهيب من التفاصيل الصغيرة. فسفينة «الغوستلوف» بجسورها الثمانية المتقابلة وصالات ألعابها وصالوناتها وحوض السباحة الذي فيها وتجهيزاتها غير العادية، و «حاناتها» كانت أشبه بالقصر العائم الممثل «للقومية الاشتراكية». أضف إلى ذلك كلّه، رحلاتها الأربع والأربعين التي قامت بها إلى النرويج بين العام 1937، تاريخ بدئها بالعمل وتاريخ تحويلها إلى مستشفى عائم خلال سنوات الحرب. وما ذلك كلّه إلاّ تورية وتلخيصا «للسنين الظافرة» التي تمتع بها الرايخ الثالث.
لغاية اليوم لا تزال عملية الغرق هذه من أكبر عمليات الغرق في التاريخ البحري من حيث عدد الموتى الهائل كما من حيث الوسيلة، إذ إن الرعب يكمن في إطلاق «غواصة سوفياتية لطوربيد بحري، بدماء باردة ومن دون أي شعور بالذنب». لهذا ربما تعتبر قصة غرق «التيتانيك» (العام 1912) أمام هذه الكارثة بمثابة «مزحة» (لو جاز القول)، إذ كان عدد الضحايا 1513 ضحية.
ثمة رسالة قاطعة بثها غراس في روايته هذه ومفادها: «صحيح أن ألمانيا النازية وَلّدت الكثير من الرعب (في ألمانيا كما في العالم)، لكن هناك العديد من الألمان، وبخاصة الملايين من اللاجئين الذين هربوا من تقدم الجيش الأحمر، قد تعرضوا بدورهم إلى هذا الرعب...». رسالة غراس هذه أعادت وأيقظت، علانية هذه المرة، ذلك الجدال الخافت الذي كان بدأ قبل نصف قرن تقريباً، والذي تجنبه المثقفون الألمان وبخاصة (أهل اليسار منهم) إذ كانوا يخشون الوقوع في «نوع من الجلد الذاتي».
الصمت على هذه الحادثة، قد يُفهم من نواح عدة: لم يكن «السوفيات» بحاجة إلى جعل قبطان الغواصة (التي أطلقت الطوربيد البحري) بطلا قوميا، بعد أن أغرق هذه الباخرة وعلى متنها كلّ هؤلاء المدنيين. «الغربيون» بدورهم ـ وبعد أن اكتشفوا مخيمات النازية المليئة بالتعذيب والخجل والعار ـ كان من الصعب عليهم تحويل الغرقى الألمان إلى ضحايا تملك الوزن ذاته. إذاً، وأمام هذه الظروف كلّها، تمّ التغاضي عن لحظة ما من لحظات التاريخ على الرغم من أنها لحظة مليئة بألوف الجثث. من هنا استطاع صديق المستشار ويلي براندت، القديم، والمناضل في «صفوف الحزب الديموقراطي الاشتراكي»، وحائز «نوبل للآداب» أن يتحدث عن هذا الموضوع من دون أن يُتهم بالقومية والنازية. (كان ذلك قبل كتاب «تقشير البصلة»).
يرحل غونتر غراس ومعه ترحل صفحة كبيرة من الأدب الألماني المعاصر. أكنّا معه أم ضده، إلا أن ثمة أمرا لا يمكن تجنبه: لقد عرف الكاتب كيف يكون حاضرا في قلب عصره، في قلب نقاشاته المتعددة والمتنوعة. ما من قضية إلا وكان له رأي فيها، حتى وإن لم يكن دائما على صواب في تحليله. باختصار، كان غراس ابن شرطه التاريخي، وقد اضطلع بهذا الشرط إلى آخر لحظات حياته.