"الشونكا" اليابانية
فن الاحتفاء بـ(لذة الجسد)
فيء ناصر
تكاد تكون معرفتنا بفن الإيروتيك الياباني المعروف بـ(شونكا/ Shunga) معدومة. المتحف البريطاني يُتيح لزائريه فرصة نادرة لتذوق ومعرفة هذا الفن عبر معرض عن مطبوعات ورسومات شاملة لطرائقه وآدابه المكشوفة والساخرة أحياناً، ويُمَكّن الزائرين من مشاهدة اللحظات الحميمية لليابانيين في الوقت الذي كانت اليابان معزولة عن العالم.
المطبوعات المصورة مزيج من الإبداع الفني الراقي والتصوير الذي لا يترك شيئاً للمخيلة.
معظم اللوحات، طبعت على رقائق من لحاء الاشجار. طبعت في طوكيو في القرون، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وتستعرض هذه الرقائق الخشبية الملونة مجموعة كبيرة ومتنوعة من النشاطات الإنسانية والجنسية وكل ما يتعلق بالمتعة و"الإيروتيك"، بتفاصيل صريحة جداً، مما جعل دخول المعرض مقتصراً على من هم + 16.
لم يسبق أن عُرضتْ هذه الصور في أي متحف آخر نظراً لمحتواها "الفاحش"، لكن إدارة المتحف البريطاني ارتأت عرض صور "الشونكا" كنوع من أنواع الفنون الشعبية الأنيقة، التي تقدم نظرة ثاقبة للحياة الجنسية والتمايز بين النساء والرجال في المجتمع الياباني في اولى مراحل تطوره.
ومفردة (Shunga/ شونكا) تعني باللغة اليابانية (صور الربيع)، وهي استعارة عن الفن الإيروتيكي الذي ازدهر نتيجة النمو السكاني لمدينة طوكيو التي كانت تسمى (إيدو)، حيث كانت المتاجرة بالجنس منتشرة فالنساء الفقيرات غالباً ما كّن يمارسن البغاء بإشراف من عوائلهن أو يعملن كمحظيات في بيوت الأثرياء.
في تلك الفترة كان المجتمع الياباني يعاني من الطبقية وعدم المساواة بين الجنسين، القوانين "الكونفوشية" الصارمة التي تركز على الواجبات وتكبح النوازع، تحكم الحياة الرسمية لكن الحياة الخاصة للأفراد كانت أقل صرامة بكثير.
رغم أن هذا الفن منع رسمياً بعد العام 1722، لكن طباعة صور "الشونكا" ازدهرت بين هذين العالمين، عالم الصرامة الكونفوشية وعالم الإنعتاق الخاص. واستمر تداول هذه المطبوعات بعيداً عن الرقابة ولم تتعرض للنقد الرسمي.
ويسمى هذا الفن الإيروتيكي أحيانا بـ(صور الوسادة /pillow picture) وهي حكايات ومطبوعات، تصور رجالاً ونساءً يستمتعون بالحياة والجنس في وضعيات عديدة وتبتعد عن تصوير الجنس بالإكراه أو مشاهد الإغتصاب.
وهناك أيضا رسومات تصور الجنس "المثلي" الذكوري والأنثوي، أو تصور مجموعة أناس منغمسون في الجنس الجماعي أو اللهو.
ساهمت مطبوعات "الشونكا" في التربية الجنسية لليابانيين، لأن طباعتها غير مكلفة، وبمقدور أي فرد ينتمي للطبقة الوسطى أن يشتريها. كانت الأمهات تورثها أو تهديها للبنات اللواتي على وشك الزواج. (لقد سَرقتْ نظرة/ من صور الوسادة/ خلف مخدع عرسها)*.
هذه اللوحات تصور مكامن الجمال للناس العاديين، ومحاربي الساموراي والراهبات والرهبان، أو حتى تقنص الجمال الخافت في الشيوخ، وهي احتفال بالحب الحر وسط الطبيعة الجميلة والمتخفف من العواقب والقيود.
الأجساد البشرية في مطبوعات "الشونكا" ليست مثالية الجمال والتكوين، كما هي في منحوتات الحضارة الإغريقية والرومانية، وهو دليل على اختلاف معايير الجمال في شرق آسيا.
الصور الأولى في هذا المعرض يعود تاريخها إلى سنة 1600م، هي رسوم على شكل مخطوطات ملفوفة، كما رسائل البردي القديمة، سبقت الطباعة تمثل رجلاً ضخماً، يبدأ باستخدام الفرشاة برسم مشهد مباراة لقياس طول العضو الذكري لمجموعة من الرجال، ووفقاً لاقتباس من أحد الرسومات في هذه المجموعة يظهر أنه لاعلاقة لهذه المباراة بالحقيقة الفسيولوجية بقدر ما هو نزوع جماعي لنزوة تأكيد الذكورة: (اذا كان "الشيء" يُصَور في حجمه الطبيعي فلن يكون مثيراً للاهتمام، ألم نقلْ إن الفن هو الخيال).
غالبية الصور تبهر عين المشاهد، وتقودها عبر مسالك التناقض بين الملابس المزركشة الفاخرة والأجساد الانيقة البيضاء، التي تظهر أجزاءً منها فقط في حالة نشوة مطلقة.
وضعية الأجساد الفسيولوجية تقترح حالة الإستمتاع القصوى، التشابه بين وجوه النساء المنتشيات وبين وجوه الرجال الرقيقة، تضيف رعشة مربكة إلى سلسلة لوحات الفنانين (شن جو/ Shuncho)، (هوكوساي/ Hokusai) وغيرهم من الفنانين المعروضين في هذا المعرض.
وبرؤية حداثوية، ربما تمثل "الشونكا" رسوماً كاريكاتورية يابانية لها طابع جنسي فاضح، ورغم ذلك فانها لا تظهر الأجساد عاريةً، لانها تريد من المتلقي أن يستشف هذه الأجساد وهي تتناغم مع الملابس المزيّنة بالزهور وما يحيط بها من أثاث ونوافذ وأشجار وطيور وآلات موسيقية وغيرها من وسائل الحياة اليومية.
ويبدو أن الملابس الحريرية المزينة بالرسوم والزهور بالنسبة لليابانين أكثر إثارة من الجسد العاري الذي ربما يوحي إلى الاستحمام في حمام عام.
مثلا لوحة تمثل أحد مقاتلي الساموراي يضع سيفيه على جنب ويستلقي مع امرأة ثرية تحت غطاء مزين برسم لديك متوثب وريشه الملون منثور على كافة جوانب الغطاء. (عبق براعم زهور الخوخ/ حراس المعبد/ فم مفتوح وفم مغلق/ الضحكة الأولى لبداية العام الجديد).
لوحات ملونة ومنثورة برذاذ ذهبي فضي ببذخ وأناقة وبمزيج متناقض من الألوان والأنسجة والأنماط مع تداخل الأعضاء التناسلية للرجال والنساء، ذلك التداخل الذي لا يوحي بل يصور بشكل فاضح وصريح.
في منتصف سلسة الفنان وشاعر الهايكو المتوفي سنة 1806(كيتاكاوا اتامارو/ Kitagawa Utamaro) المعنونة (قصيدة الوسادة)، وهي أكثر الأعمال المتسلسة أناقة، سنفاجأ بمنظر لمباشرة جنسية تُرى من خلف خصيتين مشعرتين وشرستين، لكن هذه الصدمة هي جوهر فن "الشونكا" الذي يمزج الجنس مع الفكاهة، على خلاف فن العصور الوسطى في أوربا حيث الفن غالباً يدور في دائرة الكنيسة والدين.
يزين هذا الفنان مطبوعاته بهوامش شعرية مثل: (رغم قلقي/ وعدم قدرتي على معرفة ما تخفي في قلبك/ فإني أمنحك جسدي).
لم يبخس فن "الشونكا" حق المرأة بالمتعة، هناك مطبوعات كأنها أُنتجَتْ للمرأة تحديداً. مثلا مطبوعات من القرن السابع عشر لفنان مجهول بعنوان (راهب في صندوق) تصور راهبة بوذية حليقة الرأس تماماُ في عدة مشاهد، تزرع هذه الراهبة نفسها فوق عضو ذكري يبرز من كيس كبير كأنه هدية من هدايا أعياد الميلاد.
وبالتتابع نتبين أن الكيس المزين بالزهور والريش يخفي بداخله رجلا عارم الشهوة، ومن المستحيل أن يمر المشاهد دون أن يبتسم لهذه الحكايات الطريفة، نعم فقد كانت النسخ القديمة من "الشونكا" تسمى بـ"الصور المضحكة"، لكن هناك حكايات تستلهم الخيال المرعب في تصوير متع الجسد مثل تلك اللوحة الغريبة التي تصور امرأة "غطاسة" للبحث عن اللؤلؤ وهي تستمتع بمارسة الجنس مع أخطبوط.
أزيلت آثار "الشونكا" من الذاكرة الشعبية والرسمية في اليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين، وصارت نوعا من أنواع "التابو"، لكن في ذات الوقت أُكتشفَ فن "الشونكا" في أوربا وأميركا، وجمع بعض الفنانين مطبوعاته بحماس مثل هنري لوتريك وبيردسلي ورودان وبيكاسو.
(منقاره أُسر بشراسة في المحارة الرائقة/ طائر الشنقب لن يستطيع التحليق في الليلة الخريفية).
عندما ستنتهي فترة معرض "الشونكا" في المتحف البريطاني في كانون الثاني الجاري سوف ينتقل إلى عدة عواصم أخرى، ومن ضمنها طوكيو.